البطولة المضادة في شعر أبي نواس

البطولة المضادة في شعر أبي نواس

المنزلة التي احتلها أبونواس في الشعر والوجدان العربيين هي منزلة فريدة ليس بسبب مكانته الشعريةن ولكن لأنه حالة اعتراضية في التاريخ العربي.

يعد أبونواس نموذجاً فريداً لاختراق القيم السائدة وانتهاك الأعراف والتجول في الممنوع بحرية مطلقة، بحيث شكل هذا الشاعر استمراراً لمفهوم الصعلكة الذي بدأ مع عروة بن الورد والشنفري وطرفة بن العبدواتخذ في صدر الإسلام والعصرين الأموي والعباسي وجوهاً مختلفة عبر أبي محجن الثقفي ومالك بن الريب والوليد بن يزيد وبشار بن برد ووالبة بن الحباب وغيرهم.

وإذا كانت الصعلكة قد أخذت عند كل من هؤلاء الشعراء وجهاً من وجوهها السياسية والأخلاقية والاجتماعية والأدبية فإنها اختصرت عند أبي نواس كل هذه الوجوه مجتمعة بحيث بدا نسيجاً مختلفاً في الحياة كما في الشعر. ربما لهذا السبب استطاع هذا الشاعر أن يخرج من دائرة النخبة المثقفة ليدخل في الوجدان الشعبي باعتباره رمزاً لاختراق المفهوم السلطوي للأخلاق والسياسة والاجتماع مثلما هو رمز لانتهاك البنية الأيديولوجية ومنظومتها الطقوسية المهنية.

ذلك أن الوجدان الشعبي يحاول بحيلته وذكائه أن يكسر دائرة الاستبداد عبر اختراقات مبتكرة تتمثل وفق ما يرى عبدالكبير الخطيبي في الوشم والنكتة والأمثال الشعبية الجريئة. ويكفي في هذا السياق والاستدلال بالنكات والطرف والأمثال الكثيرة التي تزخر بالدعابات والتسميات الفاضحة والنقد اللاذعللطبقات المسيطرة وللنظم الاجتماعية السائدة بوصفها نوعاً من الاحتجاج الذي ترفعه الفئات الفقيرة والمغلوبة في وجه الواقع. إن النكتة الاجتماعية المضطهدة "بفتح الهاء" تجنح في أقسى حالات اضطهادها إلى اجتراح لغة اعتراضها بنفسها وتعمل على ابتكار نظام أخلاقي مواز لنظام الهيمنة السائد ومخترق له في أغلب الحالات. وهي بالتالي تخنرع أمثالها وحكمها ونكاتها كما تخترع صعاليكها وأبطالها الشعبيين ونماذجها المضادة.

البطولة المضادة

أبو نواس هو أحد نماذج البطولة المضادة التي عمل الوجدان الشعبي العربي على إبرازها وتضخيمها إلى حد الخرافة بحيث ألحقت بنتاجه الشعري مئات الأبيات التي نظمها غيره من الشعراء وتمت نسبتها إليه باعتباره مرجعاً شعبياً مقبولاً لشعر التهتك والاعتراض، تماماً كشخصية "حجا" الموازية والتي جسدت الحيلة والذكاء الشعبيين.

ذلك أن الاحتجاج الشعبي المتفاقم على السلطة الحاكمة الذي بلغ ذورة قوته في العصر العباسي الأول لم يجد بداً من نقل المواجهة إلى مستويات الطرفة الملتبسة والضحك المر والبذاءة المكشوفة بعد أن ضاقت السلطة ذرعاً بالاعتراض المسرف في الجدية لعبد الله بن المقفع أو حتى بالأقل جدية كبشار بن برد.

ولم تقتصر تجربة أبي نواس على ضرب البنية الفنية للشعر السائد في زمنه والمتمثلة بعمود الشعر العربي وما يفرضه من قرب المسافة بين طرفي الصورة البيانية والبعد عن التغريب والإحالات الملتبسة بل عمد إلى تقويض الأسس الأخلاقية للكتابة التي جعلت من النص الشعري سلطة موازية للسلطة القائمة بحيث نما معظم الشعر العربي التقليدي في ظل هذه السلطة وعلى ضفافها. وإذا كان أبوتمام قد اكتفى بضرب معيارية الشعر السائد وعموده المعروف من خلال الإيغال في التخييل وخلق أطر جديدة للاستعارة والمجاز والبديع فإنه بالمقابل لم يكسر المادة الأخلاقية التي يسبح الشعر في داخلها بل إن هرم الأخيلة التي شيدها كان يأخذ حجارته من الاعتراف بالشرعية الاجتماعية للسلطة القائمة والتي راح شعره، على حدته، ينمو في كنفها ويمجد بطولاتها ومآثرها، كان أبونواس في الجهة الأخرى يعمل جاهداً على دحر المنطق السائد وتفتيته منحازاً إلى القاع الشعبي الذي خرج منه وظل أميناً له طيلة حياته. لذلك لم يستطع هذا الشاعر أن يقيم علاقة مصالحة ومودة حتى مع الرموز الأكثر جدية وقوة للحكم العباسي والمتمثلة على وجه الخصوص بهارون الرشيد وولده المأمون. لقد ظلت علاقة أبي نواس بهذين الخليفتين علاقة ملتبسة تراوح بين الارتياح والتبرم وبين المنادمة وضيق الصدر. لقد فاضت شخصية أبي نواس عن الهامش الذي تركه للرشيد للمنادمة والتسلية، واضطر غير مرة إلى سجن الشاعر وتأديبه بفعل الإحراج الذي سببه له هذا الأخير، في حين لم تجد شخصية المأمون الحازمة سوية مشتركة تجمعها بشاعر من طراز أبي نواس. وهو أمر ليس بالغريب مادام كل منهما لا يرضى بأنصاف الحلول ومادام الشاعر يؤثر الحرية التي والحانات وأهل التشرد والصعلكة. هذا العالم هو نفسه الذي شكل النسيج الاجتماعي لقصص "ألف ليلة وليلة" وغذى مخيلة واضعيها.

من دون أقنعة

إن ميزة شعر أبي نواس الأساسية هي كونه شعراً يسمي الأشياء بأسمائها رافضاً التلطي وراء السواتر والأقنعة.

وهو بهذا المعنى شعر جسدي حسي يعلي من قيمة الجسد الإنساني ويرفض اعتباره لعنة أو نقيصة. فالأشياء عند أبي نواس لاتأخذ تسميتها من اللغة المضمرة أو المغلفة بسياج القيم المتدوالة بل من لغة المشافهة الشائعة التي يتبادلها الناس في البيوت والشوارع والأماكن العامة. كما أن النزوع الشهواني عند الشاعر لا يتلطى وراء العاطفة أو الحب أو الشرع بل يذهب إلى دلالاته المباشرة دون تحريف أو تمويه. يذهب أبونواس في هذا السياق على الطريق المفضي مباشرة إلى المتعة الجسدية بمعزل عن ذهنية التحليل والتحريم.

والاختراق هنا ليس اختراقاً للبنية الأخلاقية السائدة فحسب، بل هو اختراق للينبوع الفكري والروحي الذي يعتبر التناسل وحفظ النوع أساساً شرعياً للعلاقة الجسدية التي تهدف مثل كل شئ إلى التكاثر وحفظ النوع. وإذا كان الحبل بلا دنس هو أحد الوجوه الأبرز للطهرانية البشرية المطلقة فإن الدنس بلا حبل هو الرد النواسي المباشر على هذه الطهرانية.

إن إباحية أبي نواس هي في جوهرها احتجاج على فساد القيم بوجهيها الموالي والمعارض. ذلك أن كليهما يلبسان الأقنعة نفسها وينتزعان من القيم ما يسند شرعية كل منهما في المطالبة بالسلطة. لقد رأى الشاعر بأم عينه كيف يدفع الإنسان العادي من لحمه ودمه ثمن الحروب التي تتناسل دون طائل وتتغذى من مذابح لا بداية لها ولا نهاية. فالعباسيون الذين وصلوا إلى السلطة تحت شعار الانتقام للحق الهاشمي الذي اغتصبه بنو أمية مالبثوا أن أعملوها سيوفهم برقاب أصحاب الحق الشرعي وعبر مجازر لم يقترفها الأمويون أنفسهم. لقد كان الانسحاب إلى الجسد هو خياره الوحيد المتبقي كتعبير عن خواء الروح العباسية وانهيارها. لذلك فقد اعلن في غير مناسبة تبرمه من غزارة الدم الذي يسيل دون طائل تحت شعارات لاتمت إلى أصحابها بصلة. والإنسان العاقل هو الذي يتحصن وسط هذه الفوضى الدموية برغبة العيش وحدها باعتبارها الإمكانية الوحيدة المتاحة في عالم غير معقول. هذا الإنسان الذي يعبر عنه أبو نواس بلهجته الساخرة المعروفة:

ولست تراه سائلاً عن خليفة

ولا قائلاً من يعزلون وماً يلي

ولا صائحاً كالعير في يوم لذة

يناظر في تفضيل عثمان أوً علي

الحياه هروبا.. وهجوما

لقد كان أبونواس إزاء خراب القيم واندحارها من حوله أمام خيارين لا ثالث لهما: الهروب من الحياة أو الهجوم عليها. وإذا كان أبو العتاهية قد آثر الخيار الأول عبر استباق الموت بالزهد والاستنكاف، فإن أبا نواس قد استبق الموت باقتحام الحياة وافتضاضها باعتبار ذلك الأمر الوسيلة الفضلى لملاقاة الموت في الساحة التي يختارها الشاعر لا الموت. وما دام قد ارتضى هذا الخيار فقد آثر أن يحرق السفن وراءه وأن يطلق صيحته إلى تخومها الأخيرة حيث الجسد يقف دائماً على أهبة لذائذه ومستعد دائماً لمنازلة الموت المحدق. لم تعد الشهوة في هذه الحالة اختراقاً لجسد بعينه بل هي تعبير عن اعتراضه السياسي والاجتماعي أكثر مما هو ازدراء للدين أو خروج على تعاليمه برغم ما نراه في شعر من بقايا مزدكية قديمة ورواسب أخلاقيات ما قبل إسلامية. وقد يكون للكثيرين مآخذهم على الجوانب الأخلاقية في سلوكه ونمط عيشه لكن محاكمة حقيقة للشاعر ينبغي ان تتم خارج هذا المعيار. ذلك أن مقياس الأخلاقية في الأدب هو في الدرجة الأولى الصدق مع النفس وملامسة الحياة الحقيقية في سعيها نحو الحرية والتغير والبحث عن فضاءات جديدة، وهو ما جسده أبو نواس في شعره وحياته على أكمل وجه.

 

شوقي بزيع