انبثاق الذات

انبثاق الذات

هل استطاعت الكتابة الإحيائية تحويل الخيال القصصي إلى طير مقصوص الجناح في علاقته بالعالم الداخلي للفرد كاتباً أو قارئاً؟

ما كان الأفق الإحيائي للرواية يسمح بالحضور الذاتي للكاتب، أو يعترف بالحقيقة الداخلية لمعرفة الأنا، فهو أفق صارم في عقلانيته التي لا تقبل من الكاتب أن يتحدث عن دواخله أو أعماقه الخاصة، أو حتى يجتلي مشكلات وعيه الفردي منعكسة على الوعي الذاتي لأبطاله، فحضور الذات حضور شاحب في الكتابة الإحيائية، لا تفارقه مبادىء التعقل الصارم التي تدني به إلى حال من حضور اللا حضور. ولذلك تقترن الكتابة الذاتية في أدبيات الإحياء النقدية، شأنها شأن الأدبيات الكلاسيكية عامة، بالانحراف إلى نقائض الخيال المتعقل التي تفضي إلى غرائز الحس أو غرائب الرغبة، تلك التي تتفجر مدمرة التراتب العقلي لدرجات المعرفة، والتسلسل المنطقي الذي يصل بين مصنوعات الكون، والتدرج الاجتماعي الذي يصون علاقات الجماعة والفرد فيما يشبه الهرم الذي يقع على قمته العقلاء الذين يهتدى بهديهم من هم دونهم من الخلق.

ولأن الكاتب الإحيائي بوجه عام ينتمي إلى هؤلاء العقلاء، ومن ثم يعد مسئولا عن التوجيه المعرفي والأخلاقي والاجتماعي لأبناء الهرم الذين يتدرجون في التباعد عن قمته، فإنه ملزم بأن يكتب عن أحوال غيره من المواطنين وليس عن أحواله، وعن مشكلاتهم العامة وليس عن مشكلاته الخاصة، وبواسطة خطاب غيري يعتمد على ضمير المخاطب أو الغائب وليس بواسطة خطاب ذاتي يتمحور حول ضمير المتكلم الذي يمكن أن يغوص إلى قرارة اللا شعور الفردي. وعوالم اللا شعور الفردي كالشعور الذاتي للكاتب مناطق مسكوت عنها في عصر الإحياء، تناوشها الريبة المعرفية وسوء الظن الأخلاقي والحذر الاجتماعي بالقياس إلى مناطق الشعور الغيري أو الجمعي، تلك التي تصل بين أنواع الإبداع الإحيائي وفنونه المتباينة في خاصيته النوعية المشتركة والمتكررة بين كل الأنواع والفنون، سواء في مدى العقل المنطقي الذي هو حجة الله على خلقه، أو مدار التراتب الاجتماعي الصارم الذي هو فريضة الأعلى على الأدنى، أو مناط الوعي الأدبي الذي يجتلي غيره بالكتابة، ويتأمل ما هو خارجه بواسطة التخيل المتعقل، كي يمتع قراءه ويفيدهم عن طريق تمثيل النمطي في حياتهم، وتصوير العام الذي يجمع بين أفرادهم، محاكيا ثوابت الوجود المتراتب حولهم، متجنبا الشراك الملتبسة لانفعالات الفرد.

زخرفة الخيال

وينتج عن ذلك اختفاء رواية السيرة الذاتية من علاقات حضور كتابة الوعي الإحيائي، والإبقاء عليها سجينة علاقات الغياب، في المناطق المسكوت عنها من الكتابة الغيرية التي تكتب عن الغير وليس الأنا المتفردة الفريدة، وتتهوس بالعبرة الأخلاقية والمحاكاة المنطقية، الأمر الذي يجعل من الرواية منارا لسار أو تكالا لأحمق، إذا استعنا بشعر البارودي على سبيل المثال، أو تجعل من فن القص بوجه عام تصويرا للحقيقة المصبوبة في قالب الخيال المنفصل عنها والمزخرف لها، كما تجعل من الخيال القصصي طيرا مقصوص الجناح في علاقته بالعالم الداخلي للفرد الذي يكتب والفرد الذي يقرأ.

ولا فارق من هذا المنظور بين (غابة الحق) التي كتبها فرانسيس مراش سنة 1865 وحلقات (حديث عيسى بن هشام) التي ظل محمد المويلحي ينشرها طوال أربع سنوات من 1898 إلى 1902 في جريدة (مصباح الشرق) (فيما يؤكد روجر آلان في كتابة القيم عن (الرواية العربية)) كما لا يوجد فارق من المنظور نفسه بين ما نشره سليم البستاني بعنوان (الهيام في جنان الشام) سنة 1870 وما كتبه سعيد البستاني عن (ذات الخدر) سنة 1884 أو ما كتبه جرجي زيدان من رواياته التاريخية التي استهلها برواية (المملوك الشارد) سنة 1891، أو ما كتبه فرح أنطوان عن (فتح العرب لبيت المقدس) أو (أورشليم الجديدة) التي نشرها سنة 1903 مع (الدين والعلم والمال)، فالعنصر الذاتي غائب غياب (أنا) المبدع التي تخجل من التعبير عن نفسها، وغياب (الذات) المحظور عليها الكشف عن هواجسها الخاصة، وغياب الفرد الذي لا يسمح له بالتعبير عن تفرده.

ويعني ذلك أن رواية السيرة الذاتية كان عليها أن تنتظر إلى ما بعد عصر الإحياء الذي انتهى رسميا بوفاة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم في مصر سنة 1932، وإن يكن انتهى فعليا قبيل قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914، في سياقات صعود الطبقة الوسطى التي وصلت إلى ذروة من ذراها الدالة مع ثورة 1919 الى أبرزت نماذج جديدة من الوعي الوطني، وأتاحت مدى مفتوحا من الحضور الخلاق للبطل الفرد الذي صاغ نموذجه الوطني مصطفى كامل (1874 ـ 1908) طليعة الحضور السياسي للرومانتيكية الوطنية التي سرعان ما تحولت إلى رومانتيكية أدبية، فاستهلت عصر الوجدان الفردي الذي ساد طوال فترة ما بين الحربين، مؤكدا شيوع الوعي الفردي للكائن المتفرد الذي يصنع التاريخ على عينه، ويقود الجماعة بإرادته الخلاقة وإبداعه الفريد.

وسرعان ما تبلورت حول ذلك الكائن المتفرد شعيرة الإعجاب بالبطولة الفردية والتطلع إلى تفرد الأبطال المتميزين في التاريخ، الأمر الذي أكدته بقدر ما استجابت إليه ترجمة محمد السباعي لكتاب توماس كارلايل الشهير عن (الأبطال) الذي نشرت الطبعة الأولى من ترجمته سنة 1912 مجلة (البيان) التي كان يصدرها عبدالرحمن البرقوقي.

وكانت هذه الترجمة علامة دالة على أفق ذلك الكائن المتفرد الذي أصبح مدار الإبداع الذاتي للجيل الجديد الذي ولد ما بين سنة 1888 (سنة ولادة محمد حسين هيكل) وسنة 1898 (سنة ولادة توفيق الحكيم). أعني الجيل الذي ضم طه حسين وعباس محمود العقاد وعبدالرحمن شكري وإبراهيم المازني وأحمد أمين، فضلا عن هيكل وتوفيق الحكيم، والذي يرجع الى إفراده الفضل في تأسيس ملامح عصر الوجدان الفردي، بكل ما اقترن به هذا العصر من صعود نظرية التعبير نقديا، وتألق شعر الوجدان إبداعيا، وإضفاء المزيد من الشرعية على النتاج المسرحي، فضلا عن تحقق البدايات الفعلية لوعود الرواية التي أكسبها أبناء هذا الجيل ما كانت جديرة به من مكانة صاعدة.

وما يجمع بين أفراد هذا الجيل هو الإيمان الليبرالي بالطاقات الخلاقة للأديب الفرد الذي يستجيب إلى صوته الداخلي، ويغوص إلى قرارة أعماقه كي يكتشف حقيقة العالم حدسيا، في الداخل لا الخارج، وبواسطة القلب الذي حل محل العقل في المعرفة، والشعور الذي حل محل الاستدلال في الإدراك. ولذلك أصبح التعبير عن الوجدان الفردي في تفرده غاية الأدب، وأصبح الخيال المنطلق الذي لا يحده حد مدى الحركة المفتوح على اللا نهاية، وراية إبداع الأديب الذي رأى المطلق في المحدود، وتوصل من الجزئي إلى الكلي، وانطلق من تعين الحقيقة الذاتية التي عثر عليها في أعماقه، ومضى بها كي يشيعها في العالم الخارجي الذي أصبح مرآه لما في داخله، فهو أديب لا يدرك إلا ما يعطيه، ولا يعرف من العالم إلا ما يسقطه على العالم، ومناط فعله ليس عبرة الحقيقة الخارجية في التاريخ العام وإنما تفرد الحقيقة الداخلية في علاقات التاريخ الخاص الذي يبدأ وينتهي بالذات وفي الذات.

قيمة العواطف

وينتج عن ذلك سياقات التنظير التي تقرأ فيها ما قاله طه حسين في كتابه (لحظات) (1942) حين أكد أننا ينبغي أن نتعود النظر في أنفسنا، ونقدر العواطف التي تدير حياتنا وحركاتنا، ونشعر شعورا قويا بل نعلم علما لاشك فيه أن هذه العواطف التي تدير نفوسنا وتسخر أجسامنا وتدير حياتنا المادية والمعنوية، لأنها مصدر كل شيء في هذه الحياة. وكان التركيز على العواطف يعني التركيز على الإنسان، فليس للعواطف من حيث هي عواطف وجود مستقل، لأنها موجودة بالإنسان وللإنسان، من حيث هو كائن متفرد يرد كل شيء إلى عالمه الداخلي الذي أصبح محل كل شيء وأصل كل معرفة أو سلوك. وإذا ارتفعت قيمة العالم الداخلي لهذا الكائن المتفرد ارتفعت قيمة العواطف والانفعالات، وأصبحت (مصدر كل شيء في هذه الحياة، إذ لا وجود للإنسان دون العاطفة، ولا وجود للعاطفة دون الإنسان).

ولا يختلف إلحاح طه حسين على العواطف التي هي (مصدر كل شيء في الحياة) عن تأكيد عبدالرحمن شكري في مقدمة ديوانه الثالث (أناشيد الصبا) الصادر سنة 1915، أن العواطف هي القوة المحركة في الحياة، وأنها للشعر بعامة والأدب بخاصة بمكانة النور والنار، خصوصا عند الأديب الكبير الذي عواطفه من عواطف الوجود في تنوعها وتباين حالاتها، وقلبه مرآه الكون التي يبصر فيها كل عاطفة جليلة، شريفة، فاضلة، أو قبيحة مرذولة وضيعة. ومن أجل ذلك لا يكتب الأديب إلا في نوبات انفعال عصبي، في أثنائها تغلي أساليب الأدب في ذهنه، وتتضارب العواطف في قلبه. لا يهدأ أو يستقر إلا بعد أن يتفجر ما في داخله على هيئة عمل أدبي، هو رسالته إلى قارئ فرد، يشاركه الشعور المتفرد والقلق العاطفي والرغبة في التعبير عن المجهول من عالم الوجدان. ولذلك كان التعبير عن عواطف النفس (هو الأدب في لبابه) فيما ذهب العقاد، لأن الأدب (ليس إلا رسولا بين نفس الكاتب ونفس سواه) فيما قال ميخائيل نعيمة في كتابه (الغربال) الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1923 عن مطبعة إلياس انطون إلياس في القاهرة، بعد عامين فحسب من صدور (الديوان) للعقاد والمازني سنة 1921.

ولم يكن من المصادفة، والأمر كذلك، أن يصدر ديوان عبدالرحمن شكري الأول (ضوء الفجر) سنة 1909، قبل ثلاثة أعوام فحسب من نشر محمد حسين هيكل لروايته الأولى (زينب) لأول مرة في (الجريدة) سنة 1912 (حسب رواية عبدالمحسن بدر في كتابه عن تطور الرواية العربية في مصر) ليستهل بها أول عمل نعرفه من رواية السيرة الذاتية التي سرعان ما تعاقبت بعدها أعمال أخرى، كان أولها بلاشك، وإن لم يأخذ حظه من الاهتمام النقدي، العمل الذي أصدره عبدالرحمن شكري بعنوان (كتاب الاعترافات) الذي صدر سنة 1916، فاتحا الطريق لجسارة الاعتراف الذاتي للكاتب الذي يفتح أبواب عواطفه لقارئه، مطلقا عنان خواطره وهواجسه وأحلامه التي ينطقها من وراء قناع الشخصية الرئيسية التي يستبدل بها حضوره المباشر. ولكن بواسطة تقنية مزدوجة البعد، تؤدي بها الشخصية الرئيسية دور القناع والمرآه أعنى القناع الذي يختفي وراءه الكاتب الرومانتيكي لينأى عن مزالق الدفق المباشر لانفعالاته الحادة، ويصوغ ما يراوغ به نواهي الأنا العليا للمجتمع ومحرماته. أما المرآه فتشير إلى الدور المعرفي الذي تقوم به الشخصية المستعارة بوصفها قناعا، من حيث تحولها إلى مجلى يجتلى فيه الكاتب وعيه الخاص، في تعبيره عن انقسامه الذي يحيله إلى ذات ناظرة وذات منظور إليها.

تأصل الحضور الفردي

ولا تتوقف رواية السيرة الذاتية في هذا المجال، ومن هذا المنظور، على (زينب) لهيكل أو (اعترافات) عبدالرحمن شكري، فمداها يمتد إلى الدوائر الإبداعية لأفراد ذلك الجيل الذي صاغ ملامح عصر الوجدان الأدبي فيما بين الحربين، والذي أكد حضور السيرة الذاتية من حيث رؤية الفرد الذي يعي دوره الطليعي في مجتمعه، وما يترتب على هذا الدور الشاق من مسئوليات وتحديات وآمال وإحباطات، تغدو مادة للتأمل الذاتي المباشر، في أعمال من مثل (مذكرات الشباب) لهيكل و(الأيام) لطه حسين و(أنا) للعقاد.. إلخ.

وهي الأعمال التي ما كان يمكن أن توجد لولا تأصل الحضور الفردي للأديب الذي بحث عن الحقيقة في داخله، وامتلك القدرة والجسارة على استبطان عواطفه التي أصبحت ترادف الكون في تنوع حالاته، وعلم نفسه بقدر ما علم قراءة أهمية الإنصات إلى صوته الخاص، في تجلياته الفردية التي كانت السيرة الذاتية لازمة من لوازمها.

وحين حاول هذا الأديب التعبير عن ذاته في قالب الرواية لم يستطع الفرار من هذه الذات التي أعلى من شأنها، ولم يقدر على الكتابة بعيدا عن همومها المباشرة في حضورها الطاغي، فكانت روايته رواية سيرة ذاتية في الأغلب الأعم. هكذا، ظل النموذج الغالب على الرواية العربية في مصر على سبيل المثال، في الفترة الممتدة من مطلع القرن إلى أواخر الثلاثينيات، وهو النموذج الذي أطلق عليه عبدالمحسن بدر، في كتابه الرائد، نموذج رواية الترجمة الذاتية، وهي ترجمة اجتهادية لرواية السيرة الذاتية Autobiographical novel التي عد منها (زينب) (1912) لمحمد حسين هيكل، و(الأيام) (1929) لطه حسين، و(إبراهيم الكاتب) (1931) لإبراهيم عبدالقادر المازني، و(عودة الروح) (1933) ويوميات نائب في الأرياف 1937، وعصفور من الشرق 1938 لتوفيق الحكيم، و(سارة) (1938) لعباس محمود العقاد. ويمكن أن نضيف إلى ذلك روايات متأخرة من مثل (قنديل أم هاشم) التي تشترك في الخصائص نفسها، حيث الملامح المتعينة للبطل مأخوذة عن ملامح الكاتب في هذه المرحلة العمرية أو تلك، وحيث المؤلف المضمر هو الوجه الآخر للمؤلف المعلن وصورته الموازية، وذلك في سياقات الدوائر الإبداعية الرومانتيكية للذات المتوحدة التي كان بطل (اعترافات) عبدالرحمن شكري نموذجها الأدل في انقسام وعيه وتمزقه بين نقائضه.

 

جابر عصفور