من يغني في هذا الليل؟!

من يغني في هذا الليل؟!

ما إن تخطـو عقارب الساعة متجـاوزة نصف الليل حتى يتـدثر هـذا الحي العتيق بصمت رهيب- صمت ينتصب كصمت المقابر الموحشة - وتخور تلك الأجسـاد المنهكـة الرثة في سبـات عميق ليـدب صوت الجنـدب " مصنصنا " مفتتحـاً ليلاً من السكون المميت، يتـداخـل معـه نبـاح متقطع .. متكـاسل، سرعان ما يخبو ليغرق الحي في ظلمة عاتية وسكون رتيب ممل، وأعمدة الكهرباء- الخشبية- الهوائية تغدو كشبح أسطوري جاثم بظله على كل مكان .. لا شيء هنا سوى الليل وعـدد من السيـارات التي تجوب الحي ببطء وترقب.

الليلـة، خـارج كل ليلـة، فقد ارتفع غنـاء شجي يقطع نياط القلب وينساب دافئا حزينا فيشعل جنبات الحي بالتساؤلات:
- من يغني في هذا الليل؟!
في طرف الحي يقطن ذلك العجـوز الذي قرضه الزمن، ولم يبق له إلا تجاعيد مهدمة وذكريات طويلة من الآهات فتبقى كشجرة تساقطت أوراقهـا، فجثت على الأرض بحثا عن قبر لها .

هذا العجوز يبيت ليله يجرب ملابسه القديمة ويعيد سرد سيرته على نفسه بصـوت يغلب عليه الأسى؟ فينام قبل أن يكمل زينته القديمة.

الليلـة تحركت مـواجعه الراكـدة وطفحت محاجـره بالـدمع حين ارتفع غناء رخيم .. طري من ثنايا هذا الليل البهيم فـأصغى لـه بحنين متـوجـع حتى تنفس الصبح، وانتشرت في الأفق تباشير يوم جديد، ليمسح دموعه وينام هادئا مستسلما.

في جلسته المعتادة- متكأ خشبي بجوار بيته - حدث جلسـاءه عن ذاك الصوت المجـروح ذي الغناء الرتيب المؤنس، وعنـدما شعر بـأن مستمعيه لم يعيروا نشوته-بذلك الغنـاء- أدنى اهتمام ابتلع رغبتـه في الحديث وصمت.

وإلا أنه عاد للحديث في اليوم التالي والـذي يليه وفي كل يوم يبتكر وصفا جديدا لذلك الغناء الليلي.

اليـوم وفي جلسته المعتـادة جمع كل المارة، كـان يستحلفهم لسماعـه حتى إذا استجـابوا، أخـذ يحدثهم عن ذلك الغناء الذي ينعش فؤاده ليليا :
- اعلم أنكم مللتم حديثي، وكل الذي أرجوه أن تضيفوا لصبركـم علي سماع هـذه الحكـايـة... كنت أجلس كعادتي أنقب في الليـل عن شيء يشغلني عن اجترار ذكرياتي الطويلـة منتظرا عبور النصف الأول من الليل لكي أسلم أذني لـذاك الغناء الشجي وما أن بدأ الغناء حتى أحسست بأنني أنمو من جديد فتقت لأن أحيا .. وأعيد كتابة حياتي .. كنت منتشيا كطائر يحلق في أرجاء فسيحة وبينما كان الغناء يذوب ويصبح ترنيمة عذبة مجنحة، في هذه النشوة الغامرة اعترتني رغبة ملحة لمعرفة صاحب هذا الصوت الممتلئ بالحياة .. فتجرأت وفتحت الباب . كان الظـلام كثيفا فلم ألمح أحداً، إلا أن الصوت الرطـب الدافئ، كان قريبا، فـاقتفيت أثر، وكلما سرت سمعته أمـامي، وأقسم لكم بخالـق النوى أنني قطعت هذا الحي عدة مرات، وكلما طال بي السير أمعن الغناء في الشجو المجروح .

بدأ المتجمهرون ينفضون من حوله، وبعضهم يصفق يدا بأخـرى لما آل إليه ذلك العجـوز، وجزم غالبية من حضر جلستـه أن الرجـل أدركـه الخرف، وردمـوا على حكايتـه بالنسيـان ولم يعد أحـد لسماع حديثـه الذي لم ينقطع عن سرد حكـايـة ذلك الغنـاء الليلي حتى أن الصبية أخذوا يرددون سؤاله - كلما رأوه - :
- من يغني في هذا الليل؟!

***

في مكان آخر من الحي أسرت فتاة يافعة لبعض زميلاتها بسر ضـاق به صـدرها، فأفشين بحـديثها للمـلأ وفي جلساتهن الخاصة وتناقلنه كـما ورد على لسانها :
جبلت على الابتعاد عن شجـار أبوي الـذي يبدأ مع منتصف الليل فكنـت ألجأ إلى غـرفـة منـزويـة من بيتنـا، وغـالبـا مـا يصاحبنـي الأرق فأظل أقلب ليلي بالأمنيات التي يوسوس بها هذا القلب وعندما يرهقني الانتظار من انقشـاع هـذا الليل ، وأفـول النـوم من أهدابي، أبعثر أوراقي القديمـة وانشغل برتق وتزيين فسـاتيني، بعـد ذلك أتهاوى على فراشي تـاركـة الليل يمضغ مـا تبقى من شجـار أبوي .. ومنذ عـدة ليـال مضت لم أعـد أنشغل بشيء سوى الإصغـاء للغنـاء الحزين المتقطر شوقا ولهفة الذي يداهمني ليلياً .

في أول ليلـة سمعت هذا الصوت المغـرد أصابتني رعشة لذيذة وبدأت تلك الأمنيات المختبئة في صدري تتنفس . كنت أتصـور أنه قـادم على فـرسه الأبيض ليحملني معـه وعندمـا لم يجدني أخـذ يبحث عني بهذه الحرقـة الساكنة في ذلك الغنـاء، وكلما أمعنت في هذا الخاطر ازددت نشوة، فأدمنت الإصغاء لذاك الغناء وكلما نمت ظلمـة الليل تهيـأت لانتظـار ذاك الغناء، حتى جـاءت ليلة البـارحة حـين كانـت رغبة جريئة في داخلي قـد نضجت، وقررت أن أعرف صـاحب ذلك الصـوت الـذي يقف بجوار نافـذتي طوال الليل يبث الحياة في أوردتي بغنائه، وما إن ارتفع الغناء حتى تحركت وأشرعت نافـذتنا التي تطل على الشـارع الخلفي حيث كان الليل يقـف فتيا في وجهي ولا أحد سـواه، فقلبت بصري هنا وهنـاك إلا أنني عجزت عـن أن ألمـح أحدا، فـانتقلـت إلى نافـذة أخـرى تطل على شـارع آخـر، فأحسست بشيء ما ينزوي عن عيني ويزداد الغنـاء رقة وعذوبـة، فصعدت إلى سطح دارنـا ومن هناك تدلى رأسي في كل الاتجاهات ولم ألمح أحدا، إلا أن الغناء ظل رقيقا.. شجيـا.. يتصبب رقة وجـوى . وحين يئست من معـرفـة صـاحب ذلك الغنـاء عـدت إلى فراشي وأغمضت جفني والغناء مـازال يمشط أمنيات دفينة في خلائي الموحش .. ترى- من يغني في هذا الليل؟!

وعنـدما انتشر حـديثها في مجالس النسـاء تغامـزن وأجمعن على أن الفتاة أصابها العشق من حيث لا تعلم .

***

في جهة أخرى من هـذا الحي . تسكن سيـدة في العقد الرابع من عمرها ، ومنذ أمـد طويل ظلت تمضغ وحدتها دون تذمر، فمنذ وفاة أبويها، وهجـرة أخيها- الذي لا تعلم له أرضا- انشغلت بتوفـير لقمة تقيها من. الهلاك بعد أن عجـز بعض عجائز الحي من إيجاد رجل يقترن بها حيث كـان وجههـا يقف حـائلا أمـام إتمام زواجها ، وبالرغم من نفور الرجـال منها لقبح واضح يتلبسها إلا أنها استطاعت أن تكسب جاراتها بقلبها الأبيض ولسانها الحلو .

في وحدتها هذه تجلس- تغسل ملابس جيرانها مقابل ما يقيم أودها ويوفر لها ملبسا ومأوى .. في ذات صباح أبدت- هذه السيدة- مخاوفها لإحـدى جاراتها بعد أن تكررت حادثة الغناء الليلي معها، ولم تطق جارتها إخفاء تلك الحكـاية، فبـدأت بسردها على كل من يصلهـا وتصله ولم تنس أن تقلد صوتها وهيئة حديثهـا .. وتسرد حكايتها كـما جاءت :
- بينما كنـت نائمة إذ بي أرى أخـي يجري في صحراء واسعـة .. لاهثـاً مقطع الثيـاب والشمس تقف على رأسه.. فيتدلى لسانه كلما بلغ نبع ماء وانكفأ ليشرب يشيخ الماء ويعود ترابا فينهض راكضـا رافعا صوته بغناء لم اسمع أعذب وارق منه من قبل، وعندما لمحني أشار إلي أن اتبعه، فتبعته وهو لايزال يغني في تلك الصحراء الواسعـة حتى إذا جاء غراب من أقصى الأرض ووقف على هامته ونقرها ليتطاير دمه على وجهي .

فـاستيقظت فـزعـة .. تلفت عن يميني ثلاثـا واستعـذت من رجس الشيطـان، وقبل أن أعيـد رأسي للوسادة سمعت نفس ذلك الغناء الذي كـان ينشده أخي، في البـدء اختلط علي الأمر وظننت أنني مازلت أحلم حتى إذا استيقظت تمامـا وأضأت نور المصابيح أخـذت أبحث عن مصدر ذاك الغنـاء ولعـدم وجـود أجهزة في بيتي تبث أغاني أيقنت أن هذا الغناء قادم من أحـد البيوت المجـاورة إلا أنني لم أركن لهذا الخاطـر طويلاً .. فالغناء ينبثق من مكان قريب وكلما اقتربت من أي مكـان شعرت بـه ينتقل لمكـان آخر .. شعـرت بالذعـر إلا أن ترنيماته الهادئة كـانت تجتث الخوف من صدري وأزداد إصغاء لهذا الغناء الشجي ومازلت هكذا حتى أدركني النوم .

في صبـاح اليوم التالي نسيت كل شيء وانهمكت في عدة أعمال متفرقة أنجزتها لبعض الجيران.. وعدت إلى البيت بعد أن أكل التعب كل همتي ونشاطي فأسلمت رأسي للنوم لأرى أخي - كما لمحته ليلـة البارحة - أشعث يركـض في صحراء متسعة وكلما بلـغ نبعا شاخ الماء وغار حتى بدت تجاعيـد الأرض قـاحلـة متشققـة .. فيرفـع صوتـه مغنيا لها بغناء يقطع نيـاط القلب حتى إذا ظهر غراب من الأفق يخفق بجناحيه ويقف على هامة أخي الذي يظل ساكناً للحظات ثم يرفع صوته بالغناء عندها ينقر الغراب رأسه، فيتطـاير دمه في وجهي لأنهض فـزعـة .. مولـولة، وينهض معي ذاك الصوت دافئـا حنونا، ينساب في داخلي فأنتشي .. وها أنا على موعد- ليليـا- مع الحلم والغناء، وكلما نهضت تسـاءلت من يغني في هذا الليل؟!

ومـا إن تنتهي تلك الجار ة من سرد حكـاية السيـدة القبيحـة حتى تقهـقه السامعـة بضحكـة طـويلة وقد تردف:
- مسكينة جارتنا سوف تجن في وحدتها وقد تقول أخرى:

- لو منحهـا الله قليلا من الجـمال لنسيت أن تصغي لهمهمات الليل!!

وعندها شاع خـبر هذه السيدة في الحي جاءتها النساء وكل منهن تزودهـا بنصيحة، وقد أجمع بعضهن على أن بيتها مسكـون بالعفاريت ممـا حدا بالسيـدة أن تذهب لعدة شيوخ ليقرأوا لها القرآن في زوايا البيت وينثروا أدعيتهم وبخورهم، وعندما مضوا استلقت على فراشها ليرتفع الغناء دافئا رطبا لتنهض من رقدتها تذرع الأمكنة بحثا عن صاحب هذا الغناء الشجي .. كان غناؤه هذه الليلة أكثر حزنا ولوعة حتى أنه حرك مواجعها فبكت وعندما علم جيرانها ببقـاء الغناء جزموا بأن الرجل الصالح يقوم ليلياً بزيـارة تلك السيدة ويقرئها السلام، ويظل يواسيها حتى مطلع الفجر، من ليلتها آنست لهذا الغناء، ومن يومها تحولـت المرأة إلى سيدة مباركة تطبب الناس بالبخور والأدعية.

***

في شطـر آخر من الحي جلس ثلة شبـاب يصغون لأحدهم، وهو يسرد حكاية غريبة:
-كنت أتملمـل في فراشي وإذا بغناء شجي يداهمني فجأة، ويحيلني إلى موجة صافية، وكلما انـدمجت معه أحسست بأنني أصبح يـانعـا، ويتسـامق كل شيء في داخلي .. خيل إلي - في لحظات خاطفـة - أنني قادر على أداء نفس الغناء ، فأركز معـه لحفظ الكلمات إلا أنني سرعان مـا أنشغل بحـلاوة الصـوت فأسلم له ذاتي ، ليغدق علي ذاك الإحساس اللـذيـذ المرح .. انخفض الغناء قليلا فمـددت أذني ليأتيني الغنـاء خافتـاً نديـاً منعشاً .. وكأن المغني أصابته نوبة اكتئاب عقب نشوة -فتقت لمعرفة صاحب هذا الصوت، فتجاسرت ومددت خطوتي للخارج، كان الشـارع كالليل البهيم ، فالظلام يعشش على الحي بكثـافـة، وأنوار البلدية الموزعة في الأركان قد لفظت آخر قطرات زيتها، وأسلمت الشارع لليل والسكـون .. أمام هذه الظلمة تراجعت لداخل الدار وأحضرت كشافا وجلت في أنحاء الشارع لم أكن ألمح إلا قططا تمددت فوق أكوام القمامة باسترخاء، أو جرذانا ما إن يفاجئها النور حتى تـركض صوب مخابئها العميقة .. لا شيء حيا في هذه الظلمة إلا ذاك الغناء .. وكلما بحثت عن مصدره تمدد في كـل مكان .. فظللت وقتا طويلاً أجوب الأزقة وعندما أوشكت أن أعود من حيـث أتيت.. أحسسـت أن الغنـاء ينصب من عل .. رفعت الكشـاف عاليا فلمحت طائراً غريباً ذا ريش متناسق الألوان يقف على أسلاك الكهـربـاء الهوائية .. وكلما حاولت إزاحته خفق جناحاه بشدة دون أن يغادر مكانه.

وعندما دققت النظر تبين لي أن قدم العصفور تلتف حولها الأسلاك ، فتناولت عصا طويلة، ومددتها إليه في محاولة لتخليصـه، وعندما عجـزت أخـذت أضرب الأسـلاك بقـوة وكلما اشتدت يـدي على الأسـلاك زاد العصفور في شدوه، وعندما كلت يداي جلست بجوار عمود الكهرباء أنتظر بزوغ الفجر علني أستطيع تخليص هذا الطائر .. وقد أضمرت النية للاحتفاظ به في قفص لكي أستمتع بغنـائه في كل لحظـة وبينما أنا في جلستي تلك إذ بإحـدى السيـارات التي تجوب الحي تتهادى نحـوي فتواريت مسرعـا، والخوف يملأ صدري، وعندما تجاوزتني عدت إلى جلستي أسمع للغناء وأنتظر الصبـاح، وما إن جـاء الغلس حتى خمد الغناء وظننت أن العصفـور قد مات .. فرفعت بصري في اتجاهه .. فلم أره في مكانه .. وقد حدثت لي نفس الحادثة ليلـة البارحة .. ترى : - من يغني في هذا الليل؟! وما إن أنهى حكايته حتى انقلب أقرانه المصغون إليه ساخرين .. قال أحدهم:

- يبدو أن ولعك بالحـمام سيأتي بعقلك .. ساعتها سوف ينـادونك: مجنون الحـمام فـارتفعت موجة من الضحك .. يتدخل معها صوت الشاب:

- أقول لكم أنه عصفور.

وقبل أن يكمل جملته قاطعه أحدهم :
- أصل العصفور كان يرغب في إيصال الكهرباء إلى بيته.

وقال آخر :
- وربما أرسلتـه الشركة لمعرفة سبب العطل الذي يصيب كبائنها . وعندما انهالت عليـه نكـاتهم نفض جلسته وغادرهم

***

تسلل الغناء في أرجاء الحي، وتناقلته الألسن وأيقن أهل الحي أن الغنـاء ينبثق ليليـا، ويظل حتى إذا أتى الصباح توقف عن الغناء .. وقد أضمر الجميع على اكتشاف صـاحب ذلك الغناء الرطب الدفيء .. فما إن يدخل نصف الليل حتى يجوس الغناء في تلك القلوب المتعبة لتنهض من تعبها تدندن معه، حتى قيل إن الأحياء البعيـدة كانت تسمع دمـدمة، مهيبة، شجية تنبثق من ذلك الحي، وأخذت تنتظر ذلك الغناء ليليا - ولايزال أهل الحي من زمن وهم يصيخون السمع ليليا ويتلفتون زرافات وأفرادا، ويخرجون بحثا عن صاحب هذا الغناء حتى أنهم أقـامـوا المتاريس في مواجهة السيارات - التي تجوب الحي ليـلاً - خـوفاً من انقطاع الغناء . وما إن تخطـو عقارب الساعة متجـاوزة نصف الليل حتى تجدهم يسيحون في الحـي ويتساءلون بلهـفة :
- من يغني في هذا الليل؟!

 

عبده خال

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات