قراءة نقدية في المجموعة المسرحية"حفل لتتويج الدهشة".. لوليد منير أمين

 قراءة نقدية في المجموعة المسرحية"حفل لتتويج الدهشة".. لوليد منير أمين

لهذه المجموعة من المسرح الشعري أهمية خاصة، لأنها تأتي في زمن كاد فيه الشعـراء يهجرون مهمـة خلق عوالم كاملة وغنيـة ومفعمة بالحياة.

تمثل مسرحية الفصل الواحد تحديا كبيرا، لا بد أن ينظبق عليها قول الشاعر:

وليس على الله بمستبعد

أن يجمع العالم في واحد

والواحد هنا هو الفصل الوجيز المركز الذي يختزل كونا بأكمله. ووليد منير أمين شاعر شديد الوعي بالخبرة الجمالية والتأمل فيها طولا، عظيم الإنصات للصوت الدرامي والغوص في ثناياه، قادر على هندسة المواقف وتنظيم الحركات، فماذا تشبع هذه المجموعة من توقعات؟ هذا ما ستحاول أن نجيب عنه من خلال تحليلنا.

تنحو هذه المجموعة إلى تشعير المسرح وليس مجرد كتابة مسرح شعري اللغة، فالشخوص والمواقف والحركات والألوان تسبح كلها في فضاء شعري أثيري يستعرض بواطن الأشياء ولا يقف عند ظواهرها، الشعر هنا ليس مجرد الكلمات، بل يتجاوز ذلك ليصبح لحم الحدث الحلمي وصوت الهاجس الشخصي وطبيعة الموقف الماورائي.

أحسب أن هذه التجارب في جملتها تدعو للارتفاع إلى مستوى من التمثيل المجازي للمعاني والأشياء بما يجعلها مفارقة لطبيعة مسرح المحاكاة الدرامي المعهود، وهي لذلك خافتة الإيقاع بالرغم من شعريتها، فالإيقاع المسرحي يتمثل في إنسانيته البارزة وبشريته المؤكدة، كأن الشعري في هذه المجموعة يستقطب الدرامي إلى محوره، ويوجه سيرورته، ويتحكم في انعطافات دروبه، ويجعله متشبعا به إلى الحد الأقصى الذي يشحذ من فاعليته في اتجاه معين.

في دراما "بيت النجوم"، هناك حادثة تاريخية تشير إليها المسرحية في المقدمة، لكنها تجردها من بنيتها التاريخية لتحيلها إلى رمز مطلق للصراع الشعرين وتفرغها-قصدا- من مضموناتها الواقعية البحت لتجعلها حركة أطياف راقصة على صفحة ماء الوجود. هنا تتحول الأصوات إلى رؤى داخلية وكوابيس، تفقد بعدها الاجتماعي المباشر لتدخل في منظومة الرموز الشفيفة، وتؤسس مستويات صراعها الخاصة على هذا النحو:

- صراع الشاعر مع السلطة التي تصادر أحلامه.
- صراع الشاعر مع أوهامه ورؤاه.
- صراع القوى المجردة بعضها مع البعض الآخر.

وعملية المسرحة، تقع في قلب عملية الترميز الشعري بحيث تتوقف متعتها الجمالية على مدى نجاحنا في إدراك هذا الترميز إدراكا عميقا، وتأويله، وتأمل معطياته.

وفي دراما "الفأر" تنبع الشعرية من طبيعة المفارقة القادرة على صناعة متخيل غني وخصب، بالإضافة إلى قدرة واضحة على توظيف نبرة السخرية من الذات عندما ندرك التماهي أولا بين الإنسان والفأر، ثم ندرك ثانيا تخصيص الإنسان ليكون شاعرا على وجه التحديد مما يبرر الهجائية الفادحة.

ويعطي مرح الحوار وحركيته طابعا مسرحيا حقيقيا للشعر. ولعلني تذكرت هنا، قطبين من أقطاب المسرح: توفيق الحكيم في قدرته على افتراع الحواريات، وصلاح عبد الصبور في دقة وعمق اختياره للكلمات.

ويأتي الاعتماد على كافكا وأبي حيان التوحيدي، بوصفهما إحالتين مرجعيتين في الحوار المسرحي، ليؤكد دلالة مهمة جدا في هذا السياق، حيث يتبلور الاغتراب الوجودي عبر تصاعد المد الحزين للتجربة الشخصية عند كليهما تبلورا حادا وناتئا بما ينعكس على المناخ النفسي الواقعي للبطل المفرد/ المثنى أو الرجل/ الفأر، والفأر/ الرجل.

الفأر: ليلة أمس قرأت على مهل
مسودات قصيدتك "الفئران"
ورأيت على مكتبك الخشبي كتابين
لكافكا وأبي حيان التوحيدي
الرجل: عجبا،
من أنت؟
الفأر: أنت أنا،
إنسانان وفأران
الرجل "في عصبية": لا بد أنا أحلم
لا بد أنا مجنون
الفأر: كلا، كلا.
الرجل "يتجه إلى المرآة وينظر":
إنسانان وفأران
إنسانان وفأران
ما معنى هذا؟
(ص46-47)

إن المتعة الجمالية لهذه الدراما تكمن في قابليتها الشديدة للتأمل أثناء القراءة، وللتمثيل على نحو يجعل من مسرح الكلمات مسرحا تتجسد فيه الصور والإيقاعات تجسدا لا ينفصل، بحال، عن حمولته الفكرية وشحنته الإيحائية المؤثرة.

لعبة الأشياء والكلمات

في دراما "العائد" وهي من أوجز مسرحيات المجموعة، يلفتنا أمران بارزان: أحدهما هو تعدد المشاهد الحركية بشكل فائق، ثمانية مشاهد تضج بحركة راقصة وإيقاعات ممسرحة في حيز مكاني محدود من الصفحات. وثانيهما هو تحول الكلمات إلى أجساد، فما يحدث في هذه المسرحية إنما هو ترجمة للعبارات المجازية في اللغة إلى كتل خارجية في فضاء النص، مثلا الشجرة الآدمية التي تمثل في أصلها عبارة رمزية تربط بين كناية قص الأشجار ومطاردة الكلمات الشعرية تثبيتا للسلطة المطلقة في بؤرة واحدة، فالشجرة-مثل الشعر- حياة الكون، لكن هذه العبارة تستحيل إلى كتلة جسدية راقصة يتأملها المشاهد. نحن هنا أمام عملية تشعير الكلمات ومسرحتها بطريقة مرهفة وجديدة.

ولد "1": ها هي الشجرة.
ولد "2": عجباً
إنها تتنفس تحت النسيم
البنت: إنها مقمرة
"تتركز الإضاءة على الشجرة الآدمية- تهتز الأذرع الثماني كما تهتز الغصون في الهواء".
ولد "1": خلتها رجلا.
ولد "2": خلتها امرأة.
البنت: وأنا خلتها رجلا وامرأة.
يدخلان إلى رعشة في الندى
أو إلى جمرة في الشفق
(ص95-96)

وفي مونودراما "السور" وحيدة الصوت يبدو المناخ الذي نستشفه تنويعا شعريا راقيا على اللحن نفسه الذي عزفته لنا من قبل مسرحية "عندما يموت الملك" لصلاح عبدالصبور: مشكلة العزلة والتواصل، فور الجسد، العرافات والسحر، مناجاة الذات وتحولات الروح. إنها جميعا روابط تقيم في مجموعها تناصا موازيا ومخالفا لمسرحية عبد الصبور في آن، إن اللحن يكتسب توزيعا جديدا على يد وليد منير أمين، ويشي بنفسه عن طريق عازف واحد "صوت واحد" يستخدم آلة واحدة تنطوي في صحيحها، على إمكانات سائر الآلت الأخرى. ومونودراما "السور" برغم تباعدها عن ضوضاء العالم الخارجي، وإيغالها في الترميز الشعري مسكونة بروح الغناء الذي يبخر كل ما عداه كالأنداء، وتشير المرأة نفسها إلى ذلك بقولها:

يا سيف حبيبي
يا وتراً في قيثار
أين بداية صوتي؟
أين بقايا مملكتي، ووجوه مراياي؟ !
"....."
آااااه..

"موسيقى مفعمة بالشجن تتسلل رويداً إلى سمعها فتنتبه- بالسيف كأنه قيثارة وتبدأ في العزف على مقبضه".

تغني: الوردة الأسيرة
تبحث عن ربيعها المسكون بالأسرار
أحزانها ضفيرة
تجدلها الأقدار
وشمسها جزيرة
يرعى بها الصبار
(ص107- 108)

إنها أنشودة حزينة ينحل في إيقاعها الشجية العصب الدرامي كي يتوتر العصب الغنائي بكل طاقته الإيحائية الفريدة، كاشفا لنا عن غناء الداخل ومكابداته عبر تيمة الزمن التي تمثل تيمة أساسية في مسرحيات وليد منير. وفي دراما "حفل لتتويج الدهشة" يتملكنا تأمل شعري ودرامي في الموت، واحتفال أسيان به. ومما يعطي هذه المسرحية تميزا خاصا امتلاكها لفكرة فلسفية واضحة عن الموت، وتمايز أشخاصها بمعنى أنهم ليسوا من خلق مخيلة واحدة، ووجود أحداث شبه حقيقية بالرغم من الطابع العبثي العام، قرب لغتها إلى الحياة، إنها دراما قادرة على صنع مفارقة حادة باقتدار شديد، وهي مفعمة بالدرامية والدهشة معا. وانطلاقا من مشاهدها الشعرية المكبة يود لي أن أطرح تساؤلا أخيرا: هل تنتمي هذه المسرحية بطبيعتها وحركتها وتوظيف الألوان والكتل فيها، بإقاعها الكلي، إلى عالم المسرح أم أنها أقرب إلى عالم السينما؟

إن حيلة "الفلاش باك" تبدو قادرة تماما على تحريك المنظور وتنويع المشاهد وتصوير الخارج والداخل في الآن ذاته، ويمثل هذا التوظيف المتداخل العجيب للمعطى السينمائي لغة بصرية لافتة داخل المسرح. إنني أعتقد أن آلية فن السينما وحركيته قد صبغت المسرح الشعري لوليد منير بطابع مخالف لما كان عليه المسرح الشعري من قبل.

وهناك خاصية أخرى في هذه المجموعة التجريبية، لا بد من الالتفات إليها وتأملها طويلا، هي تعاليها المفرط على الزمان والمكان اللذين كتبت فيهما، إنها لا تحمل أي أثر لتاريخ كتابتها ولا أية سمة من العالم الخارجي الذي يظللها ، كأنها تنحو إلى ما فوقية رمزية شعرية تتعامل مع المطلق والدائم الأبدي في الزمان واللانهائي في المكان، كيف استطاع الشاعر أن يمحو من كلماته وإشاراته كل ما يرتبط بالواقع الخارجي وأصدائه ليخلص إلى معايشة رؤاه الصافية ومناجاته المثالية، حتى ما يتراءى فيها من مشكلات السياسة أو الفن يمكن أن ينتمي إلى أي قرن في الماضي أو المستقبل. هذه المثالية كانت دائما حلما للشعراء، وربما كان وليد منير أمين أشدهم جرأة على اقتحامها وقدرة على تجاهل ضجيج العالم من حوله.

 

صلاح فضل