الرحباني في حكم الرعيان.. الوطن يطير أيضاً

الرحباني في حكم الرعيان.. الوطن يطير أيضاً

بعد مسرحيات آخر يوم وملوك الطوائف وأبوالطيب المتنبي وقام في اليوم الثالث وانطولوجيا رحبانية والوصية وصيف 84، عاد إلينا الثمانيني منصور الرحباني بشباب متقد ليقدم لنا عملاً جديداً، هو مسرحيته الغنائية «حكم الرعيان» تأليفا وتلحينا ومسرحة وهي من إخراج مروان الرحباني.

حكم الرعيان هي رحلة الى مملكة كرمستان الموجودة وغير الموجودة.. البعيدة وغير البعيدة.. وهي على امتداد شرقنا والأوطان المرسومة عليه. وقبل الدخول إليها يطلب منك صانعها منصور الرحباني ألا تزعل منه إذا جرحتك مسرحيته لأنها يجب أن تجرحك وإلا لماذا كل هذا الغناء والرقص والفرح، ويضيف «جئت لأصرخ فيكم لأقلق نومكم، لأرفع صوتي تحت سماء صارخة الزرقة».

لقد تسنى لنا حضور مسرحية حكم الرعيان التي عرضت في مهرجان الدوحة الثقافي الرابع 2005م على مسرح الدفنة الذي يتوافر فيه بعد نظري ساحر يضفي على أجواء المسرحية الكثير من الواقعية والاستيعاب للرقصات الاستعراضية، يقف خلفها جيش جرار قوامه ثلاثمائة شخص ما بين فنان ومصمم وتقني، على المسرح وخلفه.

ولي عهد كرمستان

كرمستان مملكة يحكمها ملك مستبد غريب الأطوار هو رعد الثالث (يلعب دوره الفنان انطوان كرباج) وهو لم ينجب ولدا كي يصبح وليا للعهد لانه من الأساس يرفض فكرة الانجاب، وإخوته جميعهم قضوا في حوادث غريبة!، وبعد أن طالبته المعارضة بضرورة تعيين ولي للعهد كان رد الملك رعد الثالث أنه لا يثق بأحد وليس هناك من أحد كفؤ لهذا المنصب.

واعتاد الملك أن يشرب صباح كل يوم ست أواق من حليب العنز تجلبه له خصيصا جاريته ست الحسن (تلعب دورها الفنانة التونسية لطيفة) لانه يعتقد أن ذلك الحليب يزيده قوة وحيوية، وفي أحد الصباحات سمعت الجارية الراعي سعدون (يلعب دوره الفنان رفيق علي أحمد) ينشد البيت التالي باللهجة اللبنانية:

حكم زاد على كتابي حكمتك
وكنت مرضان وداوتني حكمتك
وكرمستان لوصار وحكمتك
لمشي الذيب والعنزة سوا

وذلك في دلالة على عدله وحسن تدبيره. ست الحسن عندما سمعت ذلك الكلام الانقلابي ذهبت من فورها لتخبر الملك بما سمعته. الغريب أن رعد الثالث بدلا من أن يغضب ويثور كعادته وجد في ذلك الخبر مخرجا مؤقتا لمأزق ولاية العهد، وفكر بتخدير مطالبات المعارضة والشعب بأن يأتيهم بملك لا يفقه شيئا ويحكم هو من خلف الستار.

وأحضر الراعي ليمثل أمام الملك، والأخير وضع شروطه، إذا نجح سعدون بحكم البلاد لمدة سنة ومشى الذئب بجانب العنزة بكل حب ووئام، فإنه سيسمح له برعي عنزاته في جميع أرجاء المملكة. وإلا كان نصيبه الحبس أو ربما الاختفاء في ظروف غامضة.

كان أول من اعترض على تلك الفكرة المحفوفة بالمخاطر، ملكة كرمستان الحسناء (ولعبت دورها الفنانة ورد الخال) فهي لا تريد خسارة مكانتها السياسية والاجتماعية وتذهب مع زوجها إلى المجهول، ويبدو أنها استشاطت غيظا عندما رأت زوجها الملك يتساهل في تسليم السلطة لراعي غنم بسيط وهو من أمر بوضع جهاز تنبيه أسفل كرسي الحكم يعمل بمجرد جلوس أي شخص غيره. لقد تم تعريف حكم الرعيان في أكثر مناسبة بأنها قصة غير واقعية وحكاية لا تخضع لمنطق، لذلك أمكن تمرير مشروع رعد الثالث على أذهان جمهور المسرحية إذ كيف يعقل أن يسلم الحكم لمن هو خارج الدم والنسب في أي نظام وراثي ؟ ولكنها في حكم الرعيان حدثت وقبل سعدون الراعي التحدي وتسلم مقاليد الحكم وصمتت المعارضة والشعب معها!

وخلال فترة وجيزة استطاع الملك الراعي أن يسوس البلاد والعباد على أفضل صورة، وعامة الناس مالوا إليه وأحبوه بفضل عدله وبساطته. هذه الأخبار المزعجة وصلت الى الملك المنكفئ في مكان بعيد، على ملكه من الزوال على يد الراعي سعدون فيقرر العودة ولكنه يعجز عن ذلك لعدم انقضاء مدة الاتفاق بينه وبين الملك المؤقت، وهنا نلاحظ جانبا من اللامعقول قد ألقى بظلاله على هذا المشهد، فمنذ متى يلتزم الطغاة ورعد الثالث أحدهم بالعهود والمواثيق، ولكنها إرادة الرحباني التي جعلت من ملكنا رعد الثالث عاجزا ولأول مرة عن فعل ما يشاء وفاقدا للحيلة التي ستغطي غايته الحقيقية.

الحل جاء هذه المرة نسويا فقد اقترحت ملكة كرمستان على زوجها إدخال الجارية ست الحسن في حياة سعدون، النظيفة، بهدف إفساده وصرفه عن شئون الرعية بالانغماس بالملذات، وبالفعل ذهبت ست الحسن لتنفذ خطة الملكة إلا أنها بعد مدة قصيرة، تتراجع وتكشف لسعدون الراعي سر وجودها معه بعد أن اكتشفت حقيقة شخصيتة الخيرة.. والآن انقلب السحر على الساحر.. فما العمل؟

وتزداد سخونة الأحداث مع نهاية المسرحية، حيث يقوم الملك رعد الثالث بالاتفاق سرا مع المعارضة على نشر الفوضى وتاليب الناس على الملك سعدون، والأخير خشية منه على أرواح الناس يقرر ترك الحكم قبل موعد انتهاء السنة بثلاثة أشهر، الشعب الذي تذوق طعم الحرية والرخاء على يد الملك سعدون الراعي يرفض قراره ويتمسك به، الملك رعد الثالث يريد العودة إلى كرسي الحكم، رئيس المعارضة يريد تغيير نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، سعدون الراعي حائر متردد بين محبة الشعب له وخشيته عليهم.

حالة من التوهان تعيشها أحداث الثواني الأخيرة من حكم الرعيان، وفجاة تأتي نهاية المسرحية مخالفة لأي منطق أو توقع... كرسي الحكم يحلق طائرا من مكانه وأبطال المسرحية بصوت واحد يصيحون (انتبهوا كمان الوطن بيطير).

 

 

إبراهيم المليفي 





لطيفة أو ست الحسن كما تقوم بدورها في حكم الرعيان بعد أن دخلت في لعبة الحكم والمؤامرة