لغز عند حافة الكون رؤوف وصفي

لغز عند حافة الكون

لعل الكوازارات أو أشباه النجوم هي أكثر الأجرام الفضائية غرابة، فهي تثير حيرة العلماء ودهشتهم وتمثل تحديا للفيزيائيين الذين عليهم تفسير طاقاتها الهائلة، ولعلماء الفلك الذين يسعون لشرح مدى أهميتها في تاريخ تطور الكون.

تم اكتشاف أول كوازار عام 1960 ، أثناء التمييز البصري للمصادر التي طلق موجات راديوية قوية في الفضاء. وساد الاعتقاد لفترة بأن الكوزارات مجرد نجوم عادية. ورأى بعض العلماء أن الكوازارات هي نجوم في مجرتنا ( درب التبانة ) ، إلا أنها تعد الآن أكثر الأجرام الفضائية بعداً عنا. وفي عام 1963، اكتشف علماء الفلك مصدراً غريبا للموجات الراديوية من حيث الشدة وصغر حجم المصدر، وأطلق عليه (3 ك 273) أي رقم 273 في مصنف المصادر الراديوية الثالث لكامبردج (3 ك). واعتقد علماء الفلك في ذلك الوقت، بأنهم أمسكوا بتلابيب نوع جديد وغير عادي بالمرة من النجوم، بيد أنه عندما أخذت الأطياف الضوئية لهذا الجسم لاكتشاف طبيعته، اتضح أنها لا تمت بصلة لأي نجم! إذ كانت معظم هذه الأطياف. عبارة عن خطوط ابتعاث عريضة قوية، تختلف عن أي شيء معروف للإنسان، بدلا من خطوط الامتصاص الضيقة المعتادة للنجم. وبعد أن بحث العلماء هذا الطيف بإمعان لفترة من الوقت، أدركوا أن خطوط الابتعاث هي سلسلة مألوفة من خطوط الهيدروجين المزاحة إلى موجات أطول ( أكثر احمرارا ). وكان معنى هذه الزحزحة الحمراء لخطوط الطيف، أن الجسم 3 ك 273 يبتعد عنا بسرعة هائلة تبلغ 16% من سرعة الضوء، وأنه على مسافة نحو 3 بلايين ( ثلاثة آلاف مليون ) سنة ضوئية، وكانت هذه السرعة أكبر من سعة أي مجرة معروفة في ذلك الوقت . وتأكد العلماء أن هذا الجسم الفضائي المكتشف ليس نجما على الإطلاق . ونتيجة لذلك واجه علماء الفلك صعوبة كبيرة ليتقبلوا الصورة الكونية لمثل هذه الأجسام الغريبة التي يصدر عنها هذا القدر الهائل من الطاقة برغم حجومها الصغيرة نسبيا . ومن ثم أطلق عليها اسم "مصادر راديوية شبه نجمية Qyasi Stellar Radio Sources واختصاراً Quasars كوازارات، حيث إن هذه الأجسام تبدو كنجوم ولكنها في الحقيقة تختلف تماما عنها.

ويمكن للكوازار أن يزيد في ضيائه مائة مرة على ضياء مجرتنا كلها - التي تحتوي على مائة ألف مليون نجم - على الرغم من أنه يحتل منطقة في الفضاء تزيد بقليل عن مجموعتنا الشمسية . لكن مصدر هذه الطاقة الهائلة ما زال مجهولا لنا. ولكن هناك عدة نظريات تحاول إيجاد تفسير علمي لها.

وإحدى النظريات تقول إن الموجات الراديوية تولدها الإلكترونات المنطلقة بسرعة قريبة من سرعة الضوء في مسارات لولبية في المجالات المغناطيسية، ومن الضروري حدوث بعض العمليات الفيزيائية شديدة العنف، لإنتاج هذه الجسيمات دون الذرية النشطة. وهناك نظرية تقول إن الطاقة تولدت من فناء المادة والمادة المضادة، وترتب على ذلك إنتاج الإلكترونات والبوزيترونات (الإلكترونات المضادة)وأشعة جاما. وبخلاف المشاكل المرتبطة بتوافر المادة المضادة في المقام الأول ثم الحيلولة دون تفاعلها مع المادة ، حتى يوضعا معا في داخل الكوازار، فإن هذه النظرية تحتاج إلى شرح وجود المزيد من المقادير الهائلة من الطاقة في مجالات مغناطيسية لتعجيل الإلكترونات والبوزيترونات إلى سرعات هائلة ثم إطلاق الإشعاع السنكرتروفي Synchrotron Radiation الذي يصدر عن الكوازار. أن أوجه الشبه الكثيرة للخصائص الملحوظة في الكوازارات والمجرات الراديوية والمجرات السيفرتية Seyfert ( نـوياتها مكدسة وشديدة الضياء) توحي بشدة بأن الكوازارات هي أنوية نشطة للمجرات. يوجد دليل إحصائي يوضح أن الكوازارات ذات الزحزحات الحمراء الكبيرة منتشرة في الكون أكثر من تلك التي لها زحزحات حمراء صغيرة . ونظـرا لأن الأجسام الفضائية ذا الزحزحات الحمراء الكبيرة على مسافات شاسعة في الفضاء، وأنها أطلقت إشعاعاتها منذ عصور موغلة في القدم، فلا بد أن الكوزارات كانت شائعة في الكون منذ آلاف الملايين من السنين. ولان هذا يتفق تقـريبا مع الحقبة التي يعتقد بأن المجـرات تكـونت فيها، فمن المحتمل أن تكون الكوازارات قد ارتبطت بميلاد بعض المجرات.

يرى بعض علماء الفلك أن طاقة السـوبر نوفـا النجوم المتفجرة ربما تكون هي المصدر الذي تستمد منه الكـوازارات طاقتها. ولكن يجب أن نحتاج إلى مائة مليون انفجار سوبرنـوفا لكي يمكن تعليل تلك الطاقة الهائلة التي تصـدر عن الكوازارات. ولقد قـدر علماء الفلك أن قوة الإضاءة الحقيقية للكوازار 3 ك - 48 تبلغ حوالي تريليون (مليون مليون) شمس، مثل تلك التي تدور حـولها أرضنا، كما قدروا أن الطاقـة الحقيقية أكبر من ذلك، ومعنى ذلك أن الإضاءة التي تصدر عن هذا الكوازار تساوي قوة الإضاءة التي تصدر عن عشرين أو ثلاثين مجرة من المجرات شديدة اللمعان.

ولعل أفضل تفسير مقبول - حتى الوقت الحاضر -للطاقة في الكوازارات ، هو أن الكوازار ثقب أسود هائل محاط بقرص ملتحم من الغـازات، يدور حولـه في نواة مجرة .

والثقب الأسود والقرص الملتحم بـه ، لا شك أنهما من الصغر والقوة بما يكفي لتفسير الحجـوم الضئيلـة للكوزارات وضيائها الشديد .

ثقب أسود .. في القلب

لقـد حيرت هذه الخصـائص علماء الفلك لسنوات طويلـة، لكن الكثير منهم يعتقدون الآن بأنهم يعرفون ما هـو الكوازار : ثقب أسود جبار دوار مـوجود في قلب مجرتين متصـادمتين. ويتكـون الثقب الأسود عندما يتكدس قـدر هائل من المادة، بحيث لا يمكن لأي ضغط معـروف أن يتحمل قوى الجاذبيـة الهائلـة إلى الداخل، ثم يقـترب حجم الكتلة من الصفر.

ولا يمكـن للمادة أو الضـوء الهروب من الثقـب الأسود، الذي يعد بئرا للجاذبيـة حيث يتم امتصاص المادة - كالنجوم أو الغازات بالقرب من نواة المجرة - إلى الداخل. وتدور المادة حول الثقب الأسود مكونة قرصا ملتحما Accretion Disk ويمكن للاحتكـاك داخل القرص أن يولـد طاقة بالمقادير اللازمة لتفسير الإضاءة الشديدة للكوازارات. كما يطلق الثقب الأسود الدوار كمية هـائلة من الجسيمات المشحونة التي تزداد سرعتها أكثر بواسطة المجالات المغناطيسية في القرص الملتحم، وإذا يولد الإشعاع السنكروتروني.

وبوسع مركز كل مجرة متصادمة أن يؤوي ثقباً أسود ،وفي هذه الحالة يمكن أن ينـدمج الثقبان الأسودان . في ثقب أسـود واحـد جبـار مشترك، أو أن التصـادم بين المجرتـين يحلـق ثقبا أسود. وفي كلتـا الحالتين ينشأ ثقب أسـود هائل، وينجـذب إليه معظم الغاز الموجود في المجـرتين المتصادمتيـن. وعنـدما يسقط الغـاز داخل هذا الثقب الأسود، ترتفـع درجة حرارته بشكل هائل، حتى أنه يشـع مقادير هائلة من الطـاقة من حيز بالغ الصغر، ويعنى هذا ميـلاد أحد الكـوازارات.

في عام 1991 اكتشف العلماء "كوازار"أطلق عليه 0725-202/BR يعتقد بأنه أبعـد الكوازارات إذ إنه على مسافة تبلـغ نحو 14 ألف مليون سنة ضوئية، أي أنه يوجد عند حافة الكون. أما أقصى سرعة للكوازارات اكتشفها العلماء فقد بلغت 91%. من سرعة الضوء.

وقـد وضع العلماء نظـريتـين أسـاسيتين لتفسير السرعات العـالية للكـوازارات. تتعلق النظرية الأولى بنموذج المقذوفات، أي تصور أن الكوازارات عبارة عن شظايا مبتعدة من انفجارات كونية، وهذه الانفجارات القوية من المجرات المجاورة. ولم تشرح لنا هذه النظرية ما هي تلك الطـاقة الهائلـة المطلـوبـة التي تتمكن من قذف أجسـام فضائية تقدر كتلتها بـآلاف الشموس، بسرعات تقترب من سرعة الضـوء. أما في النظرية الثانية ( النموذج الكوني) Cosmological Model فإن الكوازارات هي ببساطة أجسام بعيدة جداً، تشترك في التمدد العـام للكـون، وقد أطلق على النظرية هذا الاسم، لأن تفسيرها لسرعات الكـوازارات يرتبط بنظام وشكل الكون ذاته.

وجاء التطور التالي، عندما وجد علماء الفلك أثناء فحصهم الصـور التفصيلية، أن لكثير من الكـوازارات مظهرا مشوشا حول الجسم المركزي الـلامع لها. وبـدا طيف المظهـر المشـوش مشابها لمجرة عند نفس الزحزحة الحمراء للكوازار. وهكذا ظهر أن الكـوازارات تقع في المناطق المركزية للمجرات، ولكن لأنها أكثر لمعانـا، فلا يمكن رؤية هذا التشويش إلا في الكوازارات القريبة منا.

طاقة.. وإشعاعات

تطلق الكـوازارات إشعاعات واسعة المدى من الطاقة عبر الطيف الكهـرمغنطيسي - Electromagnetic من الموجات الراديوية وتحت الحمراء والضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية وأشعة جاما. ويحرص العلماء على ملاحظة جميع هذه الإشعاعات لكي يحددوا جيدا طريقة توزيع الطاقة عبر حيز الطيف، ويتطلب ذلك استخدام العـديد من أجهزة الرصد البصرية والراديوية.

وواضح أن النقطـة التي يجب أن نبـدأ منهـا هي الموجات الراديوية لأننا نعرف بالفعل أن هناك نوعين من الكـوازارات : عالية الراديويـة Radio - Loudومنخفضة الراديوية Radio - Quit. والأمر الغريب أن توزيعات الطاقة لهذين النوعين متشابهة، في مناطق الأشعة تحت الحمراء والضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية من الطيف أما الفروق الرئيسية بين النـوعين، فتوجـد في منطقة الموجات الراديـوية والأشعة السينية حيث تكون الكوازارات عالية الراديوية أكثر لمعانا.

وتأتي الموجات الراديوية عادة من مصادر غير حـرارية، والشمس والنجـوم الأخـرى نماذج للإشعاع الحراري، إذ إنها تشع بسبب ارتفاع درجة حرارة مادتها. أما الإشعاع غير الحراري، فيحـدث بسبب اختلاف تركيـب الجسم الفضائي. ويعتقـد علماء الفلك بأن المصدر الأكثر احتمالا للموجات الراديوية للكوازار، هو الإشعاع السنكروتـروني. ومن الأرجح أن هذه الموجات الراديوية تبدأ في مركـز الكـوازار بالقرب من الثقب الأسود. وهي ليست طاقة معاداً معالجتها، أي طاقة ممتصة أو مشتتة أو معاداً إشعاعها من الثقب الأسود أو القرص الملتحـم به. وإنما هي مصدر أساسي منفصل للطاقة. أما الأشعـة تحت الحمراء الصـادرة من الكوازارت، فإن الغبار الكوني هو أكثر المواد المرشحة هنا. والغبار الكوني موجود بالضرورة في الكوازارات ،ومحتمل جداً أن يكون قد ارتفعت درجـة حرارته بواسطة المادة المركزية الكثيفة، وقام بامتصاص هذه الطاقة ثم أعاد إشعاعهـا حراريا.

مجرتنا .. كوازار !

يقول بعض علماء الفلك، إنه بعد آلاف الملايين من السنين سـوف يتمكن أحفـادنـا من اختبار صحـة نظريات الكـوازارات بشكل مبـاشر : حيث إن مجرتنا (درب التبانة) ذاتها ستتحول إلى كـوازار، وذلك لأنها سوف تصطـدم يوما ما بمجرة اندروميـدا، وهي أقرب مجرة لولبية لمجرتنا وتقع حاليا على بعد نحو مليوني سنة ضوئية منا، وربما يكون لكل من المجرتين ثقب أسود في المركز يمتص النجـوم التي حوله. وبالإضافة إلى ذلك فكلتا المجرتين ذات حجم جبـار أكبر بكثير من معظم المجرات في الكون. ومجرة أندروميدا ومجرتنا تنجذب كل منهما إلى الأخـرى، على الرغم من أن تمدد الكـون يحاول إبعادهما عن بعضهما البعض. وما لم يكن للمجـرتـين كتلتان هائلتان، لأمكن لتمدد الكون أن يبعد كلا منهما عن الأخرى بسرعة تصل إلى 60 كليو متر في الثانيـة.ولكن بدلا من ذلك، فان المجرتين تقتربان من بعضهما البعض بسرعة قدرها 120 كيلو متراً في الثانية. وكل يوم تقترب مجرة اندروميدا من مجرتنا بمسافة 10 ملايين كيلو متر. وبعد بلايين السنين من الآن، ربما تصطدم بنا، ومن ثم تتحول مجرتنا.. إلى كوازار! ونتساءل : هل نستطيع رسم صورة زيتية للكوازار بناء علي المعلومات الحالية؟ برغم أن التفاصيل ما زالت في حاجة إلى التوضيح فإننا يمكن أن نبين المكونات المحتملة واشتراكها في توليد الإشعاعات الصادرة من الكوازار. وتشمل المصادر الرئيسية : الإشعاع الحراري من القرص الملتحم الذي يحيط بالثقب الأسود، والذي ترتفع درجة حرارته بسبب حركة الغازات إلى الداخل، وربما عن طريق الأشعة السينية من مصدر موجود في قلب الكوازار بجوار الثقب الأسود. أما الإشعاعات الحرارية فمن الغبار الكوني الموجود في المجرة الأم والمسخن عن طريق الطاقة المنبعثة من المناطق المركزية.

وتكمن أهمية دراسة الكوازارات في أنها تمثل حالة الكون في طفولته عندما كانت تسود الطاقة المروعة ودرجات الحرارة الهائلة ومن ثم يتفهم العلماء بشكل أوضح تطور الكون.. واحتمالات نهايته.

قد لاحـظ العلماء أنه ليست كلى صـور الكوازارات عبارة عن مصـادر ضوئية مركـزة في نقط معينة. فبعض الكوازارات لها نافورة طويلة من الإشعاع المرئي، عبارة عن غاز ساخن يمتد من الكوازار إلى مسافات هائلة في الكون، وما زالت طبيعته غامضة.

عندما يتوافر المزيد من البيانات الدقيقة في غضون السنوات القليلة القادمة، فسوف نتمكن من رسم صورة ذات تفاصيل أدق للكوازارات خاصة بعد دراسة الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية الصادرة منها بواسطة الأقمار الصناعية والتلسكوب الفضائي (هابل)، وإمكانات أرضية وفضائية مخطط لاستخدامها في العقود القادمة. ومن واقع التطور الذي حدث خلال السنوات القليلة الماضية والآمال المعقودة في السنوات التالية ، فإن عصرنا وقت مثير ومهم في مجال أبحاث ودراسات الكوازارات، التي ما زالت تمثل لغزاً يربض عند حافة الكون.

 

رؤوف وصفي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




رسم تخيلي للكوازار





نافورة طويلة من الغازات تنطلق من الكوازار





التصور الحديث للكوازارت مجرة نشطة في مركزها ثقب اسود وقرص ملحتم ونافورة من المادة





المجرة التي في الوسط تعكس صورتين للكوازار الذي خلفها وتكون ما يطلق عليه عدسات الجاذبية ويؤدي هذا إلى صعوبة رصد الكوازارات وتحديد مكلنها بدقة





الأقمار الصناعية المستقبلية هل تكتشف أسرار الكوازارات