محمد البساطي يعزف سيمفونية الـ «جوع» إلى... الحياة الكريمة!

محمد البساطي يعزف سيمفونية الـ «جوع» إلى... الحياة الكريمة!

وصلت هذه الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية في دورتها الثانية وهي تختزل في حكايات أفراد أسرة تقاوم الجوع وتتحايل عليه، محكية من ثلاثة رواة بالتعاقب.

أبطال الرواية هم الزوج «زغلول»، الزوجة «سكينة»، والابن الأكبر «زاهر»، وقد أغفل كتاب تلك القراءات فنيّة الرواية أو الجانب التكنيكي، وسنحاول - في عجالة - تسليط الضوء على بعض خصائصها الفنية، مع التأكيد على أن النص يحتمل أكثر من قراءة.

يعود محمد البساطي في «جوع» إلى بئره الأولى/ القرية، مستودع الحكايا الآسرة.

منحازاً إلى عالمه الأثير، عالم الهوامش البشرية.. يكتب برهافة وشاعرية عن عالم قاس.. عالم الجوع، البطش وقسوة الفوارق الاجتماعية، يكتب عن جوع/ حاجة أسرة إلى الخبز، المعرفة، الحب، الأمان والتوق إلى حياة كريمة أيضاً. والمكان - في سائر أعماله الإبداعية - ليس مجرد خلفية أو ديكور، وإنما «شخصية روائية» رئيسة و... فاعلة، يسحق الشخصيات، يعطب أرواحها ويغتال أحلامها، تماماً مثل المنفى والمعتقل.

قد يتساءل البعض بأن للمنفى/ الغربة تأثيره السيكولوجي، وكذلك الجدران القاتمة التي تتواطأ مع السجان والجلاد في الفتك بالضحية وتحطيمه نفسيا. لكن القرية، هذا المكان الوديع الذي يتعامل معه الكثير من الكتّاب والفنانين بكثير من الشاعرية والرومانسية هروباً من الجحيم اليومي للمدينة. كيف يقهر الشخوص، لاسيما وأن كاتبنا يتعامل معه بنوع من النكوص الإبداعي أو النوستالجيا، تشي بهما كلمة «يعود»؟!

ومن الشخصيات التي تعتبر ضحية للمكان في الرواية عبده الفران، فهو يحس بالغربة، مبرراً وحدته بأنه لن تقبله أي امرأة وقد التهمت النار جزءاً منه، هذه النار التي أنسنها الكاتب وجعلها صديقته الوحيدة، بديلاً عن الآخرين (هل نقول إنهم الجحيم، بلغة سارتر؟)، ولأن عبده الفران ينتمي إلى قاع المجتمع، يتعاطف مع زاهر والنساء الأرامل، ويمنحهم الخبز المحروق، وهذا ما يثير حفيظة صاحب الفرن/ المعلم عباس، الذي لا يهمه «جوع» الآخرين، وإنما الربح لا الخسارة، لا يهمه الأجر والثواب في زمن تحكمه قيم النفعية والمتاجرة في آلام البسطاء والمحرومين، والاستغلال، فيختار في النهاية الرحيل ومغادرة القرية بحثاً عن مكان آخر، على الرغم من أنه لا يستقر في أي مكان، كأنه يبحث عن مدينة فاضلة، لا مكان فيها للجوع والقمع والغبن والضياع، إنه شخصية إشكالية، تتصف بالثراء الدرامي والإنساني، لا تعادلها سوى شخصية الحاج عبدالرحيم.

البيت الكبير، بيت الحاج هاشم، عاشت فيه الأسرة بعض الرفاهية، لكن زغلولا كان يراه بمنزلة سجن، فيحن إلى حياة الضياع والتسكع والعمل - على الرغم من الإهانات والشتائم في المقهى - بدل أن يحس بأنه أسير تلك اللقمة الهانئة. أما سكينة، واسمها يدل على سكينتها وقدريتها، فقد سحق البيت الكبير إنسانيتها قبل أن تفلح في اختراقه، لكنها تحملت من أجل توفير لقمة تسد الرمق لأفراد أسرتها، كأي امرأة تتحمل أعباء الحياة في المجتمعات الزراعية، في حين زغلول يفضل حياة البطالة والتسكع، مثل الأسد بينما تتحمل اللبؤة الصيد ورعاية الصغار، ولا أود أن أنزلق إلى أي تأويلات، خشية أن يكون المسكونون بالهواجس النسوية، والحنين إلى المجتمعات الأمومية لنا بالمرصاد، والسارد يجيد زراعة الألغام ما وراء السطور والهروب، مثل إشارته إلى نبش المسكوت عنه وخدش المقدس من خلال حديث زغلول ساهيا وهو ينبش الأرض بعود قش، باحثاً عن إجابات لأسئلة تؤرقه، على الرغم من أنه فلاّح أمي ساذج، لكنه يود إشباع جوعه إلى المعرفة، فيفاجئه الشيخ رضوان، أستاذ الفقه والشريعة بالجامعة برفسة، فعلى الرغم من مستواه الثقافي الرفيع يتعامل معه بطريقة تحقيرية، يرفسه كما لو كان كلبا، ويشتمه، ويتطوع آخرون للمشاركة في حفلة الضرب لأنهم سمعوا كلمة «كافر»، والمرأة ظنته سارقا، قد تكون شخصية الشيخ رضوان رمزا للجماعات الدينية المتشددة، وأضاف إليها الكاتب صفات تجعلها مذمومة، فالشيح إمبريالي أيضا، يستغل حاجة الصيادين (الصيادين وليس الفلاحين) وفقرهم لمضاعفة أرباحه، هل يقصد البساطي أن الجماعات التكفيرية تتاجر بالدنيا وبكل شيء، تنصب نفسها حراس المقدس.

البساطي لا يصرح بموقفه الشخصي، يكتفي بزراعة الألغام والانسحاب في صمت، حاملاً كاميرته السردية.

عودة إلى البيت الكبير، نستحضر ترقب سكينة وتطلعها إليه من بعيد، وهي تهفو إلى دخوله، وقد فشلت أكثر من مرة، والخادمتان تعاملتا معها بمنتهى الاحتراس، فالفقير متهم دائماً باللصوصية من طرف الأغنياء، وحين أفلحت في الدخول وساعدت الخادمتين في حمل «البوفيه» وقع غطاء المصباح الزجاجي أرضاً، ولم تهتم بالدم النازف من إصبعها، وفوجئت وهي ترمي شظايا الزجاج بجوار الحائط في الخارج بالباب يغلق، ونظرت غير فاهمة قائلة: «مفيش وراهم غير قفل الباب».

وعند موت سيدة البيت المتعجرفة، طلبت ابنتها/ وداد من زغلول أن يبلغ رسالة شفوية همسا إلى رجل كان خطيبها، وحين اعترض زغلول طالبا منه أن يبلغها كلامه بنفسه، فاجأه الرجل المحترم بصفعة وغادر، أما سكينة فقد عاملتها الخادمتان كما لو كانتا من أصحاب البيت، تقوم بكل أشغالهما، وهما تستمعان إلى الأغاني وتأكلان متقمصتين دور «السيدة».

أما بيت الأسرة الذي يستقبلنا بتلك الآية القرآنية، التي تزين البيوت في الأرياف بعد عودة أصحابها من الحج أو خوفا من الحسد، وباللون الأبيض الزاهي، فنصطدم بأجوائه القاتمة وبؤس المكان، والصغير رجب الأمي يتطوع بتنظيفه متسلقا الباب، وجماليا تشير تلك الآية إلى النقاء الداخلي للشخوص، وتحملهم لمصاريف الحياة برضا نادر، وهو ما يعكسه حب زغلول للتردد على أي «معزى» أينما كان ومساهمته في جمع الكراسي، ويلمح العمال نشاطه ويتركون له جمع الكراسي، وينصرفون إلى عمل آخر، يقوم بذلك ابتغاء الأجر لا الأجرة، أيضا تطوع لحمل «الدولاب» بعد أن تراجع الحمالون عقب حادثة تحطم الأول في الحارة، حتى لا تتكرر المأساة، فـ «الدولاب» معادل جمالي للشرف.

تأصيل الشخصية

من يقرأ كتابات محمد البساطي يدرك أنه مهموم بتأصيل الشخصية المصرية، فهو لا يكتب روايات للتسلية، مثل إحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي، بل مرتبط بالقاع وهمومه ومنذ بداياته، ولا يهرب إلى التاريخ ويحتمي بإسقاطاته لانتقاد الأوضاع، وشخصياته لا تنحرف أخلاقيا، كأنما يتصدى لذلك التيار الأدبي والفني الذي يقرن الانحراف والإجرام والدعارة بالعشوائيات والفقر، مثلا شخصية فردوس لم تهب نفسها لسعد/ ابن زوجها في رواية «فردوس» على الرغم من حرمانها العاطفي، وفي «دق الطبول» لم يستسلم السارد لإغراء زاهية، وزغلول على الرغم من فقره المدقع وجوعه يتمتع بنقاء داخلي، نقاء الفطرة، لا يفكر في السرقة أو الحصول على المال بطريقة غير مشروعة، وزوجته واقعية جداً، لا تهمها الغيبيات، فإيمانها فطري، وهي مهمومة بأن توفر لقمة العيش لأفراد أسرتها وتسديد ديون الأرغفة، وحين طال مكوث زغلول في البيت دعت ابنها إلى إحضار «العيش الميري» من فرن عباس، ولم تتألم حين عوملت بعجرفة في البيت الكبير، ولم تفعل مثل عبده الفران الذي صادق النار واعتزل الناس، كاحتجاج صامت على تراتبية المجتمع القمعي، وفي الأخير يفضل الهروب.

لندع التنقيب الأيديولوجي الذي شغلنا عن القراءة النفسية لبعض الشخوص.

لقاء زغلول بالحاج عبدالرحيم، والاسم غني بالدلالات، كان بمنزلة البلسم لذلك الجرح، بعد أن أهين وضرب من طرف الشيخ رضوان، وحتى عندما رفع الشيخ يده متأهبا لصفعه، همست امرأة عند رؤية الخاتم يلمع بأنه «ذهب عيار 24. لمعته. أعرفه ولو على بعد مترين».

بمهارة قناص، يشير الكاتب إلى الكف الممتلئة والخاتم الذهبي الذي يلمع، ثم الصدر الأعجف والجلباب البالي، والمرأة التي أعماها بريق الذهب، ولم تر سوى الخاتم اللامع، ولا معنى لإنسانية تهدر، ولعل الكاتب يدين فائض اللامبالاة الذي نتعامل به مع ما يجري على أرض الواقع وعلى شاشات الفضائيات، ولا أحد يستنكر، لأنها صارت مشاهد عادية جداً بالنسبة إلينا، وزغلول على الرغم من الضرب والألم، كان يصيح منبها إلى أن جلبابه سيتقطع، وغادر المكان رافضا - بكبرياء وأنفة - قطعة الثوب.

قبل موته كان آخر لقائه وحديثه مع صديق طفولته عطوة، الذي لم يخف عنه سبب انقطاعه عن زيارته: «أقول لك الحق. كل ما أفكر أزورك. أقول دي سنين يا عطوة. حايفتكرك. وأنا فين وهو فين»، ويتذكران «مقالبهما» الشيطانية.

سيكولوجياً كلما تقدم العمر بالإنسان حنّ إلى الطفولة فقط، ويتذكرها أكثر من أي شيء آخر، إنه الحنين إلى زمن لم تلوثه هموم الكبار.

تجدر الإشارة إلى أن الكاتب وظف الزمن النفسي من خلال الانتظار الطويل لطلوع الشمس، بعد أن استيقظوا فجرا - وهو فجر كاذب كما سيتضح لاحقا - وهم يتضورون جوعا.

تمجيد الحياة

شخصيات الأب، الأم والابن غير فاعلة، راضية بوضعها الاجتماعي، انتظارية، ويتضح ذلك من خلال تركيز الكاتب على مشهد الجلوس على المصطبة، ولا تفكر في تغيير واقعها، بل تنتظر طلوع الشمس/ الأمل/ الفرج، وهي ممتلئة بانتمائها وإيمانها بالجماعة، ولا تؤمن بالحلول الفردية والهروب مثل عبده الفران، الذي أحس بأنه الأضعف، فانسحب من المعترك.

الرواية «تاريخ من لا تاريخ لهم» بتعبير عبدالرحمن منيف، ورغم الألم والجوع والذل فالشخصيات الثلاث متمسكة بالحياة وتحبها، على الرغم من أنه بموت الحاج عبدالرحيم والحاج هاشم فقدوا بعض الأمل في حياة كريمة ولو لأيام معدودات، لكن خسارة زاهر كانت مضاعفة، إذ يفقد عبده الفران وصديقه عبدالله دفعة واحدة، ولأن الرواية تعلي من شأن الحياة لا توظف الموت دراماتيكيا، وحتى في أحلك لحظات الشخصية لا نراها كسيرة، ولا تنهار، فالحياة جديرة بأن تعاش على الرغم من كل شيء.

لكن ثمة مفارقة صارخة، فالشيخ رضوان ووالد عبدالله، واللذان يمثلان الطغيان/ البطش/ القمع/ العجرفة بقيا على قيد الحياة، ولا ندري إن فطن الكاتب إلى هذا أم لا؟

ومثل أي كاتب متمكن من أدواته الفنية، لجأ محمد البساطي إلى أسلوب آلان روب جرييه، التسلل إلى العالم الداخلي لشخصياته عن طريق تتابع اللقطات الخارجية، وتفاصيل العالم الخارجي، يسرد بحيادية كما لو كان يحمل كاميرا متنقلة، مستفيداً من التقطيع السينمائي، وهذا ما يفسر إقبال المخرجين على ترجمة عدة روايات مصرية إلى أعمال درامية أو أفلام سينمائية، لاعتماد كتابها على المنظر بدل السرد الكلاسيكي، وتأثرهم بالخيال البصري، دون أن ننسى أن الفن الروائي يستوعب عدة أجناس.

واستخدم دائرية الحكي (ينطلق ويعود إلى مشهد المصطبة) متوسلاً بتقنية الفلاش باك، والتداعي الحر والمونولوج وأحياناً الحوار للتنقل بين المشاهد بمرونة وحذر، دون أن يحس القارئ بتغير زاوية الرؤية، ولا ننسى أنه قسم الرواية إلى ثلاثة مشاهد تخص الزوج والزوجة والابن الأكبر، لكنه لا يسرد من وجهة نظرهم وإنما عن طريق الراوي العليم بكل شيء وضمير الغائب، إذ سرعان ما يتخفى ويتسلم دفة السرد من الشخصيات، كما وظف ببراعة المفارقة الزمنية من خلال زمن الحكاية - الزمن الانتظاري، الممتد، من الفجر حتى طلوع النهار، وزمن السرد، وهي الأحداث التي تقع خارج المشهد الانتظاري ولا تخضع للتتابع المنطقي للأحداث، ممارسا لعبة الداخل - الخارج، التي أتاحت له المراوحة بين الـ «هنا» والـ «هناك»، للتخفيف من قتامة الداخل وبؤس اللحظة الآنية.

ويلاحظ هيمنة الأفعال المضارعة على أحداث المشهد الداخلي - الانتظاري، مما يعني استمرارية العجز وراهنيته وغياب الفعل، مقابل طغيان الفعل الماضي في المشاهد السردية الأخرى.

«جوع» رواية تنحاز إلى عالم الهوامش البشرية، وترصد ما تكابده الطبقات المسحوقة في سبيل الحصول على لقمة العيش في مجتمع قمعي تراتبي طبقي، وقد اعتاد محمد البساطي أن يترك نهايات أعماله مفتوحة دون أن يخدع القراء بـ «فبركة» نهايات وردية، كأنما يدعوهم للمشاركة في كتابتها «بالفعل» وليس «بالقوة»، والدفاع عن المسحوقين في زمن تكاثر فيه سماسرة الألم وخفافيش الظلام، فالأسرة تنتظر طلوع الشمس، للبحث عن رغيف خبز عند الجيران، لكن هل فطنتم إلى ذلك الكلب الذي «يتشمم جنب الجدار»؟ فهو لم يجد ما يقتات عليه بين الفضلات وراح يتشمم الجدران، مما يعني أن الوضع المأساوي في الخارج، وأن المزيد من الهوان في انتظارهم.

ختاماً لابد من الإقرار بأن لكتابات محمد البساطي سحراً خفيا، يشبه سحر كتابات ماركيز، فبمجرد أن تقرأ اسم البساطي على أي كتاب تسارع إلى التهامه من الغلاف إلى الغلاف.

 

 

هشام بنشاوي






 





محمد البساطي