اللغة حياة

اللغة حياة

بساطة وصحّة خير من فنّ معه خطأ

لبعض الساسة ومستشاريهم اللغويّين فنون في التعبير يخالون أنّهم يأتون فيها بما لم يستطعه الأوائل، وهم يشيعون أساليبهم فيتلقّفها متصيّدو الجديد والغريب، من محدودي المعرفة اللغويّة أو متوسّطيها، ويجعلونها كالأمثال، وما هي إلاّ لغو؛ وأخصّ منها، هنا، ما يتوهّمون أنّه جِناس بارع، مثل العبارتين الشهيرتين: المَثَل والمِثال، والخِلاف والاختلاف.

أمّا العبارة الأولى فقد أطلقها أحد رؤساء الجمهوريّة اللبنانيّة، في خطاب القسَم، فراحت وسائل الإعلام الرسميّة والخاصّة في لبنان تردّدها وتتغنّى بها، بكلّ ما تكتنـزه العبارات المدهشة من إطراب ونشوة؛ ثم انتقلت العدوى إلى دوائر رسميّة وإعلاميّة عربيّة أخرى، طفقت تكرّر ذلك الابتكار وتستعيده كلازمة في نشيد، أو دَوْر في موشَّح. وتمام الجملة في خطاب القسم المشار إليه هو: «سأسعى لأكون المَثَل والمِثال».

ويحار أحدنا كيف يشرح العبارة لنفسه، ويفرّق بين اللفظين المتشابهين؛ فهو يعلم أنّ قولنا، مثلاً: حاتم الطائيّ مثَلٌ في الجُود، يعني أنّه مِثال أعلى للأجواد، وأنّ سخاءه مِثال للجود؛ أي أظهر ما يكون عليه الجود. ومن ذلك قول ابن المقفَّع: «فلا يكوننّ الملِكُ وخاصّته وجنوده المَثَل السَوْء»، أي قدوة السوء؛ وقول الجاحظ: «سَحْبانُ مَثَلٌ في البيان، وباقِلٌ مَثَل في العِيّ»، أي نموذج أعلى فيهما؛ والمَثَل، في علوم اللغة، هو النصّ الذي يوضّح القاعدة، ويكون على صورة مِثال، أي نصّ أصليّ أوّل، يسمّى في العادة شاهداً؛ أي أنّ المَثَل يقاس على مِثال، فيأتي مِثله على وجه التقريب. وقد نسب الجاحظ إلى بعضهم هذا القول: «وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمَثَل».

وكاد صاحب «العين» يؤكّد هذه العلاقة إذ أشار إلى أنّ: «المَثَل: الشيءُ يُضرب للشيء فيُجعل مِثله (...) والمِثل: شِبه الشيء (...) والمِثال: ما جُعل مقداراً لغيره»، أي مقياساً؛ لكنّنا نظفر في كتب اللغة وغيرها ما يوحي تداخل معاني المَثَل والمِثال والمِثل، واستعمال بعضها مكان بعض، أحياناً، وقد مرّ شيء من ذلك آنفاً، ونزيد عليه مِثل قول ابن المقفَّع: «مَثَل ذلك مَثَل الكوز»، وقول سيبويه: «ومِثال ما يجيء في هذا الباب على الابتداء (...) قوله عز وجلّ، الخ». وقول ابن خلدون: «ومِثال ذلك الخيّاط إذا أجاد ملكة الخياطة»؛ وعبارته: «ضرْب المِثال في ذلك على لسان البوم» بدلاً من ضرْب المَثَل؛ وحين شرح الواحديّ معنى قول المتنبّي: «مَنْ لم يكن لمِثاله تكوينُ» فسّر المِثال بالمِثْل؛ وهذا قد يوضّح سبب ذهاب أحمد بن فارِس في «مقاييس اللغة» إلى أنّ الألفاظ الثلاثة بمعنى واحد. لكنّنا نجد بينها فروقاً ضئيلة، تَبِين أحياناً وتختفي أحياناً أخرى.

ولعلّ الكلام في الاختلاف والخِلاف أظهر؛ إذ إنّهم يقولون مثلاً: الاختلاف ليس سبباً للخِلاف؛ يعنون بذلك أنّ الفروق الفكريّة وغيرها ليست سبباً للخِصام. ويستمتعون بسَوْق تينك الكلمتين المتشابهتين معاً وكأنّهما جِناس. والواقع أنّهما مصدران لفعلي خالَف واختَلف، ويكاد معناهما يكون واحداً، والفرق بينهما كالفرق بين القِران والاقتران، والقِتال والاقتتال، والفِراق والافتراق؛ أي بين المشاركة والاشتراك، وفق المصطلح الصرفيّ: مشاركة فرد أو جماعة لفرد أو جماعة أخرى في العمل أو في الصفة؛ واشتراك اثنين أو أكثر في العمل أو في الصفة، نحو: فارق الشابُّ أهلَه فِراقاً، فافترقوا افتراقاً. والخِلاف والاختلاف ضد الموافقة والاتّفاق؛ وإن توسّع معناهما فشمل التفاوت والتضادّ والتقلّب والتعاقب وغيره. ولذلك جمعوا بين الصيغتين، أحياناً، لتفسير بعضهما ببعض، أو إبدالاً لبعضهما من بعض، كقول الطبريّ في تفسيره، مثلاً: «لا خِلاف بين الجميع (...) في ذلك، وإنّما اختلفوا في الآي، الخ». وكرواية أحد الأمثال على صورتين، الأولى: «لا أفعله ما اختلفتِ الدِرّة والجِرّة»، والثانية: «ما خالفتْ دِرّةٌ جِرّة». وتكثر جدّاً عبارتا: لا خِلاف بين العلماء أو الرواة أو الفقهاء في مسألة ما، ولا اختلاف بينهم فيها.

صحيح أنّ الخِلاف قد يصل إلى درجة الصِراع، لكنّ الاختلاف قد يبلغ الدرجة نفسها أيضاً، فلا فرق بينهما في ذلك. وقد فسّر ابن منظور الأَرْش، مثلاً، بأنّه الخصومة والاختلاف، وأورد تفسيرَ الأَزهريّ للجَرِل فقال: مكانٌ جَرِل فيه تعادٍ واختلاف (مادة: جرف)؛ وربط الطبريّ في تفسير كلمة «الدرء» بين الاختلاف والتنازع، فقال: «فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم في أمر القتيل (...) هو الدرء». بل لقد حملت كلمة الاختلاف في الحديث النبويّ معنى التفرّق والتعادي إذ قال النبيّ: «فإني أكره الاختلاف حتّى يكون للناس جماعة»؛ وورد في الحديث أيضاً: «لا اختلاف ولا تباغض»؛ وورد فيه كذلك: «سيكون في أمّتي اختلاف وفُرقة».

إلاّ أنّ لغة السياسة الحديثة استعملت الخِلاف بمعنى الخصام والنـزاع، وجمعته على خِلافات، موحية أنّه اسم من الفعل وليس مصدراً، فتحدّثت عن الخِلافات العربيّة، مثلاً، وعن تصفية الخِلافات، وغيرها؛ على حين اقتصرت من الاختلاف على معنى الفَرْق أو عدم الاتّفاق في الرأي أو الموقف، وقلّما جمعت الكلمة. ولعلّ هذا الاستعمال الحديث هو الذي حملهم على الظنّ بوجود الجِناس بين الخِلاف والاختلاف، وأنّهم أشبه بمن يزجي حكمة، أو يقول مثلاً، حين يطلبون عدم تحوّل الاختلاف خِلافاً.

ومن الصعب أن نلغي ذلك الاستعمال الحديث، فهو يشيع بكثرة في أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئيّة، وكذلك في العاميّات - وربما كانت العاميّات هي مصدره وقد أجاز مجمع اللغة العربيّة في القاهرة جمع خلاف على خِلافات، على توهّم التاء في المفرد، أو على لَمْح الصفة في الكلمة، أو على أنّ الاسم مذكّر لغير العاقل؛ ونعتقد أنّ التوجيه الأخير هو الأقوى.

لكنّ من المستحسن أيضاً أن ننبّه على أنّ التفريق بين الخِلاف والاختلاف، وبين المثل والمِثال، على الصورة التي أوحوا بها، ليس مقبولاً، ويدلّ على جهل للّغة واستعمالاتها الصحيحة، وعلى تسرّع في إنشاء العبارات، وعلى محاولة بهلوانيّة في ابتداعها؛ لأنّ من شأن تلك المحاولة وأمثالها أن تقصم ظهر اللغة، فوق أنّها تجتلب السخرية على منشئي العبارة، سخرية مَنْ عنده قدر حسن من العلم بالعربيّة، وقسط واف من السليقة السليمة.

وحبّذا لو يؤْثر المستشارون البساطة مع الصحّة، على الفنّ مع الخطأ، وأن يستعملوا، بدلاً من العبارتين موضوع هذه المقالة، نحو عبارة: المَثَل الصالح؛ ونحو عبارة: لاينبغي أن يكون الاختلاف سبباً للفُرقة أو للعنف.

 

 

 

مصطفى الجوزو