الطـيـور المـهـاجـرة

الطـيـور المـهـاجـرة

في الخريف الماضي أرسلني والدي إلى المدرسة بالقرب من إحدى محطات القطار الصغيرة, وآنذاك انفصلت لأول مرة بعيدا عن عائلتي, وسكنت لدى أصدقاء لنا, والمدرسة والحطة يشتركان في بناء واحد, فنصف الشبره قاعة انتظار للمسافرين ونصفها مدرسة, وهي أقرب إلى الكتاتيب منها إلى مدرسة, فهي تتبع إدارة السكك الحديدية وليس لوزارة التربية, ولها مدرس واحد (زاير عبيد) وفراش مهمته رفع أرجل الطلبة إي أعلى لضربهم (الفلقة) بعصا الأستاذ.

لم أنم في أول ليلة قضيتها في المحطة فالأضواء المنهمرة من مولد الكهرباء تهاجم عيني كشمس حارقة والناس تأتي وتذهب والقطارات تهدر صاعدة إلى الشمال ونازلة إلى الجنوب, وبخلاف هدوء القرية ليلا وحركتها نهارا فالمحطة كانت نهارا متواصلا.

أثناء توقف قطارات المسافرين يقرع ناظر المحطة جرسا يؤذن بوصول القطار. كنت أرى يديه تحرك بندول الجرس فيما غطى هدير القطار على صوته, وقبل أن ينطلق القطار يصرخ عامل السكة:

ـ قطار واحد وعشرين الصاعد.
وبعد مضى اثني عشر ساعة يصرخ العامل:
ـ قطار اثنين وعشرين النازل.

تساءلت بعد ذلك عن سبب هذه التسمية ولم يعرف أحد, حتى كبار السن أجابوا بأنهم يسمعون ذلك منذ أن كانوا صغارا, انقضى الأسبوع الأول كدهر, كنت فيه كالطائر الغريب أتلفت والمارة تنظر إليّ باستغراب, فملابسي القروية وشكلي غير مألوفين, سكان المحطة يعرف بعضهم الآخر وقد أدمى (زاير عبيد) ظهور وأيدي الطلبة لإيقاف سخريتهم مني ولما سئم من ذلك ضربني بشدة طالباً تحسين هندامي.

في نهاية الأسبوع لم أنتظر أي واسطة نقل تقلني إلى أهلي وانطلقت أعدو عبر الأراضي الزراعية لأصل إلى البيت باكرا, كانت المحطة هي الفاصل ما بين الصحراء والأراضي الزراعية وعندها ينتهي آخر الأنهار, في الضفاف اليمنى تخضر الأرض وفي ضفافه اليسرى تبدأ الصحراء, وأثناء كري هذا النهر أقيم ساتر ترابي عال على ضفته اليسرى فقط, حيث لانبت ولاحياة, وقد تفتقت عقول الفلاحين البدائية عن هذا الحصن العسكري حيث لاتخترقه ماشية الأعراب القادمين من الصحراء في أوائل الصيف.

الطيور المهاجرة تصل طلائعها على دفعات, الكبيرة منها تحلق في طيرانها عاليا بعيدة عن مرمى الصيادين وتهبط في برك الماء البعيدة عن الناس فيما تحلق الطيور الصغيرة من حولنا وتحط بقربنا, وعلى طول النهر كنت أسير وعلى جانبه امتلأت المنخفضات بالمياه المتسربة من النهر وشكلت بحيرات صغيرة ضحلة متباعدة, السماء ظللها الغيوم في ذلك اليوم, والسماء والبحيرات الصغيرة امتلأت بالطيور, لم أشاهد فيما مضى من حياتي ولا بعدها طيورا بعدد ذلك, مختلفة الأحجام والأشكال, ترفرف قريبا, في ذلك اليوم الخريفي لم تشعر الطيور بالخوف, وخلافا لما اعتدنا لم أسمع أي بندقية صيد تنطلق, السلام يعم الأرض والقطارات بدت أصواتها متناغمة كتغريد الطيور, واختفى (ثامر سهر) هو وقطاره السريع, وسافر الناس في ذلك اليوم على أجنحة الطيور.

الطيور الصغيرة تكاد تحط على كتفي, تلفقت بعضها لتفلت برشاقة وتعاود الطيران من حولي, أخذت أدور معها رافعا رأسي لأرى السماء وقد نقشت بأزهى الألوان, ألوان لم تبتدعها أيدي الناس, الطيور الصغيرة نظيفة ومعطرة, وبدت السماء بألوانها العجيبة أحلي من بساتين الأرض. استلقيت على ظهري ناظرا إلى السماء أستمع إلى أصوات الطيور الخفيضة الهادئة, تذكرت آلات الإنسان الموسيقية وبدت لي كطبول الحرب مختلطة بالزعيق وأنين الجرحي, هذا السلام السماوي الذي تبعثه نغمات الطيور الصغيرة بدا لي كنشيد إلهي يملأ الروح يفهمه القلب وحده, عندما تعبت الطيور الصغيرة من الطيران هبطت بأعداد هائلة على المياه لتفترش بساطا موشى بأبهى الألوان وبعد برهة انتفض البساط ليصعد إلى السماء متموجا ويتدلى طرفه الآخر على الأرض لتكتسب الأرض بهاء السماء وعذريتها.

لم أسمع أصوات القطارات وهي تأتي وتذهب وغمرت روحي ألحان الطيور الصغيرة المهاجرة ولم تغادر الطيور في ذلك اليوم إلى مكان كعادتها بل بقيت مستأنسة بهذا المكان الذي ينشر الهدوء من حوله, ولم أشأ أن أغادر إلى أهلي وقبلها كنت قد صحوت على صفير الرعاة وهم ينادون ماشيتهم قريب الغروب, فجأة فزعت من الخوف فالطريق لايزال طويلا إلى البيت والشمس اقتربت من المغيب واختفت الطيور وبدت صفحة المياه معتمة جرداء كسدو الحائك قبل نقشه, فقد انفلتت الطيور الصغيرة كخيوط الغزل الملونة تاركة خواء في روحي واختفت عند الأفق. عدت إلى المحطة بعد أن أمضيت يومين مع عائلتي, زودتني والدتي بكمية من البيض والخبز والهيس (وهو خلال الزهدي المطحون مع السمسم) أتيت لعائلتي كرضيع فقد أمه وغادرتها وأنا مفطوم, بعد أن سمعت كلمات أمي عن الرجال الذين لايبكون, في المرات النادرة التي يتوقف فيها (ثامر سهر) في المحطة يتواثب الأطفال إلى ماكينته, يفتح لهم محابس البخار الكثيف ويصطدم الأطفال بعضهم ببعض ويشتد صراخهم فرحين فيما يضحك (ثامر سهر) لرؤيتهم يشاركه المارة, ثم سرعان ما يستعيد جديته ويغادر المحطة بأقصى سرعة كعادته, القطار يحمل الركاب و(ثامر سهر) يحمل القطار والركاب على كتفيه ليلقي بحمولته سريعا في آخر المحطات, يصل سائقو القطارات إلى المحطات الأخيرة منهكين بعد أن أمضوا أكثر من أربعة وعشرين ساعة متواصلة, وحده (ثامر سهر) يكون في غاية نشاطه ومرحه عند وصوله إلى المحطات الأخيرة, ويبدو عصبيا ومثقلا خلال الرحلة.

في مكان منعزل تقف عربة مصفحة وحدها ويعلوها السخام, لا أحد يقترب منها وإن صادف أحد الكبار مروره ليلا بقربها فإنه يحمل مشعلا كبيرا من النار يرميه فوقها فقد أشيع أنها تصطاد الأرواح, وحتى الغربان تولول هاربة لدى اقترابها منها وفي إحدى الليالي هرب سجينان بعد أن غافلا حارسهم, أحدهم كان لصا فيما الآخر سجين سياسي وقد جرت مطاردة في كل زوايا المحطة وبيوتها, وأخيرا لجأ الاثنان إلى تلك العربة المشئومة. بعد لحظات عاد اللص مذعورا يهمهم بكلام غير مفهوم ليحتمي بالشرطة فيما لم يعد السجين السياسي, وهرب الجميع من أمام العربة يتقدمهم رجال الشرطة.

أغويت بعض الطلبة لأصحبهم بعيدا عن المحطة إلى داخل المزارع حيث مرور الطيور, في ذلك اليوم طارت الطيور عاليا, وانفرطت الطيور الصغيرة على أسلاك التلفون كحبات المسبحة, الوجوم يخيم برغم عدم وجود الصيادين, والطيور الكبيرة تبتعد عن المزارع صوب الصحراء تتسابق مع القطارات, المذياع يشتم وقد هربت الطيورالصغيرة من طنين أسلاك التلفون, وعلى مدى أيام عصفت رياح قاتلة, اصفر لها الزرع ونفقت الطيور وقد ذبلت أرواح الفلاحين, يمرح الفلاح لنمو زرعه وأولاده, وقد شيعوا الآن أطفالهم قبل الأوان, عندما تنبت البذور تخضر قلوب الفلاحين وعند الحصاد حيث تصفر وتستوي الغلال تخضر قلوبهم مرة أخرى حيث يتبادل العشق شباب الفلاحين مع فتيات الحاصدين الآتيات معهم من أماكن بعيدة في مثل هذه المواسم من كل عام, ليعودوا بعدها بأسابيع قليلة من حيث أتوا لدى انتهاء موسم الحصاد القصير, ولقصر عمر هذا الحب فعادة ما يكون مشحونا بالعواطف وسرعان ما تهاجر الفتيات إلى الجنوب في أواسط الصيف مخلفة قلوب الشباب الغضة كأجنحة طيور الشمال المهاجرة الصغيرة ترفرف من حولها, لقد أضعف الحب أجنحة الطيور الصغيرة وقلوب الشباب البكر.

لم يمر عام حتى أخذوا أعضاء التعاونية الزراعية إلى السجن وأرسلوا الشباب إلى الجندية, وبارت الأرض وأغلقوا الجداول, وتضاعفت أسلاك التلفونات وفي البساتين اقتلعت النخيل وانتصبت أعمدة الهواتف وبكت فتيات المواسم البعيدات على أحبتهن المجهولين لم أفهم ما يدور في ذلك العام سوى أن الناس يبكون كثيرا, والطيور المهاجرة رحلت قبل الأوان, أصبح الطريق مقفرا من المحطة إلى البيت, أعادوا العربية المركونة بعيدا وألحقوها بماكينة خاصة وقد رفض (ثامر سهر) قيادتها وهرب وحبست العربة أرواح الراكبين إلى (قطار الموت) بداخلها فيما سحقت عظامهم وضلوعهم تحت عجلاتها, وهربت القضبان لثقل الأرواح التي تجمعت داخل العربة الرهيبة وتكسرت العوارض ولما عجزت الجسور والقضبان والحديد عن حملها طمرتها الأرض.

وبقي مهدي حسينه وجيه المحطة منتصبا أمام باب (الكانتين) فيما ظلت أعماله السرية تنمو.

عاد الصغار يهتفون (لثامر سهر) وقطاره السريع ويغتسلون في بخاره الحار.

في العالم الثاني, غنت السواقي وأهدت الأرض لأحب الناس لها (الفلاحين) ما حرموا منه العام الماضي وعامهم هذا, خاطبت الأرض فلاحيها, يا من ترصعون صدري بأنفس الحلي وتسرحون شعري بالعشب المبتل وتعطرونه بأزكى الرياحين, خذوا ما في باطني, وكلوا والبسوا, تزينوا وعندما تعودون لي سأحتفظ بكم كالكنوز, فقد سئمت من المدن ومن قمامتهم النتنة, إنهم يقتلونني في كل ناحية يحلون فيها, لقد أصاب الشلل والورم أماكن كثيرة من جسدي حيث يتواجدون, وحيث أنتم يا أحبتي الفلاحين يحيا ويتوثب ويغني كل كياني, وقد سمعت الأرض همسات العشق وشهدت عهود المحبين.

وعلى مدى شهرين بعد الحصاد تكون الأيام أعيادا, حفلات الزواج, ختان الأولاد, ختمة القرآن, جز الصوف, والقطارات لاتزال صاعدة إلى الشمال ونازلة إلى الجنوب وأقفر الطريق بعد الحصاد فقد رحلت الطيور منذ زمن وتبعها فتيات المواسم وغابت خضرة الأرض ورحل الحب, وبقيت طيور (الشاهين) الصغيرة وحدها تحلق عاليا تنظر باستغراب إلى القطارات وترى رءوس الركاب من النوافذ كصغارالطيور في العش.

وعادت أيام الخريف مرة أخرى وزحفت الغيوم وبكت أرواحنا حزنا كالذي يبكي على أغنية حزينة عذبه, وانكشف المطمور من النفس منذ عام, في أيام الخريف وحدها يكون الحزن جميلا وبلا سبب سوى تآلف أرواحنا مع الطبيعة, وما أن تبدأ أوائل الغيوم بالظهور حتى تغيم أنفسنا, وحدها القطارات تفرح لخضرة طرقاتها وبردوة صفيحها, ومع القطارات أغتبط أنا, فالطيور المهاجرة تصل طلائعها وطيوري الصغيرة الجميلة تطير كالفراشات تحملها الريح, وكما هي القطارات تسير بمشيئة القضبان والتواءاتها تسير الطيور المهاجرة الصغيرة في طرقات الريح ويتأخر وصولها بعض الوقت, تتعرض طلائع الطيور الكبيرة لنيران الصيادين وتسقط أفواج منها على مشارف المياه كما يتساقط جنود النسق الأول على أبواب خنادق المدافعين, تؤخذ الطيور الجريحة وتباع على مسافري القطارات عند مرورها في الحقول, يتوقف سائقو القطارات قليلا من أجل ذلك ولقاءها يأخذون بعض الطيور المجانية, وحده (ثامر سهر) لايفعل ذلك, فالحمولة الثقيلة على ظهره تمنعه من التلذذ بوجبة الطيور الشهية.

في ذلك العام, انهمرت الأمطار وتوحلت الطرق وتوقفت وسائل النقل وبقيت القطارات والطيور تتابع سيرها, ولأسبوعين لم أغادر المحطة وزارني والدي على ظهر جواد لقلقه على تأخري, وبخلاف حفيف المطر, المتساقط وأصوات القطارات فإن كل شيء يبدو هادئا, واحتمت بعض الطيور الصغيرة في فناء محطة القطار ونفد التموين من (كانتين) مهدي حسنيه وأخذ يلعن, وصلى (زاير عبيد) شكرا لله على نعمه, وابتهجت قلوب الفلاحين واستحمت الأرض كالعروس وترطبت بشرتها, وبعد أن استراحت الحياة قليلا أزاحت الشمس كتل الغيوم وأخذت تزين الأرض كفتاة في ليلة عرسها, وشع صدر الأرض وبرق جبينها, وهرولت إلى عائلتي بعد أن استأذنت (زاير عبيد) لغياب يومين, وانتهت طرق المهربين السرية عن (كانتين) مهدي حسنيه وجلجل صوته في أنحاء المحطة حتى علا على أصوات القطارات ولم تترك كل التقلبات أي أثر على (ثامر سهر) هو يعدو حاملا قطاراته وركابه صاعدا إلى الشمال ونازلا إلى الجنوب, لاينفصل عن قطاراته إلا للحظات في آخر المحطات لكي يشتري السجائر, وقد ضرب يوما (مهدي حسنيه) عندما سأله عن عائلته.

عندما أقبلت على القرية كان الغروب يقترب والرعاة والأهالي يعودون مع ماشيتهم وخيولهم, يركض الصغار لملاقاتهم, وتختلط أصوات الناس مع ثغاء الأغنام وصهيل الخيول وصياح الديكة, وما إن تغرب الشمس حتى تهمد هذه الحركة طوال الليل يتخللها نباح الكلاب المتقطع وعواء بعيد, في الليل حول راعي الأغنام (جادر) وهو ينفخ في (الناي) بعاطفة أشبه برثاء الأم لوليدها الفقيد, والكل يتنهد فقد أعاد (جادر) في ليالي الشتاء الباردة أيام الخريف الأولى حيث تسمع قلوبنا نبض الطبيعة الحزين.

القطارات لاتزال صاعدة إلى الشمال ونازلة إلى الجنوب والطيور المهاجرة الكبيرة تطير بحذر تتجنب كل شيء يتحرك على الأرض لتهبط عند حافات المياه البعيدة ومن الأعالي تتساءل كيف يلهب الإنسان جوف القطارات لينضح عرقها وتصر ضلوعها ويكبحها متى ما شاء ثم تراه ملقى على الأرض من على ظهر الخيول الضعيفة متى ما شاءت, في الليل أحدق في السماء أعد النجوم والمجرات وأغفو وفي النهار, تحدق الطيور في طيرانها إلى أسفل وترى الأرض والقطارات والناس وتصحو.

ودعت عائلتي راجعا إلى المحطة عبر الأراضي الزراعية حاملا مئونتي المعتادة, لقد أغرق المطر والجداول, وعلى مد البصر كل الأراضي وكنت أسير بحذر فوق الساتر الترابي الذي يفصل الصحراء عن النهر خوفا من وقوعي في الماء, هبطت الطيور بكثافة وأخذت تتضاعف وحط طائر صغير على كتفي وفر ولم تعبأ الطيور الكبيرة ببنادق الصيادين واقتربت كثيرا وملأت المياه, سحب الفلاحون بنادقهم وساروا خافضي الرءوس صوب الطيور من على المرتفع كنت أراهم يتهيأون للانقضاض على فرائسهم, ارتعشت, وازداد ارتعاشي فما هي إلا لحظات ويتلاشى بساط السماء الجميل اندفعت أهبط إلى الماء, أصرخ بكل صوتي, صفقت بيدي, جفلت الطيور وبدأت تطير بانخفاض, اصعدي إلى الأعلى أيتها الطيور.

توقف زحف الفلاحين لحظات, ثم صرخوا: تنحّ أيها الولد الصغير اللعين, وقد غضبوا أشد الغضب فلو أطلقوا النار فربما يصيبونني وعلى صراخهم أخذت الطيور تعلو, أطلقوا النار صوبها بغزارة, ساد الصمت بعدها وارتفعت رءوسنا عاليا لترى أسراب الطيور وهي تبتعد فلعل أحدها أصيب, وفي البعيد انفصل أحد الطيور عن السرب وأخذ يهوي صوب سكة الحديد, أخذت أجري نحوه وفارقني خوفي من الوقوع في الماء, ألقي الفلاحون بنادقهم وأخذوا مناجلهم وأسرعوا صوب الطائر الجريح, كنت أسرع قليلا منهم على التراب فيما غاصوا في الوحول, وبعد أن ملت صوب المزارع غصت أنا أيضا في الوحول, وركضت الكلاب وعامت في الماء, تخلف الفلاحون ورائي فيما تقدمتني الكلاب, "أخذت أرميها بالطين ثم قذفتها بمتاعي وبالبيض فلم تأبه الكلاب لذلك, وانطلقت تعوص نحو رائحة الدم, قفز الطائر قفزات قليلة ووقع, اقتربت الكلاب منه ثم عادت مذعورة وعندما قبضت عليه كاد القطار يصدمني, تراجعت إلى الخلف ورأيت مناجل الفلاحين مشرعة نحوي وهم يعدون.

حملت الطائر وعدوت قرب سكة الحديد, عربات القطار السريعة تمر كطلقات البنادق, وعندما أصبح الفلاحون بجوار السكة تسارع جريهم وما هي إلا لحظات ويدركوني, بكيت, الطائر ينزف وفي عينيه أرى الهلع والاستسلام.

توقفت مرعوبا وابتعدت فقد تصادمت عربات القطار السريع بعضها مع الآخر وتسمر الفلاحون مذهولين, صحوت على صوت كالرعد يناديني, أسرع, تعال, شد, انطلقت صوبه, وتلقفني (ثامر سهر) وحرك قطاره وهو يسحب عرباته وتقوس ظهر (ثامر سهر) وشتم قطاره الذي بدا بطيئا, وقبل أن تتزايد سرعته لاحت رءوس الفلاحين المنطلقين نحوه, أدار (ثامر سهر) أنبوبا مطاطيا نحو باب الماكينة وفتح محبس المرجل البخاري الصدئ وتدفق بغزارة بخار أحمر اللون لم تر أعين الفلاحين مثله من قبل, رمى الفلاحون أنفسهم في الماء وهربوا خلف كلابهم, أمسك (ثامر سهر) الطائر المرتعش ثم تمتم: لقد أعطبوا إحدى جناحيه, تناول خشبة صغيرة عاجلها بسكينه لتتقوس قليلا ثم ربطها على جناح الطائر, قفزت في المحطة بعد أن أبطأ (ثامر سهر) سيره, ناداني: سأحتفظ به لحين التئام جرحه ثم أطلقه, بعد عدة أيام أوقف (ثامر سهر) قطاره السريع أمام قاعة الدرس وأطل برأسه من القطار, أخرجت رأسي من النافذة غير عابئ باعتراضات (زاير عبيد) وصرخ: لقد التحق بسربه, صمت قليلا ثم أكمل: ولكنه لم يأكل طوال استضافته في القطار.

 

حميد الأمين