الأعمال الشعرية وديع سعادة

الأعمال الشعرية وديع سعادة

«الأكثر جمالاً بيننا»، «المتخلّي عن حضوره»، «التارك فسحة نظيفة بشغور مقعده»، «جمالاً في الهواء بغياب صوته»، «صفاء في التراب بمساحته غير المزروعة»، «الأكثر جمالاً بيننا: الغائب». هكذا يقول الشاعر اللبناني وديع سعادة في ديوانه «غبار»، الصادر العام 2000، هذه الأبيات هي جوهر المنهج الوجودي الخاص لوديع سعادة.

الذاهب إلى أن السلب هو أعلى درجات الإيجاب، والبياض هو جماع كل الألوان، وأن الفراغ الذي نتركه نظيفاً دون أجسادنا هو أكثف درجات الاحتفاء بالكتلة والمكان، ذاك أن أرقى مراتب الحضور، هو الغياب، على أنه لم يكتف، فقط، بتقديم هذه الرؤية نظرياً عبر قصائده، بل طبقها عملياً بتكريس غيابه الفيزيقي، ليس فقط عن الوطن، لبنان، بل عن المشهد الشعري كذلك. فهو دائم الهروب من الأمسيات والحوارات والندوات والمحافل الشعرية، لا يعبأ بالحضور، فطارد الحضور دائماً، ليس فقط لأن الحضور يلاحق مَن يفر منه، بل لأنه، وديع سعادة، بالحق شاعر ذو نبرة شديدة الخصوصية والفرادة، جملته الشعرية شديدة البطش، على رهافتها، كثيفة الأثر، على أثيريتها وشفافيتها.

اختار سعادة ألا يطبع دواوينه إلا في طبعات محدودة لا تصل لأغلب قرّائه، فطارده القراء والشعراء عبر نسخه الشحيحة يصوّرونها يحفظونها، ثم لاحقوا قصائده عبر موقعه على الإنترنت، الذي صممته الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان، وتستحق في ذلك شكرا وتحية، إذ أتاحت لنا، نحن المولعين بشعره، أن نقرأه رغما عن غيابه الورقي.

ومنفاه الاختياري في أستراليا التي هاجر إليها منذ عقود ثلاثة، وأخيراً صدرت أعماله الشعرية الكاملة عن دار «النهضة العربية» في لبنان، ضاماً دواوينه العشرة (1968 - 2006).

صرخة موت

يقول سعادة في ديوان «رتق الهواء» الصادر 2006: «بودّي أن أكتب رواية عن صرخة خرجت من فم شخص وهو يموت/وهامت في الفضاء ثم عادت تبحث عنه/.../ بودّي أن أعرف ماذا يقول ميت لصرخته/وماذا تقول الصرخة للفضاء». هكذا أردف الشاعر فعل «أكتب»، بفعل «أعرف»، إذ هو يؤمن أن «الكتابة» تتلوها «المعرفة»، أو أن المعرفة تجل من تجليات الكتابة. ذاك أن الكتابة هي لون من القراءة «فوق العادة». هي عملية شحذ عقلي Brain Storming. تطلب تأملاً عميقاً ونشاطاً ذهنياً عنيفاً. وهذا ما يتعارض مع مقولاته الزاهدة في الكتابة التي أطلقها في «نص الغياب» - 1999 الذي أعلن فيه هجرانه الكتابة بادئاً بعبارة قاتمة: «إنها الكلمات الأخيرة، وهأنا أهجرها»، ثم موردا مرادفات عدمية عدة لفعل الكتابة من قبيل: الكتابة موت، الكتابة وهم، الكتابة صمت، غياب، الشعر لن يغير العالم.. إلخ. ولم أصدق أبداً أن وديع سعادة جاد في قراره هجران الكتابة، ومَن يصدق شاعراً؟ قلت لأصدقائي الذين حزنوا من قراره: سيفاجئكم بديوان جديد العام المقبل، حذار أن تصدقوا شاعرا! لن يهجر الكتابة، وإن حاول، ليس وحسب لأنه لم ينضب شعرياً، كما نضب كثير من الرواد فصمتوا إلى الأبد وإن لم يعترفوا بنضوبهم، بل لأنني قرأت تلك العدمية على نحو معاكس تماماً. الشاعر الذي يقول: «سأغير العالم بقصائدي». هو غالباً غير جاد ولا مصدق قوله، فيود نفي «عدم تصديقه» بقول الضد. فيما المؤمن حقا بطاقة الكلمة ومقدرتها على تغيير العالم يظل يكتب، وحينما يصدمه أن العالم لا يتغير تنتابه لحظات قنوت وعدمية تشبه ما مرّ بها شاعرنا، فيعلن هجرانه الكتابة التي لا نفع فيها، ثم لا يلبث أن يعود. ذاك أن الإيمان بالكتابة هو الثابت، والكفر بها هو المؤقت المتحول.

القضايا الكبرى عند وديع سعادة، كل القضايا الكبرى، هي الإنسان ومحنته مع تفاصيله الصغيرة المنسية وسط خضم الأشياء الكبرى (مجازا). تلك التفاصيل الصغيرة المهملة هي الأولى بالرعاية والتأمل ذاك أنها شديدة الاكتناز بالحياة عميقة التوغل في الوجود. النظر إلى متون الأشياء وكلياتها هو السبيل الرخص الساذج في التعاطي مع الحياة، وحال كسل في التعامل مع الوجود، فيما الهوامش/الأجزاء/التفاصيل هي التي تحرّك العالم. هكذا احتفى وديع سعادة بالعشبة الضئيلة التي تنمو في شق دقيق بين صخرتين، والورقة الصغيرة التي كتب عليها شيئاً ثم نسيه، والحبقة في الركن التي تشبه أمه حتى إذا نادى العابرون الحبقة ردّت الأم، وإن نادوا الأم ردت الحبقة، ونقطة الماء الأخيرة في دلو أمه، وظفرها الذي كانت تنتظر ابنها أن يبتسم لتطلب إليه أن يقصه، وفنجان القهوة المنسي فوق الطاولة نصف فارغ، وشعاع الشمس السابق فوق وجه، والوجه الذي رحل تاركاً عينيه فوق الحائط، والشعاع الذي يسرقه الشاعر من الشمس ويضعه في جيبه حتى إذا بكى الليل وطلب ضوءاً مدّه به، والظل الذي ينام طيلة الليل في العراء أمام باب البيت منتظراً صاحبه أن يصحو بعد شروق الشمس ليخرج فيتبعه، وصورة الميت على الحائط التي مزّقوها فجمعت قصاصاتها ورفعت نفسها على الحائط من جديد، وقدم الشاعر التي تبعته أربعين عاماً دون كلل، وأخلصت له دون أن تفكر يوماً في تركه، مثلما فعلت أقدام كثيرة، فمرضت أو بُترت وتركت أصحابها وحيدين. أين يكمن الشعر إن لم يكن في كل هذه المنسيات الحميمة التي تصنع يومنا وحياتنا؟!

الغياب والوجود

ويغيب وديع سعادة عن لبنان عقوداً طويلة، والوطن مثل المعشوقة، كلما نأينا عنها سكنتنا فاستوطنتنا واستحوذت على أرواحنا، إذ كلما طال مقام الشاعر في المنفى تعمّق مُقامه في الوطن. لكن وديع سعادة ليس ذاك الشاعر البسيط الذي يناجي وطنه بمقولات الحنين والوحشة والاغتراب الشهيرة بل، على النقيض من ذلك، لن يعترف أبداً أن الوطن أوحشه. بل سيقول في كذب طفولي بارع: «يريد أن يعود/في حائط بين بيته عشبة صغيرة يريد أن يعود ويراها/حارسة الحجرين وروح الوصل بينهما في شق ذاك الجدار/الجدار الذي رصف أحجاره حجراً لصق حجر/حريصاً على عدم ترك فراغ/لكنها وجدت روحا/ ونبتت في غفلة فراغ صغير/إلى ابنة ذاك الفراغ/إلى ابنة تلك الغفلة/يريد أن يعود/لا يشتاق إلى بيت/لا يشتاق إلى أحد/يريد فقط أن يعود/ليرى العشبة». وفي قصيدة أخرى بالديوان ذاته: (رتق الهواء) يقول: «كتب شيئاً على ورقة/كي لا ينسى/شيء ما كان يريد أن يفعله/ولا يتذكره الآن/كتب شيئاً بأحرف كبيرة/ووضع الورقة حيث كان يجلسُ/يريدُ أن يعودَ ويقرأها/يريد أن يفعل ذاك الشيء/أو يعرف على الأقل/ما هو». هكذا يحنُ الشاعر إلى وطنه دون أن يفصح بذلك، تماماً مثلما يشتاق العاشق إلى حبيبته التي هجرها ثم ندم، يتوق إلى رؤيتها، إلا أن كبرياءه لا تسمح له بالاعتراف بالشوق. فيهاتفها زاعماً أنه نسي معها شيئاً. يودُّ، فقط، استرجاعه.

 

 

عرض: فاطمة ناعوت






 





وديع سعادة