صخب البحيرة إبراهيم فتحي

صخب البحيرة

قراءة نقدية في .. رواية صخب البحيرة
تأليف: محمد البساطي

ينتمي محمد البساطي إلى جيل الستينيات من الأدباء المصريين، وكان معهم يرفض الحكاية الرسمية السائدة عما حدث ويحدث في مصر ويحاول أن يحكي رؤيته الخاصة . وقد غاب الكاتب عن مسرح الحياة الأدبية قليلا ثم عاد بنفس الدفء والغزارة ليقدم شهادته وخاصة في روايته الأخيرة صخب البحيرة.

في مجموعتـه القصصية " هذا ما كـان". يحاول محمد البساطي أن ينزع الغمامة عن العينين،غمامة التحيزات والأكـاذيب والأوهام، ليصور التجربة المركزية في الحياة الحديثة كـما هي. إنه يقدم دائما وقائع صلبة وأحداثا ملموسة في فرديتها وانفصالها دون إضفاء استعارات انفعالية عليها، ودون إلصاق قيم مألوفة أو غير مألوفة بها. وتبدو شخصياته ومواقفها دائما متخذة مسافة من تعاطف الكاتـب أو عدم تعاطفه وكأن هذا التحليل الذري للعالم من خلال نزعة موضـوعية يظل عند درجة الصفر من المجـاز. ولكن الإطار الذي يضم هذه العناصر المفردة لكي تشكـل سياقا قصصيا لا يقع في مستوى الوصف المباشر أو الملاحظات المرئية ، بل يشبه مجالا للجـاذبية يـوجـه وينظم ويعيد الترتيب. وسنجد في أعمال البساطي تلك المفـارقة، مفارقة سطح وقائعي وصفي قـائم على الحذف والاختزال والصمت، وبعد مجازي يقترب من أن يكون أسطـوريا. والأسطورة هنا ليست صيغـة جـديدة من كتـالوج الميثولوجيا التقليديـة التي أصبحت نوعا من الأزياء الشائعة في الأدب، بل هي اكتشاف جـديد وبناء جديد للوضع البشري وللشخصية الإنسانية داخله في عالم اليوم وتقدم "صخب البحيرة" كلا متسقا نسبيا من الصور الرمزية والمعاني المتخيلة التي تحكم علاقة الناس بشروط حياتهم. وتلك الحياة في أعمال البساطي عموما مختزلة إلى أشد جوانبها أساسية، إلى أشد دوافعهـا جـوهرية : الميـلاد - الموت، النضج- الشيخـوخـة، العمل - الجنس، المعرفة- الصحبة. كما أن شخصياته تقترب من أن تكون نماذج أصلية.

وإحدى أساطـير العصر كما يقال هي كيف يستطيع الزائدون على الحاجـة، الـذين قـذف بهم في الهامش (تلك الخيـوط المنفلتـة) أن يحولـوا أنفسهم إلى ذوات فاعلة، وأن يحققوا قدرا من المشاركة والمعنى والإبداع وفي "صخب البحيرة" يصنع البسـاطي أسطـورتـه العصرية من مواد مختلفة غير مألوفة، فعلى الرغم من أن روايته تـدور في الأماكن المخصصـة للشعر، حيث الطبيعة والبحـر والبحيرة والسماء والنجـوم والـزورق والعاصفة، إلا أنه لا يبحث عن حوريات بحر ولا عن جنيات في ذلك الركن البعيـد من الطبيعة الذي يبدو كأنه عالم مهجور .

فالصياد العجوز الوحيـد القادم من المجهـول يستقر في المكـان في قارب يختلف عن قوارب المنطقـة المنعزلة ولكنه يواصل جمع الأشياء في مخابئ كثـيرة متناثرة ليبني عشه، ألواح من الخشب والصاج وقوالب طوب. إنه في تجواله الهائم على وجهه يتوق إلى المأوى لا إلى نفسـه وحدها بل لأسرة يتبناها : لامرأة وطفليهـا التوأمين. وهو يبني ذلك المأوى كـما يصطاد أنواعا ممتازة من السمك في براعة، ويعطي صيـده مقابل حاجـاته الضرورية خارج العلاقات التجـارية. وفي مقابل العمل المغترب في محلات الأسمنت التي تشرع في بنـاء المنطقة داخل البلدة يقدم لنا الصياد العجوز عملا متحررا من التبعية والعبودية، عمـلا حرا كـأنه إشبـاع لحاجة طبيعية في الإنتاج والبناء. ويجد المتجول الـوحيـد ملاذا في ظل البيت ورائحة شواء السمـك والموقد والطفلين اللاعبين اللذين يأتي لهما بالحلوى . وعند بناء العشـة يأتي بمرآة للمرأة، ومقاعد قديمة ومراتب أي يقوم بجهد لتأثيث مأوى وإقامـة صحبة إنسانية وانتماء يجعل الحيـاة أكثر راحة وجمالا.

رواية مختلفة

وفي هذه الرواية القصيرة لن نعثر على ما نجده في الرواية عادة من كلية الموضـوع المصـور وكلية الحياة الممثلة، ولا على شبكة العلاقات الاجتماعية ولا على تكـوينها وتطـورها، تلك العـلاقـات التي أصبحت مشـوهـة للإنسان . وفي " صخـب البحيرة "يصـور البسـاطي الصراع لإنقاذ الطابع الإنساني بعيدا عن النسيج الاجتماعي المباشر للعالم، وعن التفاصيل إلا ما تنعكس أصداؤها على أعمق الدوافع الإنسانية، ولن نجد إلا الاستجابات اللصيقة بالنواة الإنسانية. هنا نجد الإنسان في مواجهة مصيره، معنى حياته، وتأخذ الـوقـائع الاجتماعيـة شكـلا طبيعيا رمزيا : البحـر، العاصفـة، ولا يبقى من خريطة السلوك إلا الأوضاع الأساسية .

فالمرأة - دون اسم أو ملامح محددة - يمتلئ جسدها الهزيل ويتـورد وجهها، وتحكـي للعجوز سرها. لقـد عاشت صبـاها مسلوبـة الإرادة منقادة وراء رجلا عقيم ليس زوجا، فيندس في فراشها بعض أقاربه. هذا رجل ضائع تشده الحبال في الشبكـة الاجتماعية وتتركه معلقا في الهواء، وهو ملتصق بصندوقه الحافل بالممتلكـات المرغوبة : صابون عطر الرائحة، ملابس ناعمة كالحرير منقوشة ملونة، عقـد، أساور. وحينما يكتشف خيانتها يأخذ صندوقه بعد أن يضربها ويرحل، وبعد أن يأخذ كل شيء في صندوقـه، ولكنه يفقد نفسـه ويظل وحيدا داخل صندوق الملكية والعزلة وانقطاع الأواصر والعمل المتطفل ( مقاول أنفار) .

أما العجوز الذي يموت في طمأنينة أثناء سماعه للقصـة، فـإن جسمـه الميت يحاط من جـانب الأم والطفلين بمودة ومحبة وتطهير بماء البحر ينزع عن الموت بشاعتـه ورعبه، ويخضع هذا الموت لحضن الحيـاة الحنون. ويدفن مع الصيـاد صندوقـه وبه أشياؤه الحميمة : ملابسه وأوراقه وخاتم فضة ومسبحة، امتداد جسمـه ووجـوده ومشـاعره. وعلى الـرغم من أن المرأة تغادر المكان مع طفليها وتعصف الرياح بالعشة إلا أن الثلاثـة يعودون بعـد أن يكبر الطفلان ويمتلئ المكـان بالمباني ليستردوا في آخر الرواية جمجمة الصيـاد العجوز ليأخـذوها معهم، فهـو يواصل الحياة في إعزازهم له وارتباطهم بذكراه .

وفي خلفية هذا الجزء عن الصياد العجـوز نلتقي بـرجال البحيرة رجـال الجزر البعيدة، كأنهم أعاصـير مدمرة ولكن سرعان ما يتم ترويضها واستئناسها وإبراز ملامحها الإنسانية. وستطفو جثثهـا التي يحملها الموج رابطة بين الأجزاء المتناثرة للرواية.

وفي الجزء الثاني المسمى " نوة " نلتقي بشخصية جمعه وامرأته، فالشخصيات في الرواية لا تتقابل إلا على نحو عشوائي، وليس هناك حبكة توحد الشخصيات جميعا في طـراز مفرد متصل، بل هم يعرضـون تنوعـا غنيا للطبيعة البشريـة. وامرأة جمعه تخرج أيام النوة لالتقاط " الأشيـاء " موضوعات التملك التي يقـذفها البحر ،وأصبح بيتها مكـدسا بـأشيـاء عجيبـة من أصداف وزجـاجـات وملاعق وأطبـاق ومقاعـد مكسـورة. وسيحمل البحـر بقـايـا طرائق حيـاة وأزياء وتـاريخ كائنات بشرية عاشت في الماضي والحاضر. وسيتحول جامع القمامـة إلى محاكاة هزلية لمنقب أثرى، وبيته إلى متحف. وتلتف امرأة جمعه بالملابس الداخلية القصيرة والفساتين الحديثة، وتتراكـم العصور فـوق جلدها. أما جمعه الذي طالما استعبـده العمل الشاق في حمل شكائر الأسمنت والجبس وأسياخ الحديـد وكتم الغبار أنفـاسه حتى كاد يقضي عليه فقد نفـذت العصور المتوالية تحت جلده حتى أعمق أعماقـه، فالأشياء التي جمعها وربط بينها سيف معلق من مقبضه وجرابه عليه عرق صاحبه بعد مئات السنين وغدارات ( بنادق قديمة ) مـزخرفة، يغرق في نقوشها الفنيـة الجميلة، ويستحضر المعـارك وأشكال القتال، ويتحول إلى فنـان يبحث وراء المنفعة والربح، فكل ما يجمعـه من أشياء بـلا فائدة، هنـاك غلايين عليها آثار أسنان وآنية خزفية مكسورة وتعاويذ. ونجد هنا نموذجا لعمل حر في خدمة الخيال المبدع، وانبثاقا لشخصية تقييم علاقات مع عوالم انقرضت دون أن ينقرض معهـا معنى حيـاتها باعتبـارها مرحلـة من ذاكرة الإنسانية .

ومع جمعه نعثر على صندوق ثالث من عطايا البحر، صندوق موسيقى ينبعث منه صوت رجل بلغـة احتار في تحديدها كل المثقفـين. وفي كـل مرة ينصت أحد إلى الصندوق يتخيل شيئا مختلفا، فقد طاف الصندوق مع البحر كل بلاد العالم .

وترتفع في الرواية الأسئلـة عن الهوية لأن جمعه في ذلك الركن الضيق بـدأ ينسب نفسـه إلى تاريخ الإنسانية بكل اتسـاعـه. الناس تختفي ويجيء آخرون، فماذا تغير؟ ويسأل الصندوق كـم واحدا رأيت السيف يقطع رقبته، وكـم واحدا رأيته يتقيأ الدم بعد عمل قـاتل؟ ويخرج هائما ليرى الناس محاولا أن يحتضن العالم الإنساني ثم يعـود بعد سبع سنوات هزيلا رثا ليموت .

طرح الأسئلة

وفي براري الجزء الثـالث ثنائي آخـر من صديقين يحاولان استعادة الطفـولة وألعابها معا، والسمـر بالانطلاق وعقـد الصلات وطرح الأسئلـة ، واسترضـاء أهل البحيرة الذين يقومون بالغارات أحيانا حـاملين لهم الهدايا. ويتساءل أحد الصديقين : لماذا خلقنا الله؟ في ملايين السنين يولد نـاس ويموت ناس. ساقيـة تدور ولا أحد يدري الحكمـة في ذلك. ويكتشف اللذان يرفضـان النضج وتحمل المسئـوليـة أن العـالم مليء بـالأسرار،ويتحرران من العـرف السائد فيتغزلان في لـون الغراب . ثم يهيمان على وجهيهما ضـائعـين. وبعد سنـوات تعود الجثتان طافيتين على الماء، والزوجتـان ترعياهما وتلفانهما بالملاءتين وتجلسان عند رأسيهما.

أمـا الجزء الرابع من الروايـة عن الرحيل فهو يضع اللمسات الأخيرة لـذلك المجاز الأسطـوري عن الوضع البشري. فالأعمدة الخرسانية تنمو مكان عشة الصياد العجـوز، ويعود إلى أحضـان ذويه الـذين صنع انتماءه إليهم بيده، والرحيل هو دائما وصول إلى هدف وتحقيق لمعنى، والحياة الإنسانية الشاملة تحتضن الموت الفردي وتواصل النمو على الرغم من كل التعاسـة والمشقـة والألم.

 

إبراهيم فتحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الرواية