حيث لم يعد السكوت ممكنا.. فقه العنف وحمامات الدم في الجزائر

حيث لم يعد السكوت ممكنا.. فقه العنف وحمامات الدم في الجزائر

حديث الشهر

فاض دم الأبرياء وزاد في الجزائر حتى أنه يوشك على إغراق ضمائر الساكتين، لهذا لم يعد السكوت ممكنًا، حتى لو أدى بدء الحديث إلى بعض المآخذ.

حتى لحظة كتابتي لهذه السطور، فإن آخر ماتوارد نقلاً عن وكالات الأنباء في شأن (المجازر المروعة) في الجزائر، يقول إن نشرة (الرباط) الصادرة باسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ في باريس، اتهمت الجماعة الإسلامية المسلحة بارتكاب مجزرة (غليزان)، وأشارت النشرة إلى أن الجماعة لم تتمكن من إيجاد موطئ قدم لها في هذه الولاية، كما حصل في ولايتي تباريت وبلعباس فانتقمت من الأهالي بهذه المذبحة. وحملت النشرة (كتيبة الأهوال) التي يقودها شاب يدعى سليم، وهو من الموالين لأمير الجماعة في الغرب (مصطفى عقال) مسئولية تنفيذ المجزرة. وأشارت النشرة إلى أن هذه المجموعة تقتدي بكتاب عنوانه (الجامع في طلب العلم الشريف) من تأليف عبد القادر عبد العزيز، وهي تعتبر جبهة الإنقاذ من المشركين.

هنا أتوقف، لكن سيل الصور المروعة عما حدث في الجزائر لايمكن وقفه في الذاكرة، فصل رءوس عن أجسادها، وتقطيع أوصال أطفال أمام أعين ذويهم، وانتهاك ثم ذبح، حمام من الدم يجري فيه عرض من عروض الرعب اللابشري واللامعقول. وهذا (الخروج) عن حدود البشرية والعقل، يجعلني لا أميل إلى رمي الكرة في ملعب أي نظام أو تنظيم بشري مؤسسي، وأبحث عن احتمال التفسير في سياق أطروحات (نفي الآخر).. صحيح أن النظم المؤسسية يمكن أن تمارس دور نفي الآخر بإقصائه عن لعب دوره أو ممارسة حقه أو تجميده أو حتى إعدامه، لكن النفي البشع للآخر إلى درجة التمثيل به حياً وميتا، فهو من فعل أفراد أو جماعات شاردة جسداً وروحاً، أي تكوينا وعقلاً.

في هذا السياق تكون وقفتي، ويتجه بصري صوب فرق أو جماعات الغلاة في تاريخنا البعيد والقريب. وهو غلو يبدأ من شطط التأويل إلى شطط الفعل. والتأويل كما يعرفه أبو الوليد ابن رشد (520 ـ 595 هـ ـ 1126 ـ 1198م) هو: (إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز). هذا المفهوم يعني بالطبع التأويل الحميد الذي لجأت إليه كل تيارات الفكر الإسلامي، مع اختلاف الإكثار منه أو الاقتصاد فيه، لكنها جميعاً، وبإزاء بعض ظواهر النصوص التي لاتتفق مع المقاصد الشرعية أو الكليات الاعتقادية، لجأت إلى التأويل.

وبعبارة الغزالي (450 ـ 505هـ، 1058 ـ 1111م) (فإنه ـ أي التأويل ـ ما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه).

المشكلة ليست في التأويل بالطبع، بل في نفوس ومقاصد اللاجئين إليه أو المتذرعين به، وفي تاريخ (الغلاة) بدأت المسألة بغلو في التأويل أخرج المختلف معه أو (الآخر) من الملة، ثم تراكم الغلو على الغلو فأخرج هذا الآخر من حدود الحياة والنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ثم ضاع الحق في غلو الغلو وعلى أيدي المنحرفين عقلاً وروحاً فكانت حمامات الدم ومجازر الرعب.لهذا توقفت أمام آخر أخبار حمام الدم في الجزائر، متأملاً احتمال ما أوردته نـشـرة الرباط، وإن كان الإمعان ونشدان الحقيقة يقتضيان بحث (شتى) الاحتمالات.

المهمة الصعبة

وكأنك تبحث عن إبرة في كومة قش، إذا أردت أن تبحث اليوم في الموضوع الجزائري، فإلى هذه الدرجة هو معقد وإلى هذه الدرجة هو صعب على الفهم، فمن بلاد كانت قبل عقدين من الزمان على أبواب العصرنة، إلى بلاد تخوض اليوم في بحر من الدم ويجتاح أهلها الخوف من المستقبل، والكل لايريد أن يعرف ماذا يجري هناك، وبرغم صعوبة الخوض في الموضوع الجزائري وجب أن نتحدث عنه وأن نكتب فيه، وأن نطالب بوقف هدر الدم المسفوح فيه، على الرغم من التحذيرات التي قدمها لنا بعض الكتاب الجزائريين بألا نخوض في الموضوع، كما كتب على سبيل المثال الكاتب الجزائري محيي الدين عميمور حيث قال: (مللنا من مناشدة الكتاب والمثقفين العرب لكي يتوقفوا عن اعتبار القضية الجزائرية موضوع من لم يجد أو لم يستطع العثور على موضوع يستعرض فيه عبقريته الفكرية وفكره الخلاق) وله بعض الحق في هذه الصيحة، فهي صيحة نابعة من القلب لكف أولئك الذين يخوضون بالكلمات دون علم في الشأن الجزائري بينما الشعب الجزائري يخوض حتى ركبته في الدم الذي هو دمه.

المشهد الجزائري لا يسر الصديق أو العدو على السواء، لقد أرعب العالم هذا المشهد، كما أرعب العرب هذا القتل العشوائي والذبح بالسلاح الأبيض للرجال والنساء والأطفال، والذي تقدر المصادر المحايدة أنه قضى على حوالي ستين ألفا من الجزائريين منذ سنة 1992 ـ سنة بدء مسلسل هذه المجازر.

البقاء بعيدا عن تناول هذا الموضوع والكتابة حوله هو وقوف على الهامش وفرجة غير محمودة، مثلها مثل كيل الاتهامات غير المبنية على حقائق لهذا الطرف أو ذاك في الجزائر أو خارجها، والواجب أن نرفع الصوت ونقرع الجرس ونقول كفى بالله إراقة الدم، ما أصابني بالذعر أكثر هو ما نشرته المجلة الفرنسية الأسبوعية واسعة الانتشار (لونوفيل ابزرفاتور) في عددها 15 ـ 21 يناير الماضي، ولا أدعي القطع في صحة هذا الزعم أو خطئه على وجه اليقين، ولكنني أشير إليه بصفة أن المجلة لها شيء من المصداقية المهنية، حيث قالت إن القائمين على القتل في الشهور الأخيرة هم جماعة تدعي الإسلام وتسمي نفسها بالمسلمين الغاضبين، وهذه الجماعة ليس لها برنامج سياسي محدد، وتعتقد أنه ليس مهما من يُقتل أو كيف يُقتل، ولكن المهم هو القتل في حد ذاته وهو هدف يجب السعي إليه، وأفرادها يحلقون حواجبهم ويقطعون السبابة من أيديهم اليمنى، أي يقطعون الإصبع الذي يسبح باسم الله عز وجل.

المسألة الجزائرية تهم كل العرب لا لأن الجزائر بلد عربي يجب على الجميع الاهتمام بما يحدث فيه فحسب ـ خاصة إذا كان ما يحدث يفوق كل تصور ـ ولكن، أيضا، لأن ما يحدث في الجزائر اليوم يمكن أن يحدث غدا في مكان آخر من الأرض العربية والإسلامية، إنه الإرهاب المنظم تارة باسم السياسة وتارة أخرى مع الأسف باسم الدين، وإن سقطت الجزائر في خضم الفوضى سقطت غدا بلدان عربية أخرى في هذه الفوضى التي لايعرف أحد لها قاعاً.

وعلى الرغم من أن القتل في الجزائر إبان عقد التسعينيات قد حصد مئات الآلاف من الضحايا حتى الآن، فإن الموجة الأخيرة لافتة للانتباه من جانبين على الأقل، فهذه العمليات الأخيرة أولا استهدفت الجماعات السكانية الريفية التي تعيش في الأراضي الخصبة وهي الأراضي التي استولت عليها الدولة حال الاستقلال وحولتها إلى تعاونيات زراعية تابعة للقطاع العام، والثانية أنها تتم وكأن الغرض منها هو أن يجري تنفيذها وفق أعلى درجات البشاعة التي تشمئز منها النفس البشرية السوية لنشر أشد ما يمكن من شعور الرعب في أوساط السكان، فكلما حدثت مجزرة تبعتها قوافل من النازحين من الريف إلى أطراف المدن الجزائرية وزاد البؤس والشقاء لهؤلاء المواطنين العزل، إنهم يكونون عرضة لأن تحصدهم الانفجارات في وسائل النقل العامة بعد ذلك.

رمضان الماضي شهد أكبر حملة عنف في التاريخ الحديث للجزائر، حتى أصبح بحق رمضان الدم في تلك البلاد، وحرك الساكن من الشعور العالمي إلى درجة أن أوربا والبلاد الغربية قد حاولت التدخل المباشر ـ وإن بأشكال باهتة ـ بدلا من الاستنكار اللفظي، الذي اعتمدته معظم الدول العربية.

الحيرة والأسئلة الصعبة

حيرة العربي والمتابع للشأن الجزائري تملكتني عندما شرعت في إعداد هذا المقال، فقد وجدت أن هناك الكثير من المادة الصحفية والأرشيفية التي تناولها كتّاب عرب أو أجانب في المشرق والمغرب كل من زاويته الخاصة وبمنظوره المختلف، بل إن المادة المنشورة متراكمة إلى حد التخمة، وكل منها يلوم هذا الفريق أو ذاك في الجزائر أو خارجها، ويقدم التحليل لهذه الظاهرة ناظرا إلى أحد جوانبها، ولا أستطيع أن أدعي أن تلك الاجتهادات صحيحة أو غير صحيحة كليا، ولكنني أستطيع القول وبشيء من الاطمئنان إن تلك الكتابات أو معظمها، بعيدة عن التحليل الجزائري الخاص والمتوازن غير المنحاز، ومن اطلاعي على ما كتب ومقابلة بعض الجزائريين الذين تسنى لي فرصة مقابلتهم خارج الجزائر والذين مازالوا يعيشون في الجزائر اليوم وهم يحترقون بنار هذه المأساة، أقدم للقارئ بعض التفاسير والاجتهادات لما يحدث في الجزائر ولا أدعي أنها التفسيرات النهائىة أو القاطعة.

وجهات النظر

تتعدد وجهات النظر في تفسير الأزمة الجزائرية، فمن قائل إنها وليدة مطلب التغيير الذي طالت المناداة به في تلك البلاد، فالتطورات التي شهدها المجتمع الجزائري منذ التحرر من الاستعمار الفرنسي، قد دفعت العمل الوطني للانحياز لتشكيل الحزب الواحد، جريا على عادة المد القومي وقتها في الستينيات المنصرمة، والتي شهدتها الساحة العربية في كل أقطارها، وكذلك تماشيا مع الأفكار الماركسية السائدة وقتها، ولقد شارك أيضا التصور الإسلامي السياسي في تحبيذ فكرة الحزب الواحد، جبهة التحرير التي حكمت الجزائر لفترة طويلة كانت مظلة لكل هذه التيارات، ولقد تحققت في هذه الفترة الطويلة نسبيا في الجزائر بعض الإنجازات التي كانت عنوان المرحلة، إلا أن الشعوب لاتركن إلى وضع قائم لأن التطور هو سنة الحياة، ففي نهاية الثمانينيات بدأت أطراف من المجتمع الجزائري في التململ نتيجة الضغوط الاقتصادية والسياسية، وكان التململ ملموسا ووصل إلى قمته في سنة 1988 التي شكلت نهاية مرحلة، ظهر التململ غير مسيس في البداية، يطالب بالتعددية السياسية والانتقال إلى نظام ديمقراطي نتيجة التحول في البلدان الاشتراكية الأوربية، واستجاب الحكم وقتها للسير في ذاك الطريق، وبدأت التجربة التعددية في الجزائر في انتخابات البلديات سنة 1990 ثم الانتخابات التشريعية سنة 1991، وكان وقف هذه المسيرة بتدخل من أعلى على النحو الذي يعرفه الجميع اليوم، بداية المشكلات الحالية للجزائر، والأطراف المختلفة تنحو باللائمة كل منها على الآخر، وكل له حججه المختلفة، فالجماعات الإسلامية ترى أن الانتخابات قد بشرت بأغلبية مؤيدة لخطها السياسي، ومن حقها بالتالي إقامة (الدولة الإسلامية) التي بشرت بها، والجماعات الأخرى ترى أن القيام بذلك هو هجر للديمقراطية إلى الأبد، وتسخير للديمقراطية كوسيلة للوثوب إلى السلطة ثم التخلي عنها، وبين هذه الأطراف المتنازعة وقعت الجزائر فيما وقعت فيه بعد ذلك، والأصل هنا عدم الثقة المتبادلة بين أطراف أساسيين في المجتمع الجزائري، فعندما ألغيت التجربة الديمقراطية كانت عبارة عن تزكية للجناح المتطرف الذي قال إن الديمقراطية هي لعبة للأنظمة، وإنها تلغي كل مسار ديمقراطي إن لم يكن لمصلحتها.

هذا الخلاف أدخل فئات أخرى على الخط بعد ذلك واختلط الأمر إلى حد العبث، وأصبح العنف صاحب الصوت الأعلى، وانتثرت جثث الجزائريين بكل فئاتهم، وتملك الخوف والرعب أغلبهم.

الدولة الجزائرية الحديثة

يواجه المحللون والدارسون للجزائر مهمة صعبة، فالمعلومات والبيانات الموثقة قليلة وكثير منها مكتوم نتيجة لطبيعة الدولة الجزائرية التي نشأت بعد الاستقلال، كانت فترة حكم أحمد بن بيلا فترة قصيرة، والفترة الأطول كانت لحكم هواري بومدين، الذي كان من المفروض أن وراءه مجلس قيادة ثورة لايعرف أحد على وجه الدقة ممن يتكون وعدد الأعضاء فيه، ولو أن بعض الدراسات تقول إنهم ستة وعشرون شخصا، والقائمة الرسمية لأسماء هذا المجلس لم تعلن قط، وكانوا يتناقصون بسبب العزل أو الاستقالة أو الوفاة، وبقي في نهاية عهد بومدين قلة منهم يشار إليهم في بعض الأوقات بـ (الأوفياء). في عهد بومدين ورفاقه، ضعفت التشكيلات السياسية الأخرى غير تشكيل الدولة الرسمي، وحتى حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الحاكم كما يفترض حسب النصوص، كان حزبا على الورق، وبالتالي أصبحت الدولة هي القوة الوحيدة المنظمة في المجتمع، بعد أن قضت على كل المعارضين وأبعدتهم، وأصبحت المرجعية الأولى والأخيرة هي مرجعية الرئيس، استفادت فترة بومدين من استقرار نسبي خولها إصدار قرارات اقتصادية واجتماعية، كان عنوانها الأيديولوجي التسيير الذاتي، وهو نوع من الاشتراكية يقارب اشتراكية جوزيف بروز تيتو في يوغسلافيا، ومن الملاحظ أن التمزق الذي أصاب الدولة اليوغسلافية في التسعينيات، قد كان له ظل ولو بشكل مختلف ومن منظور آخر في الجزائر في الفترة نفسها، لفقدان المرجعية، موت الرئيس، وأصبحت المرجعية هي الجيش، كما قال لي أحد الأخوة الجزائريين المطلعين، إن سقط الجيش سقطت السلطة، واحترق الوطن، مثل أن يسقط ملك بلجيكا مثلا، وهو قول ليس فيه من المبالغة الكثير.

بعد وفاة بومدين سنة 1987 وجدت الجزائر نفسها تنقد المسيرة التنموية السابقة من جانب، وتدخل في صراعات القادة من جانب آخر، فقد تركت دولة بومدين خلفها ديونا دولية، وصناعة ثقيلة غير فاعلة، وجيشا من العاطلين ينمو باطراد، كما تركت خلفها صراعا حادا بين الأوفياء، استقر في النهاية لتنصيب الشاذلي بن جديد، وبدأت القيادة الجديدة تعتمد على سياسة ليبرالية في الاقتصاد تمهيدا لسياسة ليبرالية في الحكم، بعد أن نما المطلب الجزائري للتعددية وضاقت في الوقت نفسه فرص الدولة للوفاء باحتياجات الأغلبية، قاد كل ذلك إلى مأزق انتخابات سنة 1991، لقد أدى توازن السكون في المرحلة البومدينية إلى فوضى الاضطراب في المرحلة التالية، لقد انشرخ المجتمع المكبوت تحت وطأة المطالب الديمقراطية إلى درجة مبالغ فيها، فاندفعت عشرات الأحزاب (بلغت ستين) تتصارع في الساحة الإعلامية وتوجه الاتهامات إلى بعضها البعض وإلى النظام السياسي القائم وإلى تاريخ التطور السياسي في الجزائر، وأصبح شعار الدولة الإسلامية شعارا جيدا للتجنيد، حيث العودة إلى الماضي تحمل من المخاطر المعروف، والبقاء في حالة الفوضى يحمل من المخاطر المحتمل.

لولا الأحداث الدائرة في الجزائر اليوم لكانت الحالة الجزائرية شبيهة بكل الحالات المشابهة التي عرفها تاريخ العالم النامي الحديث، فالنزعة التنموية ذات الاعتماد المركزي معظمها، إن لم يكن كلها، قد وصل إلى الفشل، لقد قامت الدولة المركزية البيروقراطية بوضع يدها على مقدرات الشعب، وظنت أنها بديل لكل المبادرات، وأنها تعرف خير الشعب أكثر مما يعرف هو، لقد أوصلت المركزية إلى شللية وسلطوية ثم كان الفساد، ولو لم تقم القوى الإسلامية بفتح الصراع لكانت هناك قوى اجتماعية أخرى قد قامت بذلك، فالحدث الجزائري جديد من حيث خطابه السياسي وطريقة التعبير عن هذا الخطاب ولكنه ليس جديدا من حيث منحاه الاجتماعي.

التفسير الاجتماعي الاقتصادي

كثير من الأدبيات السائدة تميل لتفسير ما يحدث في الجزائر من حيث الدافع الاجتماعي الاقتصادي، فقد تشكلت في مسيرة الحركة العامة مجموعة من المظاهر منها على سبيل المثال هجرة من الريف إلى المدينة وهي ظاهرة حدثت في الكثير من الدول النامية، إلا أنها في الجزائر تصاحبت بصراع بين الملاك والمستأجرين في الريف، وأصحاب العمل والأجراء في المدينة، وأصبح الشباب العاطل عن العمل في المدينة مجاله هو الاهتمام بالسياسة، وبرغم أن الشباب العاطل في الريف هم أكثر من حيث العدد، فإن المشاركة السياسية في المدينة هي الأنشط، وكلما جاءت دفعة من الريف إلى المدينة انضمت لجيش العاطلين، والمهيئين مباشرة لتلقي أي خطاب يبدو منقذاً لهم مما هم فيه من عوز وبطالة.

الصراع الاجتماعي في ظل التعددية غير المنضبطة، والتغطية الإعلامية الضخمة، والحريات المكتسبة الجديدة، كحركة التظاهر والإضراب والمسيرات طرح بقوة ليس تبادل السلطة ولكن شكل الحكم في الجزائر، وطالبت الفئات الجديدة بتغيير نوعي لهذا الحكم، خاصة بعد انتصار الثورة الإيرانية وغلبة المجاهدين الأفغان في أفغانستان على ماكينة سياسية وعسكرية ضخمة هي الاتحاد السوفييتي، ومن غريب الأمور أن الدولة المركزية الجزائرية إبان قوتها وخوفا من التغريب الذي كان يطالب بانفتاح أكبر على الممارسة الديمقراطية الغربية، استضافت لفترة طويلة ملتقيات دينية سنوية دعت إليها دعاة من المشرق لبث الدعوة الدينية (الملتقى الإسلامي) التي كان المتصور لدى متخذي القرار آنذاك أنه دعوة خالية من السياسة، وربما يكون كذلك في بداية الأمر، ولكنه ربى كوادر متوسطة كانت جاهزة عندما دعت الحاجة بعد التغيير في التسعينيات، ودعوة هؤلاء بالجديد والتراثي في آن هي التي وجدت لها أذاناً صاغية من رجال على قدر كبير من الاستعداد للتضحية بين الشرائح المتوسطة ذات الأصول الريفية العاطلة عن العمل في المدينة أو من العمال السابقين الذين طردوا من أعمالهم نتيجة التحول من اقتصاد مركزي إلى اقتصاد حر، فليس لديهم شيء يفقدونه، فشكلت هذه القاعدة الاجتماعية للدعوة السياسية الدينية وصارت بعد ذلك قاعدة لاتنضب، والتي خاضت بها الصراع السياسي الذي مازال محتدما.

العروبة والفرنسة

على الرغم من أن الجزائر خاضت حربا شعواء من أجل التحرير، فإنها دخلت بعد ذلك في إشكال ثقافي، كان عنوانه الرئيسي في الستينيات والسبعينيات هو التعريب، واستطاعت مدرسة التعريب أن تفرض وجودها في الفضاء المدرسي، ولكنها فشلت في الفضاء الإداري والنفسي، حتى قيل إن هواري بومدين نفسه وهو الذي تعلم العربية في الأزهر جاء بمدرسين خاصين بعد وصوله إلى الحكم لتعلم الفرنسية، والعلاقة بين الفرنسة والعربية في الجزائر أكثر من صراع لغة، فهي من جهة صراع ثقافة، ومن جهة ثانية صراع تنمية، فأصبحت ثنائية تعريب التعليم دون تعريب الإدارة ثنائية ملحوظة في الجزائر ساهمت ببلورة صراع فيما بعد بين التراثي والحديث، انقسم في شق منه بين العروبي والإمازيغي أيضا، فتعددت مستويات الصراع.

الإسلام والصراع السياسي

في الجزائر اليوم أكثر من جماعة إسلامية تتعاطى العمل السياسي، ووضع الجميع في سلة واحدة هو خطأ في التحليل غير مرغوب، إلا أن الملاحظ أن الجزائر قد رفدت الصراع في أفغانستان بعدد وفير من المتطوعين، بعض المصادر تضع عدد متطوعي الجزائر في الحرب الأفغانية أكثر بكثير من عدد المتطوعين لأي بلد إسلامي أو عربي، عاد عدد من هؤلاء مثل غيرهم من الأفغان العرب متشبعين بشكل الصراع في أفغانستان، تلك عملية معروفة في سيكولوجيا الحروب والصراعات، فمن يحمل السلاح خاصة في حرب أهلية لايعود التقييد بالقانون المدني عنده مقبولا بسهولة، وإن تزامن ذلك مع رخص للحرب في البلاد نفسها فقد يقع ذلك موضع الرضا والقبول، ومن ناحية ثانية لم يتوافر للجزائر فقهاء بالمعنى العام للكلمة كالذين توافروا في بلاد أخرى، فمعظم القيادات الدينية كانت سياسية حديثة العهد، كما أن تعليمها الفقهي والعام بسيط أو بعيد عن الفهم الأعمق لمفهوم الإسلام، لذلك تكثر الاجتهادات بينهم، كما تتفرع الجماعات كل حسب (أميرها الجديد) وتفرخ هذه الجماعات بدورها جماعات عنقودية أخرى إلى درجة عدم معرفة من هم القائمون على أمرها أو ما هي برامجهم السياسية، وللتدليل على هذا الأمر، فإن أربع جماعات سياسية إسلامية جزائرية قد أعلنت الهدنة من طرف واحد، وهي الجيش الإسلامي للإنقاذ، الجبهة الإسلامية المسلحة، الباقون على العهد، والجهاد الإسلامي المسلح، كما أعلنت الجماعة الإسلامية المسلحة ولاءها للدولة، ومع ذلك كله فإن القتل لايزال جاريا وبضراوة في الشعب الجزائري، وأخطر ما يجري في الجزائر هو فقه العنف، أي تبرير ارتكاب الجرائم تبريرا دينيا، وهذا التبرير بالخروج على المجتمع منتشر في أدبيات كثيرة في ساحتنا العربية، ويقدم جملة من التبريرات، سواء كان في مصر أو الجزائر أو بلاد عربية وإسلامية أخرى، وعندي فإن ثقافة العنف هذه هي أخطر ما تعرضت له الثقافة العربية، وقد أخذت هذا الشكل في الجزائر لأن الظروف الموضوعية جاهزة، ومتى ما نضجت ظروف اقتصادية اجتماعية في بلدان عربية وإسلامية أخرى فيمكن أن نرى شيئا مشابها لما نراه في الجزائر، والأصل في مجاراة هذا الفكر ينبغي أن يكون بفكر مستنير مصحوبا بشجاعة أدبية لم تعد من الكماليات اليوم أو من الجائز السكوت عنها.

تفسيرات أخرى

من التفسيرات الأخرى أن هناك (مافيا) في الجزائر من جماعات غير منضبطة، أو فروع لجماعات منشقة استعذبت القتل من أجل السرقة أو أمور أخرى، وذلك أمر ليس ببعيد بعد انهيار احترام القانون، وهذا يحدث في بلدان أخرى وإن كان يحظى بأقل الأضواء الإعلامية، فقد قيل إنه مثلا في مدينة موسكو اليوم هناك بين مائة إلى مائة وخمسين ضحية لهذه الجماعات الإرهابية المنظمة (المافيا) دافعها الرئيسي هو المال، وفي الجزائر أحياء كاملة تسيطر عليها بعض (المافيا) والتي تقوم بتهديد المواطنين وإرهابهم أو دفع المطلوب. وهذه لن تعدم القدرة على رفع لافتات مختلفة سواء دينية أو دنيوية سواء بالكذب أو بالتقمص.

الإدانة القاطعة

ومهما كانت التفسيرات أو الذرائع فإن شيئا لايمكن أن يبرر هذا العنف العشوائي والهمجي، فتحول القتل إلى وظيفة ليس بالأمر الجديد، إلا أن هذه الوظيفة لها حدود ولها أهداف، فإن كان وقوع الصراع والحرب بين أولئك الناس الذين يخشون البطالة، فإن الحل في إيجاد فرص الشغل، والصراعات الأهلية عادة ما تنتهي عندما تفقد الأطراف المختلفة الاهتمام بها، أو تفقد دوافعها، أو الاثنين معا، فقط تلك الحروب العبثية هي التي تستمر، والتي يقودها يائسون مثل مرتكبي جرائم القتل المتسلسل، كلما تقدم الزمن بواحد من هؤلاء ارتكب جريمة جديدة، عالما بتورطه السابق.لقد فقدت عناصر الجماعات المتورطة في المذابح في الجزائر طبيعتهم البشرية وسكن عقولهم الشيطان، وتحول القتل لديهم إلى متعة، إنهم ذئاب جائعة في هيئة بشر، ولم يمر بالتاريخ العربي أو الإسلامي مثل هذا الجنون الخارج عن كل ملة، حتى فرق الحشاشين على ما كانوا عليه من صلف عند قراءة ما قاموا به لايرقى إلى مثل ما نشاهد في الجزائر اليوم. ومع ذلك فإن الشعب الجزائري الذي قاوم أقسى أشكال الاستعمار وأشرسه هو قادر بالتأكيد على تجاوز المحنة، والبشائر تقول لنا إن تابعنا مايدور اليوم من تطور على الساحة السياسية والاقتصادية التنموية بشكل عام إن الجزائريين قادرون على حل مشكلاتهم، فقد استكملت المؤسسات السياسية بناءها، وأصبح لدى الجزائريين مؤسسات ديمقراطية تقوم بعملها، كما أن المرجعية قد تخطت التحول الصعب من مرحلة الزعيم إلى مرحلة المؤسسة، ولقد تم كل ذلك بالكثير من الألم ولكنه على كل حال قد تم، والمطالبة بالتدخل الخارجي هو نفاق سياسي لن يؤدي إلى أي نتيجة، هذا لو تم.

وكل المهتمين بالشأن الجزائري عليهم دعم الحكم المؤسسي القائم والتأكيد على استكمال مؤسساته، ومن ثم إدانة القتل العشوائي بكل ما يستطيعون من قوة وبأعلى الأصوات.

 

محمد الرميحي

 
  




ثكالى مذبحة بلدة بنتالها الجزائرية التي راح ضحيتها 200 إنسان





مشيعون لعشرات من ضحايا مجزرة بلدة بوفاريك الجزائرية





سيدات جزائريات يبكين ضحاياهن في إحدى المجازر