قراءة أولى في المسرح الرحباني الجديد منصور وأولاده

قراءة أولى في المسرح الرحباني الجديد منصور وأولاده

لا شك في أن التحدي الأكبر الذي كان أمام منصور كان في إبقاء نفسه، ومن خلاله، الفن الرحباني داخل هذه المعادلة بقوة، رُغم أنه كان قد تجرّد من ركنين أساسيين: هما عاصي وفيروز.

كان لابد للرجل أن يقف وقفة تأمل وتفكير عميقين، فهو أمام تحدّ مزدوج: هل يتوقف، أم يتابع؟ فإذا توقّف، يُتَّهم بالتقصير بعدم إبقاء الاستمرارية في المسيرة الرحبانية التي يجب أن تستمر. وإذا تابع وحيداً، فالمسئولية أكبر في الحفاظ على بهاء المؤسسة الرحبانية وفاعليتها وتاريخها.

وهو كان يعرف بالطبع أنه تحت سيف المقارنة بين ما كان وما سيكون. ومع ذلك قَبِل التحدي ومشى وحده ثلاثة وعشرين عاما، ظل يقرأ ويؤلف ويلحن بشغف يؤازره أولاده الشباب بعقولهم وقلوبهم، وفوق ذلك بأحساسهم بأنهم أصبحوا معنيين في لعبة التحدي هذه، بل هم في واجهتها، فتأبطوا إيمانهم وثقافتهم الموسيقية ونبض شبابهم وساروا تحت لواء الأب والمعلم.

وكأني بهم جميعاً قد حيّدوا الاهتمام بكتابة الأغاني المنفردة كلاماً ولحناً، واختاروا المسرح بكل ما في المسرح من صعوبة وتعقيدات وتحد مجالاً لمتابعة طريق الإبداع. فكانت الحصيلة إحدى عشرة مسرحية هي بحسب تسلسلها التاريخي:

1 - صيف 840 (1987).
2 - الوصية (1993).
3 - آخر أيام سقراط (1998).
4 - وقام في اليوم الثالث (2000).
5 - أبو الطيب المتنبي (2001).
6 - ملوك الطوائف (2003).
7 - حكم الرعيان (2004).
8 - آخر يوم (2004).
9 - جبران والنبي (2005).
10 - زنوبيا (2007).
11 - عودة الفينيق (2008) (2009).

بم تتميز هذه الأعمال؟

في قراءة سريعة يمكن أن نستخلص الملامح البارزة التي تتميز بها هذه الأعمال، والنقاط التي تختلف فيها عن المسرحيات الرحبانية السابقة.

فهي كما تدل عناوينها مأخوذة في معظمها من مرويات التاريخ، وتحديداً من سير بعض عظمائه. ثم تركز على السمات الذرى من خصائصها. بمعنى أنها تعيد تصوير كائنات، وإن كانت تحيا بإردات متصارعة، وأهواء متضاربة، لكنها تسير نحو نهاية مقرّرة، وتتماهى في غلاف ملحمي، تزجيه مجموعة من المفردات التي سبق تداولها في المسرح الرحباني مثل: رايات الحرية، شعوب الأرض، الزمان اللي جايي، متوّج بالخطر، هدير الريح، متوج بالريح الغامض، الثورة والثوار، صهيل الخيل، السيوف اللي عمتلمع، ملوك الأرض، وغيرها من المفردات التي تصلح لمناخ ملحمي.

واستطراداً للعلاقة بالتاريخ، فقد جاءت هذه الأعمال لتعيد توثيق محطات ومواقف من التاريخ من منظار خاص بمؤلفه، في حين كانت الأعمال الأولى ذات المحور القروي، تهتم بتوثيق الجانب الشعبي منه بما فيه من عادات وتقاليد وفولكلور، القيم التي لم يعد يتطرق إليها بصراحة المسرح الرحباني الجديد.

ففي رأينا أن المسرح الرحباني الأول بُني على محورين، محور القرية ومحور المدينة.

الأول يُبرز المناخ القروي بكامل وجوهه وملامحه وتفاصيله، وما أغناها، والثاني مناخ المدينة ومشكلاتها الطارئة على أشخاص رحبانية بريئة في الأساس وعفوية تقع ضحية هذا الواقع الجديد المليء بالتناقضات بأشكالها كافة. لكن المسرح الجديد خرج في إطار هذين المحورين وتوجه إلى محور أوسع وأشمل، مداه التاريخ وأبطاله عظماء من هذا العالم، يحملون هموم الإنسان في كل زمان ومكان: فيلسوف كوني من مساقط الغيث الإغريقي، وإله كوني من مساقط الغيث السماوي، وشاعر ملأ الدنيا وشغل الناس، وملكة حُفر اسمها في التاريخ، وأديب لبناني الأصل عالمي الوهج، ورموز من الميثولوجيا، هؤلاء من أراد منصور أن يتحاور معهم، ويناقش أفكارهم، ويستخلص تعاليمهم، ويستنطقهم بلغة خاصة تزاوج الشعر والنثر والموسيقى. إنها مهمة لا يتجرأ عليها سوى من مَلَك مخزوناً جمّاً من الثقافة، وخبرة غنيّة من الحياة، وثقة كبيرة بالنفس بعد انكباب على القراءة والتنقيب في المراجع ليتمكن من تقصي الأحداث من جانبها الصحيح، ثم يصورها بلباقة ومرونة ويقربها من القارئ والمشاهد ويضيف إليها الإسقاطات والمقربات بحذاقة الشاعر الدرامي المجرب حتى تؤتي معانيها الانتقادية وأهدافها الاجتماعية، فتشعر كأن وقائعها إنما تحدث في ساعتها وليس في الزمن الغابر، فإذا ذكرياتها تقوم وتقعد في خواطرنا.

ولكن يجب التوكيد على أن هذا المسرح وإن كان قد وسّع إطار اهتماماته إلا أنه أبقى على الأفكار الأساسية التي قام عليها الفكر الرحباني عموماً.

أمر آخر فعله المسرح الرحباني الجدي، وهو الاحتفاظ بالبعد الدرامي للنص والحبكة، فلم ينحُ إلى الشكل الاستعراضي البراني الأجوف، بل بقي للنص البنية الدرامية مع مجموعة من الشخصيات الضرورية الأساسية منها والثانوية، وأبقى الأغنية تسير في سياقها الدرامي المطلوب لتبقى جزءاً من الحالة الانفعالية للشخصية وموقفاً مبرّراً بشكل عام، في حين كانت الأعمال الأولى تسمح لفيروز من وقت لآخر بأن تؤدي أغنيات منفردة تبدو كأنها خارجة عن سياق البنية الدرامية ومنطق المعالجة السليمة للشخصية، وهذا ما حسبه بعض نقاد تلك الحقبة نقصاً وعيباً.

المعنى الإنساني

والحقيقة، أن الأغنية الفيروزية لم تكن بعيدة عن السياق الدرامي إلى هذه الدرجة، بل كانت في صلب المعنى الإنساني العام. فعندما غنّت «سوا ربينا» في الشخص، لم تكن تناجي عربة الخضار التي كانت تسترزق منها في بيع البندورة، بل بدت الأغنية كأنها تعبير عن حالة فراق أليم بين عاشق ومعشوق، وتلك حالة عامة تصب في المعنى الإنساني والوجداني الذي دارت حوله حكاية المسرحية. وكذلك عندما تغني «يادارة دوري فينا» في المحطة فقد كانت تعبر عن قلق الإنسان من الكبر والسقوط في النسيان، «تعا تنتخبا من درب الأعمار - وإذا هني كبروا ونحن بقينا زغار - وسألونا وين كنتوا - وليش ما كبرتوا إنتوا - منقلن نسينا» والتقدم في العمر مصدر قلق لكل إنسان في كل زمان ومكان. وعندما غنّت «إيماني ساطع يا بحر الليل - إيماني الشمس المدى والليل - ما بيتكسر إيماني - ولا بيتعب إيماني»، كانت تنهد إلى حالة إيمانية تشد معها مشاعر المؤمنين إلى مراتب سامية من الانعتاق والتطهر الروحي.

بهذا المعنى، كان الناس يقبلون من فيروز الخروج عن سياق النص، ظاهراً، لأن الأغنية كانت تعوض في معانيها عن ذلك الانكسار في السياق إذا حصل. وتالياً، فإن غناء فيروز كان كافياً بذاته لإشباع توقهم إلى صورتها وحضورها.

والموسيقى، لولب المسرح الغنائي، وقد تبادع الأخوان عاصي ومنصور في صناعتها وصقلها وألباسها لبوساً روحانياً مشرقياً، وتمكنا من خلالها من لجم التأثير المصري على الأغنية اللبنانية الذي كان طاغياً في تلك الحقبة. هذه الموسيقى خضعت أيضاً بدورها لتغيير واضح قاده غدي وأسامة، كمؤلف موسيقي، أراد أسامة أن تكون له شخصيته المتميزة، فأكّد على ربط الموسيقى بالأبعاد الدرامية للنص وتحوّلاته كافة، فجاءت ذات عصب متوتر ومتطلب في الغناء والعزف معاً، وجرأة في مد المساحات الصوتية، وتنقل نابض متسارع بين السلالم وهو ما يسمى في علم الموسيقى بالـ modulation، وحاول أن يحافـظ على الميلوديا الشرقية من خلال تقنية غربية الطابع.

تجديدات موسيقية

فكان لابد لهذا الجديد في التأليف الموسيقي للمسرحية الرحبانية الجديدة أن يُحدث تحولات بيّنة اختلفت عن الخط الموسيقي الرحباني المألوف إلى حد بعيد، فاختفت بالدرجة الأولى شحنات الطرب المشرّبة بالألحان الشرقية والبيزنطية والسريانية، وكذلك الألحان ذات المناخ الشعبي والفولكلوري مثل الميجانا والعتابا والماني والقراديات الشعبية التي كانت من لوازم مسرح غنائي كانت صورة لزمانه وعالمه، وهي صورة جميلة ولاشك، إلا أن الأجيال تتعاقب وكل جيل يحمل معه ثقافته ومفاهيمه وشروطه، وهذا من سنّة التطوّر. وكذلك الظروف الاجتماعية والسياسية تتغير وتفرض قوانينها. فلم تعد الضيعة كما صوّرها مسرح الأخوين رحباني في براءتها وبساطة ناسها وعاداتها وتقاليدها، في أفراحها وأحزانها وسهراتها سوى صورة ضعفت ملامحها إلى حد بعيد أمام صور جديدة حملتها العلوم الحديثة والعولمة والانفتاح وتطور وسائل الاتصال وغيرها، فلم يعد بالإمكان العودة إلى تلك الضيعة إلا من طريق الخيال والحنين.

إلا أن هذا التجديد الموسيقي لم يمر من دون أن يترك، على ما يبدو، إشكالية حادة لدى الناس في قدرة هذه الموسيقى على التوفيق بين جيلين، وإمكانها في الوقت نفسه من أن تجد طريقاً سالكاً بأمان إلى وجدان الناس بحيث تعيش معهم في خواطرهم وتمسّ منهم على الدوام مواضع الشغف والحنين كما كانت موسيقى الأخوين تفعل، ولاتزال.

أمر آخر لا يمكن أن نتناساه ونحن نتحدث عن المسرح الرحباني الأول، إنه الحضور الفيروزي الطاغي صورة وأداء ورمزاً، فيروز التي كان حضورها كافياً بذاته سواء غنت أم مثلت. إنها البطلة التي كان الفكر الرحباني يتنفس من خلالها. ومعها وحولها كانت تتمحور الأحداث والأفكار والمواقف، حتى بدا المسرح حالة رحبانية بشعاع فيروزي.

إن بطلة كهذه لابد وأن يترك غيابها فراغاً موجعاً على المسرح الرحباني بعامة، كان من المستحيل تعويضه. وقد بدأ هذا الغياب يظهر منذ «المؤامرة مستمرة» سنة 1980 «والربيع السابع» سنة 1981. وما لاشك فيه أن منصور كان يدرك أهمية هذا الغياب وصعوبة ملئه بفنان أو فنانة من طينة فيروز. وياليت فيروز وحدها. فحول فيروز كانت هناك مجموعة من فنانين كبار أيضاً تركوا بصمات واضحة في المسرح والفن الرحباني عموماً أمثال: فيلمون وهبي ونصري شمس الدين ووليم حسواني وإيلي شويري وجوزيف ناصيف. مجموعة طيبة من فنانين أصليين ثبت حبهم وقبولهم في وجدان الناس، فكيف التعويض عنهم؟ لاشك أنها معضلة كبرى واجهها منصور. لكن منصور أدرك أيضاً أن هذه هي سُنة الحياة والتطور وهو الذي يقول في «القصور المائية»: إذا سيطر الأجداد وقمعوا الأجيال التي تحاول تثبيت مفاهيمها التغييرية، يذبل بهاء العالم وتنطفئ شمس الفرح في الإنسان «فلم يعدم إيجاد فريق جديد من الفنانين وفي طليعتهم غسان صليبا وكارول سماحة وبقيت هدى وأنطوان كرباج صلة وصل بين الجيلين. إلى جانب مجموعة من الممثلين والممثلات الشباب كان لابد من تكريسهم ومسحهم بميرون الروح الرحباني والعمل على تجذيرهم في وجدان الناس، وتالياً تقبل الناس لهم وعدم اعتبارهم دخلاء يشوّشون على ذاكرتهم الحاملة صوراً بهية من الزمن الجميل.

 

 

نبيل أبومراد 





غدي الرحباني





مروان الرحباني





أسامة الرحباني





مسرح الرحبانية مسرح استعراضي شامل يستخدم كل المفردات الفنية من موسيقى ورقص وغناء، ونرى هنا الفنانة اللبنانية الشهيرة ورد الخال وهي تشارك المجموعة بالرقص





يستغل الرحبانية في أعمالهم كل المفردات الفنية الموجودة في الفلكلور اللبناني، والمجموعة هنا تؤدي رقصة الدبكة الشهيرة وفق إيقاعات جديدة