جمال العربية
جمال العربية
ابن النبيه المصري لا يحتل ابن النبيه المصري مكانة سامقة في ديوان الشعر العربي، ليصبح شأنه شأن الأعلام الكبار الذين يفوقونه شاعرية وموهبة، وإبداعا متميزا فاقوا به سابقيهم ومعاصريهم. لكنه استطاع أن يصبح معروفا وذائع الصيت، بفضل ما أتيح لبعض شعره من نفاذ إلى القلوب والأسماع عن طريق الغناء، حين وجد أهل الطرب في هذا الشعر تمثيلا للروح المصرية في عصره، بكل ما عرف عنها من الدماثة والرقة وخفة الظل، لا في موسيقاه وجمال أنغامه فحسب، بل أيضاً في تصوير مشاعره ووجداناته وعواطفه، كما يصفه كتاب «الروائع من الأدب العربي» في الجزء السابع منه، الخاص بالقرن السادس الهجري. هذه الرقة في الشعور، وهذه السلاسة في اللغة، وهذه الروح المفعمة بالدماثة والخفة، أمور جعلت من شعره مختلفاً ومتميزا، وبخاصة أنه بدا - للعامة والخاصة شعرا قريب التناول، سهل الأفكار، غير مزدحم بالمحسنات البديعية على عادة أهل زمانه. فذاع شعره، وتردّد في مجالات الغناء والمغنين في كثير من الأقطار العربية، ثم كان لما غُنّي من شعره فضل لفت الانتباه والتذكير بما لم يكن له حظ من قصائده في هذا المجال، وهي قصائد قالها في مدح ملوك عصره وفي مقدمتهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله أحمد بن الحسن، والملك العادل سيف الدين أخو صلاح الدين الأيوبي، والملك الأشرف موسى بن العادل مكثرا من ذكر الصفات التي كان شعراء العصر الفاطمي يخلعونها على الخلفاء في مقام المدح. ولد كمال الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف أو ابن النبيه المصري، في مصر سنة خمسمائة وستين هجرية، وكانت وفاته سنة ستمائة وتسع عشرة هجرية، وظل طيلة حياته يتقلب بين مصر والشام محاولا التقرّب إلى صلاح الدين الأيوبي، وإلى وزيره القاضي الفاضل مادحا، ولم يكتب له النجاح إلا في عهد الملك العادل أبي بكر الأيوبي ووزيره الصفيّّ ابن شكر. ولاتزال في الأسماع قصيدة ابن النبيه التي قالها يستعطف الملك الأشرف بعد جفوة حدثت بينهما عندما تغنت أم كلثوم بالأبيات الأولى منها، وهي القصيدة التي يقول فيها: أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعا ولا يجد ابن النبيه صعوبة في الانتقال إلى موضوع قصيدته الأصليّ: اللهُ أبدى البدْرَ من أزرارهِ اللغة الشعرية كما نرى طيّعة ومواتية، لاغرابة فيها ولا حوشية، لا حذلقة ولا تقعر، وكأنه كما قال القدماء يغترف من بئرٍ ممتلئة، دون عنتٍ أو مشقة. والفكرة بعد الفكرة تنثال في سهولة ويُسْر وتدفّق، وحين تتجمع في ختام القصيدة نراها وقد كشفت عما في مكنون الشاعر وضميره دون ستْرٍ أو مواربة، فهو يعترف بارتكابه عثرة في حقِّ ممدوحه الملك، لكنه آمل في أن يقول له الكلمة التي تقال لمن يعثر: «لعا»، من قبيل الصفح والمغفرة والقبول. ولم تخْل الأبيات التي تغنت بها أم كلثوم من تقابلات تستهوي العامة وبخاصة جمهور الطرب، من مثل: أفديه وضيّعا، وظُلم الحبيب وظَلْمه، والوجه الجميل في مقابل: الصبّ النحيل، وفي رواية أخرى للبيت: الصبر الجميل بدلاً من الصبّ النحيل. في قصيدة ثانية في مدح الأشرف موسى، يمارس ابن النبيه طريقته في جذب الانتباه والاستحواذ على الأسماع، وهو يستهلها بأبيات فيها خفة الظل وروح الغزل وسلاسة الأداء، الأمر الذي رشحها بدورها للغناء، وفيها يقول أمانا أيها القمُر المُطلُّ وفي رواية ثانية: يزيد جمال وجهكَ كلَّ يومٍ وبهذا البيت الأخير استطاع ابن النبيه أن يتخلص من أبيات الغزل وأن يدلف إلى مدح الملك الأشرف، فإن كان المحبوب يُدلّ تيها واختيالا بجماله وحسنه، فهو يملك أن يُدلّ بدوره ويتيه، بانتسابه إلى دولة ملكٍ تنهمر صفاته الكريمة وعناصر مجده المؤثل في أبياته التالية التي يقول فيها: أبو الفتح الكريمُ الطَّلْقُ موسى وبالرغم من أن حبل المديح لممدوحه من الملوك ممدود في شعره، إلا أنه يذوب رقة ولُطْفاً عندما يتغزل، وكأنه لم يُخلق إلا لهذا اللون من القول الذي يشفُّ عن لواعجه وأشواقه، ويشتعل بنار وجده وحرمانه. يقول ابن النبيه فيمن بدّل نومه سهراً، وأسقم جفنه لوعةً وجوًى، وخالفه في وصله وهجره، وجازاه بالوفاء غدْراً: وحقِّ من بدل نومي بالسّهرْ وابن النبيه المصري هو صاحب الأبيات المشهورة التي يتبادلها الناس في مواقف العزاء، يُصبرّون بها أنفسهم وغيرهم من المكلومين بالموت، ويستمسكون بها في مواقف فجاءة الرّدى، وعصفه بحياة البشر لكنهم لا يعرفون أن ما يرددونه من أبيات هي لابن النبيه المصري، وأنه قالها في موقف عزاء للخليفة العباسيّ أمير المؤمنين الناصر لدين الله في وفاة ابنه الأمير عليّ، وهي من قصيدة مطلعها: الناس للموت كخيْل الطِّرادْ ثم يقول: واللهُ لا يدعو إلى دارهِ صحيح أن ابن النبيه المصري ليس من شعراء القامات الباسقة والشاعرية الاستثنائية، كأبي الطبيب المتنبي، وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي وأضرابهم، لكنه استطاع بما أوتيه من خفة ظل وروح مصرية صميمة، ولغة شعرية شديدة الرقة والسلاسة، أن يكون شاعرًا يشار إليه بالبنان في زمانه، وصوتا شعريا قريبا من القلب والعقل والوجدان، في ديوان الشعر العربي.
|