منتديات النساء الأدبية رابح لطفي جمعة

قبل أن تبدأ صالونات الأدب النسوية في أوربا بعشرات القرون، كانت للنساء العربيات منتدياتهن الأدبية. وهذه لمحة إلى تلك الظاهرة المدهشة.

يعتقد كثيرون أن المنتديات الأدبية أو ما يعرف عند الغربيين ب "الصلونات الأدبية" من أفكار الأوربيين حيث كانت هذه المنتديات من أهم عناصر الحياة الاجتماعية والثقافية في فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كصالون مدام دي ستايل ومدام ديفان ومدام ريكامبه ومدام جوليت آدم ومدام جوفرين، وصالون جورج صاند وغير ذلك من الأبهاء الأدبية الأوربية، ولكن الحقيقة أن هذه المنتديات قد عرفها العرب في جاهليتهم وإسلامهم، بل أكثر من ذلك لم تكن أندية النساء المبرزات المتحدثات إلى الرجال بدعة في تاريخ الأمة العربية قديما وحديثا.

وفي هذه الصفحات نتحدث بصفة خاصة عن هذه المنتديات الأدبية النسوية عند العرب على امتداد عصور حضارتهم في مكة والمدينة وبغداد ودمشق والقاهرة والأندلس، حيث كانت زعيمة المنتدى عندهم من أرقى طبقات المجتمع، تتصدر المنتدى ويسعى إليها الشعراء والأدباء ورجال الفكر والعلم من كل لون وفن.

عفيفات .. أديبات

ولعل أول منتدى أدبي نسوي عرفه العرب في الإسلام يرجع إلى النصف الأول من القرن الأول للهجرة وهو صالون "عمرة" التي كانت - كما يقول صاحب الأغاني - امرأة جزلة برزة يجتمع إليها الرجال للمحادثة وإنشاد الشعر والأخبار، كذلك ظهرت في مكة امرأة برزة جزلة أخرى اسمها "خرقاء" كان عندها سماطان من الأعراب تحدثهم وتناشدهم الشعار بلا ريب ولا سوء ظن.

أما في العصر الأموي، فقد أشتهر الحجاز في ذلك العصر بالظرف شهرة واسعة حتى نسبت إليه هذه الصفة خاصة وضرب به المثل فقيل "ظرف حجازي" وفي ذلك يقول الشاعر:

شادن يسكن الشآم وفيه

مع دل العراق ظرف الحجاز

وكان من أهم العوامل التي يرجع إليها هذا الظرف الحجازي وجود تلك المنتديات والمجالس الأدبية والفنية التي كان للمرأة والشواعر والمغنيات دور فعال فيها، فكانت هذه المنتديات والمجالس - كما عرفها الحجاز في العصر الأموي كنادي جميلة ونادي سلامة ونادي السيدة سكينة بنت الحسين، ومجالس عائشة بنت طلحة وغيرهن - ظاهرة اجتماعية وأدبية وفنية جديدة يرجع إليها هذا الظرف الحجازي نتيجة لمشاركة المرأة في تلك المنتديات.

على أن أهم ما يلاحظ على هذه المنتديات الأدبية النسوية أن المرأة الحجازية كانت على أكبر قدر من التعفف والاستقامة ومتانة الخلق والتصون، حتى أجمع الناس على إكبارها وتقديرها واحترامها، فكانت السيدة سكينة بنت الحسين - كما يقول الأصفهاني - عفيفة سليمة برزة من النساء تجالس الأجلة من قريش ويجتمع إليها الشعراء. وقد أفاضت كتب الأدب والتاريخ بذكرها وذكر منتداها الأدبي في المدينة المنورة وأورد ابن خلكان طرفا مما كان يدور في مجالسها ومواقفها من الشعراء والأدباء ومشاركتها في هذا المنتدى مشاركة تجاوزت التذوق والاستحسان إلى النقد الفني، فكانت تنقد الشعراء وتفاضل بينهم وتجيزهم كما فعلت مع جميل بثينة والفرزدق ومع رواة شعر جرير وكثير ونصيب.

أندلسيات

أما الأندلس فقد نالت المرأة العربية فيها قسطا وافرا من التعليم والتثقيف، وقد أوقف المقري التلمساني فصلا كاملا من كتبه "نفح الطيب" على شاعرات الأندلس وأديباته اللاتي كن زينة مجالس الأدب والطرب وكان لبعضهن منتديات أدبية تضم علية القوم وعظماء الرجال في الفنون والأدب كحفصة بنت الحاج الركونية وولادة بنت الخليفة المستكفي من أمراء دولة بني أمية في الأندلس وعائشة القرطيبة ونزهون بنت القلاعي الغرطانية.

فقد كانت ولادة بنت المستكفي من أشهر شاعرات الأندلس وكانت تعقد في قصرها بقرطبة ندوات أدبية حافلة بالشعراء والأدباء ورجال العلم والفنون، وكانت تنقد آثارهم العلمية والفنية، وقد حفلت كتب الأدب والشعر بأخبارها، يقول عنها صاحب "نزهة الأبصار والأسماع" إنها كانت سرية النفس شريفة الأصل لا تترك أحدا يتصرف في مجلسها ولا بالدرهم الفرد. ويتحدث عنها بن بشكوال في كتابه "الصلة" فيقول "كانت ولادة أديبة شاعرة جزلة القول حسنة الشعر الشعراء وتساجل الأدباء .... وكان مجلسها منتدى الأحرار الصبر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، كل دلك بعلو نصاب وكرم أنساب وطهارة أثواب".

أما عائشة القرطبية (توفيت سنة 400 - 1010م)، فلم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعادلها فهما وعلما وأدبا وفصاحة وشعراً، وكان الشعراء والأدباء يجتمعون إليها ويتبادلون شتى ألوان الأدب من شعر ونقد.

أما نزهون الغرناطية (توفيت حوالي سنة 550 - 1155م) فقد كانت أديبة شاعرة وكان لها منتدى أدبي سجل مؤلف "الإحاطة في أخبار غرناطة" أخبارها فيه ومساجلاتها مع بعض شعراء عصرها.

كذلك من أديبات الأندلس اللواتي كانت لهن منتديات أدبية سارة الحلبية ( توفيت حوالي سنة 700 ه) قال عنها بن القاضي في كتابه "جذوة الاقتباس" إنها قدمت من الأندلس من حلب، وكان لها منتدى أدبي رفيع، وخاطبت كتاب الأندلس وشعراءها ولقيت ابن سلمون فأنشدته قصيدة من شعرها وأنشدها قصيدة من شعره وأجازته.

من القرن الثالث إلى العاشر

وفي العصر العباسي حيث كانت الحضارة العربية الإسلامية ببغداد في أوج ازدهارها، اشتهرت فضل العبدية (توفيت سنة 257ه) وكان بيتها في بغداد ملتقى الأدباء والشعراء أمثال أبي دلف العجلي وعلي بن الجهم، وكان لها معهما مساجلات ومطارحات شعرية سجلها لنا مؤلف كتاب "سمط اللآلئ".

وفي القرن التاسع للهجرة كانت المرأة العربية في مصر والشام والعراق والأندلس تغشى مجالس الأدب وتناظر الأدباء ويناظرونها وتجيزهم ويجيزونها، وقد خصص المؤرخ شمس الدين السخاوي جزءا من كتابه "الضوء اللامع" في تراجم نساء القرن التاسع الهجري وذكر منهن عائشة الباعونية المتوفاة سنة 922 ه والتي كانت تنظم الشعر، وكان بينها وبين الأدباء والعلماء مساجلات ومناظرات طويلة في مجالسها الأدبية.

في العصر الحديث

أما منتديات النساء الأدبية في العصر الحديث، فقد ظهرت كوكبة من الأديبات البرزات من صاحبات المنتديات الأدبية المشهورة، ففي سوريا كان لماري عجمي ( 1888 - 1956) منتدى أدبي في دمشق يضاهي صالون الآنسة مي في القاهرة، حتى أن الشاعر فارس الخوري قال عنها:

إن ماري عجمي

هي مي وزيادة

كما كان لمريانا مراش (1848 - 1919 ) في بيتها بحلب منتدى آدبي حافل جمع أهل العلم والأدب وكان يعد من أشهر المنتديات الأدبية التي عرفتها سوريا في النصف الأول من القرن العشرين، كذلك أنشات ثريا الحافظ السورية الجنسية صالونها الأدبي المعروف باسم "صالون سكينة الأدبي" والذي كان أطول الصالونات الأدبية النسائية عمراً وأهمها من ناحية التنظيم والشمول.

أما لبيبة صدقي (1876 - 1916) الشاعرة والأديبة اللبنانية، فقد كان لها هي الأخرى منتدى أدبي ونشاط كبير في الجمعيات الأدبية والتربوية بلبنان، كذلك وردة اليازجي (1838 - 1924) الأدبية الشاعرة اللبنانية وابنة الأديب المعروف الشيخ ناصيف اليازجي، كان لها منتدى أدبي بالإسكندرية التي سكنت بها وتوفيت فيها.

على أن من أهم منتديات النساء الأدبية التي كانت لها شهرة ذائعة وتأثير عميق في الحياة الأدبية والاجتماعية في أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين - كان منتدى الأميرة نازلي فاضل ومنتدى الأميرة الكسندرة الخوري ومنتدى الآنسة مي.

أما منتدى الأميرة نازلي الذي كانت تعقده في بيتها فقد كان ملتقى لعدد محدود من أهل العلم والفن والأدب من مصريين وأجانب كقاسم أمين وسعد زغلول والشيخ محمد عبده وإبراهيم اللقاني واللورد كرومر والشاعر ولي الدين يكن، وصفوة أخرى من قادة الفكر والأدب والسياسة في تلك الحقبة من الزمن.

أما منتدى الأميرة الكسندرة الخوري (1872 - 1927) فحدثنا عنه الأستاذ أحمد حسين الطماوي في كتابه "فصول من الصحافة الأدبية" فيقول إن الأميرة الكسندرة كانت رائدة في مجال الصحافة النسائية في الشرق العربي فأصدرت مجلة "أنيس الجليس" واستكتبت فيها الرجال والنساء من الشرق والغرب وقد أقامت في بيتها بالإسكندرية منتدى أدبيا كان من رواده الشاعر إسماعيل صبري ونجيب حداد وولي الدين يكن وأحمد محرم وغيرهم. قال إسماعيل صبري عن هذا المنتدى:

إن للفضل رونقا وبهاء

بهر الحاضرين في ناديك

الشهيرة مي

أما منتدى الآنسة مي، فلعله يكون من أشهر منتديات النساء الأدبية التي عرفها العالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وقد بدأ سنة 1911 واستمر حتى الثلاثينيات، وكان يعقد في بيتها ويحضره الأدباء والشعراء ورجال الصحافة والفكر، وقد تزايد رواده وأصبح له شأن كبير في الأوساط الأدبية وبلغ مداه أبعد من مصر.

ويكاد كل من تحدث عن هذا المنتدى يجتمعون على أنه كان مثالا راقيا للمجتمعات الأدبية الرفيعة، يلتقي فيه رجال الفكر بأعلام الأدب والعلم، والجميع ينشدون المتعة الفنية والأدبية، تدور فيه الأحاديث في جو يفيض أدبا وفنا وفكاهة وجدا ولطفا وصفوا لا يكدره مكدر، وبالجملة كان كما وصفه بعض رواده مجلسا لا لغو فيه ولا تأثيم.

وقد خلف هذا المنتدى شعرا كثيرا وآثارا أدبية عديدة، يقول محمد عبدالغني حسن في كتابه عن "مي" أظن أن ما دار في صالون مي من الأحاديث وما عولج فيه من المسائل وما روي فيه من شعر وما نوقش فيه من مسائل العلم والأدب وما بدا فيه من المشارب والميول وما ظهر من النفوس والعقول، كما ذلك يصور لنا حياة حية جميلة ممتعة في تاريخ الأدب في العصر الحديث.

وقد تحدث عن هذا المنتدى الأدبي الرفيع كثير ممن اختلفوا إليه من أعلام الفكر والأدب والشعر والصحافة والسياسة وسجلوا لنا بعض انطباعاتهم عنه وعن أثره العميق في الحياة الأدبية، يقول العقاد أحد رواد هذا المنتدى " لو جمعت الأحاديث التي دارت في ندوة مي لتألفت لنا مكتبة عصرية تقابل مكتبة العقد الفريد ومكتبة الأغاني في الثقافتين الأندلسية والعباسية".

ولم يخل الشعر العربي من ذكر هذا المنتدى والإشادة به، من ذلك قول إسماعيل صبري وكان من رواده:

روحي على بعض دور الحي هائمة

كظامئ الطير تواقا إلى الماء

إن لم أمتع بمي ناظري غدا

لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء

أما الشاعر اللبناني شبلي ملاط، فيقول من قصيدة أنشدها في حفل تكريم مي ببيروت سنة1922:

وهل طافوا بمكتبها وحجوا

هنالك في الكنانة منتداها

ويقول شاعر القطرين خليل مطران يصف هذا المنتدى الأدبي:

أقفر البيت أين ناديك يام

ي إليه الوفود يختلفونا

صفوة المشرقين نبلا وفضلا

في ذراك الرحيب يعتمرونا

فتساق البحوث فيه ضروبا

ويدار الحديث فيه شجونا

وتصيب القلوب وهي غراث

من ثمار العقول ما يشتهينا

وبعد ......

فهذه لمحة عجلى عن المنتديات الأدبية النسوية في العالم العربي قديما وحديثاً تدلنا على هؤلاء الأدبيات العربيات صاحبات تلك المنتديات قد سبقن صالونات الأدب في فرنسا بعشرات القرون.