انـتـقـام

انـتـقـام

ترجمها عن الإسبانية: محمد إبراهيم مبروك

عندما توجت دولثي في حفل مسابقة ملكة الجمال الذي أقيم في منتصف نهار يوم من مشرق ملكة للجمال، بأن وضعوا على رأسها التاج المجدول من زهور الياسمين، تصاعد الهمس والاحتجاج من بين أمهات المرشحات الأخريات اللواتي شككن في النتيجة بادعاء أنه تم التلاعب فيها حتى يكون التاج من نصيب دولثي روسا أوريليانو، وذلك لمجرد أنها ابنة السيناتور أنسلمو أوريليانو، الرجل ذي النفوذ القوي في الإقليم كله. إلا أنهن سلمن بأن الفتاة تحظى بسحر خاص، كما أنها تجيد العزف على البيانو وترقص كما لا يرقص أحد، ولكن هذا لا ينفي أن الأخريات اللواتي اشتركن في المسابقة وكان لديهن الأمل في الحصول على الجائزة كن أكثر جمالاً منها. لقد تطلعن إليها وهي واقفة على خشبة المسرح، بفستانها الأورجانزا، وتاجها من زهور الياسمين فيما تلوح محيية الجمهور، ومن بين أسنانهن كن يلعنها. لذلك فقد واتت بعضهن الفرصة للفرح والشماتة بها عندما حلت الكارثة ببيت آل أوريليانو وانتشرت بذورها فيه، وهكذا تحتم عليهن أن ينتظرن خمسة وعشرين عاماً حتى يشهدن بأعينهن حصادها.

أقيمت ليلة اختيار الملكة، حفلة رقص بدار بلدية سانتارتريسا، وتوافد الشباب من البلاد البعيدة لمشاهدة دولثي روسا والتعرف عليها. كانت سعادتها غامرة، ورقصت بسرور بالغ حتى أن الكثيرين لم يلحظوا أنها في الحقيقة ليست الأكثر جمالاً، وفي طريق عودتهم للبلاد التي قدموا منها، أخذوا يتحدثون عن الوجه الذي لم يروا أبداً وجهاً مثله. وهكذا فقد اكتسب جمالها صيتاً لا يستحقه، لكن أحدأ لا يستطيع بعد ذلك أن ينكره. بل كثر الكلام ودار من فم إلى فم بالأوصاف المبالغ فيها عن شفافية لون بشرتها، وصفاء لون عينيها، وأخذ كل واحد وهو ينقل هذه الأوصاف يزيد قليلاً من عنده بما يتفق وخياله، حتى أن الشعراء في البلاد البعيدة ألفوا قصائد عن دولثيليا خيالية متخذين اسمها من اسم دولثي روسا.

وصل ما أشيع عن ذلك الجمال اليانع في بيت السيناتور أوريليانو ضمن ما وصل إليه إلى سمع تاديو ثيسبيدس الذي لم يدر بخلده أبداً أن يتعرف عليها، لأنه خلال سنوات حياته كلها، لم يكن لديه الوقت الكافي لا لتعلم كتابة الأشعار، ولا لأن يهتم بالنساء، إذ كان شغله الشاغل فقط هو خوض غمار الحرب الأهلية. فمنذ أن نما له شارب وأخذ يسويه، حمل بندقيته بين يديه، وظل من سنوات طويلة وحتى الآن يواصل حياته وسط دوي انفجارات البارود.

وكان ضمن ما نسيه ليس فقط قبلات أمه، بل حتى نشيد القداس. لم يكن يمتلك دائماً أسباباً قوية لشن الغارات، لأنه في بعض فترات السلم، خلال الهدنة، ولم يكن ثمة أعداء في مواجهته ليطاردهم بفرقته، فإنه مع ذلك، حتى وإن كان السلام يجبره في تلك الفترات على التوقف عن القتال، فقد كان يواصل حياته كقرصان. إذ كان العنف قد تحول إلى جزء من طبيعته، ولقد اعتاد عليه، فكان يقطع البلاد من شرقها لغربها، ومن شمالها لجنوبها يقاتل أعداء ظاهرين له عندما يوجدون بالفعل، ويشن الحرب ضد أشباح عندما تدفعه أحتياجاته لخلقهم، كان عليه أن يواصل القتال للأبد كما لو أن حزبه لا يمكنه أبداً أن يكسب السلطة عن طريق الانتخاب.

آخر مهمة قتالية لتاديو ثيسبيدس كانت حملته التأديبية التي شنها على سانتاتريسا، وبمائة وعشرين مقاتلاً داهم القرية ليجعل منها عبرة للقرى الأخرى كي يقضي على رءوس المقاومة. أطلقوا الرصاص على النوافذ والواجهات الزجاجية للمباني العامة ثم مضوا إلى الكنيسة فحطموا بابها واندفعوا بالخيول داخلها حتى المذبح الكبير، وعندم حاول الأب كليمنتي الوقوف في طريقهم اجتاحوه وداسوا عليه، وواصلو هجومهم الخاطف، فوق الخيول التي تجري في جلبة وأصوات صاخبة متجهين إلى عزب السيناتور أوريليانو الذي وقف ليواجههم شامخاً على قمة التل.

وقف السيناتور في انتظار تاديو ثيسبيدس على رأس اثني عشر رجلاً من رجاله المخلصين بعدما أغلق على أبنته باب آخر غرفة في الفناء الثالث وأطلق سراح الكلاب في البيت. وفي تلك اللحظة زفر متنهداً مثلما حدث لمرات عديدة في حياته، إذ لم يكن لديه خلفة من الذكور لكي يقفوا إلى جواره بالسلاح ويحموا معه شرف بيته. أحس بأنه هرم جداً، لكنه لم يكن يملك الوقت ليفكر في نفسه، إذ خطف بصره من تحته عند سفح التل الأنوار الباهرة المروعة لمائة وعشرين كشافاً تنشر الرعب في ظلمة الليل. وزع آخر طلقات الذخيرة المتبقية على رجاله في صمت. كل شيء تم الاستعداد له، وكل منهم يعرف أنه سيموت قبل الفجر، وعلى آخر من يبقى حياً منكم أن يأخذ مفتاح الغرفة التي بها ابنتي، ويقوم بما ينبغي عمله. قال السيناتور ذلك عند سماعه دوي أولى الطلقات باتجاههم.

كل هؤلاء الرجال الذين يقفون إلى جانبه شهدوا معه دولثى روسا، أجلسوها على أرجلهم ولم تكد تتعلم المشى، وحكوا لها الحواديت عن الجنيات في أمسيات الشتاء، وسمعوها وهي تعزف على البيانو، وصفقوا لها بتأثر شديد يوم تتويجها ملكة للكرنفال، ويستطيع أبوها أن يواجه الموت مطمئناً عليها، لأن الفتاة لن تقع وهي حية أبداً بين يدي تاديو ثيسبيدس. إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يخطر أبداً على بال السيناتور أوريليانو، لكنه حدث بالفعل، أنه على الرغم من استبساله في القتال لدرجة التهور، فإن آخر واحد كان على الموت أن يدركه كان هو. لقد رأى رفاقه يتساقطون واحداً فواحداً، حتى انتهوا، وفي النهاية أدرك ألا جدوى من استمراره في المقاومة وحده. وتحرك بالرصاصة التي أصابته واخترقت بطنه، وبالرؤية الغائمة التي لا تتضح فيها معالم ما يراه، ميز بالكاد خيالات من يتسلقون الجدران العالية لسور العزبة، ولكنه لم يفقد الوعي وهو يزحف حتى الفناء الثالث. ولقد تعرفت الكلاب على رائحته التي طغت على عرقه ودمائه والحزن الذي غطاه، وتفرقوا ليسمحوا له بالمرور من بينهم. أدخل المفتاح في الكالون، ودفع الباب إلثقيل فانفتح، ومن خلال الضباب الذي جعل الرؤية غير واضحة، رأى دولثي روسا وهي تقف في انتظاره. فتاة صغير ترتدي فستان الأورجانزا نفسه الذي ارتدته يوم حفل الكرنفال، بينما زينت شعرها المصفف بتاج زهور الياسمين.

- لقد حان الوقت يا ابنتي.

سمعته وهو يقول لها بينما يشد الزناد للخلف فيحدث صوتاً، ورأت بركة الدماء حول قدميه وهي تكبر وتتسع على الأرض.

- لا تقتلني يا أبي.

ردت عليه بصوت متماسك:

- دعني أحيا كي أنتقم لك، وأنتقم لي.

تأمل السيناتور أنسلمو أوريليانو وجه ابنته ذات الخمس عشرة سنة، وتخيل ما الذي يمكن أن يفعله بها تاديو ثيسبيدس، إلا أنه وجد شجاعة هائلة لا تخشى شيئاً تومض في العينين الصافيتين لدولثي روسا. أدرك بالفعل أنها قادرة على أن تواصل الحياة كي تنتقم من مغتصبها. جلست الفتاة على السرير فأخذ الأب مكانه إلى جانبها مصوباً سلاحه إلى الباب.

عندما خفت ثم صمت عواء الكلاب المحتضرة، اقتلعت عارضة البا الخشبية وتطاير الترباس واندفع أوائل الرجال المهاجمين مقتحمين الغرفة، تمكن السيناتور من أن يطلق عليهم ست طلقات قبل أن يسقط مغشياً عليه، هيئ لتاديو ثيسبيدس أنه يحلم عند رؤيته لملاك متوج بزهور الياسمين، وهي تسند في حضنها رجلاً هرماً يعاني سكرات الموت، بينما يتحول لون فستانها من الأبيض إلى الأحمر وهو يتشرب بحمرة الدم.

لكنها لم تحظ بإشفاقه عليها عندما نظر إليها مرة أخرى، لأنه وهو محطم الأعصاب ومرهق من القتال لساعات طويلة صار سكران بالعنف:

- المرأة لي.

أمرهم بذلك قبل أن يضع رجاله أيديهم عليها.

لاحت بوادر صباح يوم الجمعة في السماء الرمادية، يلوثها الدخان من ألسنة اللهب المتصاعدة من الحريق، بينما يجثم الصمت ثقيلاً على التل، والأنات الأخيرة كانت قد غرقت في الصمت عندما جاهدت دولثي روسا حتى يمكنها الوقوف على قدميها ومشت متجهة إلى نافورة الجنينة، والتي كانت تحوطها في اليوم السابق زهور المانجوليا لكنها صارت الآن مجرد بركة يتصاعد خرير الماء منها وسط كسر أحجار الأنقاض المتداعية، ولم يتبق من فستانها سوى مزق من قماش الأورجانزا، والتي خلعتها وأزاحتها عن جسدها ببطء لتقف عارية. غاصت في الماء البارد. والشمس تطلع من بين أشجار البتولا، واستطاعت الفتاة أن ترى الماء في ضوء أول النهار ولونه يحمر عندما أخذت تغسل الدم العالق من أبيها والذي تيبس بعض منه بشعرها، ومرة واحدة عاد جسدها نظيفاً، ووجها رائقاً، وعيناها بلا دموع. رجعت للبيت المهدم الذي تم تدميره، بحثت عن أي شيء تستر به نفسها، أخذت ملاءة من الكتان وخرجت إلى الطريق لتعود بجثمان السيناتور. كانوا قد أوثقوه من قدميه ليسحلوه على سفوح التل بربطه بحصان يركض حتى استحال جسده المشوه إلى كومة تبعث على الشفقة والحسرة. إلا أن الحب وحده أرشد ابنته وساعدها على التعرف عليه بلا تردد. لفته في ملاءة الكتان وجلست إلى جواره ترقب علو الشمس في سماء النهار. وعلى هذه الحال لقيها جيرانهم في سانتا تريسا، عندما تجرأوا وأتوا إلى عزبة آل أوريليانو. ساعدوا دولثي روسا في دفن موتاها، وفي إطفاء ما بقلب مشتعلاً من الحرائق، ورجوها أن تذهب للعيش مع جدها لأمها في القرية الأخرى، حيث لا أحد يعرف مأساتها، إلا أنها رفضت أن ترحل وأصرت على البقاء. عندئذ كون الجيران من بينهم مجموعات لإعادة بناء البيت، وأهدوها ستة كلاب أشداء كي تبقى في حراستها.

من لحظة أن خرجوا حاملين أباها، ولما يزل حياً، وأغلق تاديو ثيسبيدس عليهما الباب بظهره وفك الحزام الجلدي لبنطلونه، عاشت دولثي روسا لكي تنتقم. وطوال السنين التي تلت ذلك، أبقاها التفكير فيه ساهرة طوال الليل، ومهمومة به طوال النهار. إلا أن ذلك كله لم يمنح ابتسامتها ولم يصب بالوهن قوة إرادتها، وازداد الصيت الذي أكتسبه جمالها بسبب المداحين الجوالين الذين راحوا ينشرون في كل الأنحاء الأغنيات التي تتغنى بسحر جمالها حتى حولوا حياتها إلى أسطورة حقيقية. كانت تصحو كل يوم في الرابعة وقت الفجر وتخرج راكبة مهرتها لتمر على الأعمال في الحقول ثم تعود لتشرف على أعمال البيت. تربي الحيوانات وتزرع شجيرات المانجوليا والياسمين في جنينتها، وتشتري وتبيع وتساوم كما يساوم المهاجرون الشوام، وعندما يحل المساء تغير ملابسها، فتخلع بنطلونها، وحذاء الركوب، وتودع الأسلحة التي تحملها في أماكن حفظها، وتعود لارتداء الفساتين التي كانت ترتديها قبل أن يخطف الموت ذويها، الفساتين التي كانت قد طلبتها فأتتها محمولة من العاصمة في علب معطرة، ومع حلول الليل، يبدأ زوارها في الوصول فتستقبلهم وترحب بهم وتبالغ في الاحتفاء بأن تعزف لهم على البيانو بينما الخدم يقدمون لهم صواني الحلوى وكئوس شراب اللوز المثلجة. ولقد تساءل الكثيرون في البداية كيف تمكنت من النجاة بنفسها دون أن تنتهي بها الأمور إلى الدخول في قميص المجانين بإحدى المصحات العقلية، أو التخلص من حياتها بنذرها لحياة الرهبنة في دير الكرمل للراهبات. وبدلاً من ذلك كله، فها هي تواصل إقامة الحفلات في عزبة آل أوريليانو. وبمرور الزمن كف الناس عن الخوض في الحديث عن المأساة. وشحبت حتى انمحت ذكريات اغتيال السيناتور، بل بلغ الأمر ببعض الفرسان من ذوي الحسب والنسب أن تشجعوا وعبروا عن أن بإمكانهم التغاضي عن وصمة عار اغتصابها أمام افتتانهم بالجمال الساحر والإحساس المرهف لدولثي روسا، وتقدم أكثر من واحد وهو يأمل أن توافق على الزواج منه. إلا أنها اعتذرت ورفضت طلباتهم جميعاً، لأن رسالتها في هذه الحياة هي الانتقام.

وبالمثل لم يستطع تاديو ثيسبيدس أن يتخلص من ذكريات تلك الليلة المشئومة، فمشاعره الموارة بداخله أثناء عودته ظافراً من المذبحة التي أقامها وانتشاؤه بلذة الاغتصاب، انقضت بعد ساعات قليلة، عندما كان ماضياً في طريقه إلى العاصمة ليقدم تقريراً عن حملته التأديبية. عندها خطرت لفكرة الفتاة وهي ترتدي فستان حفلة الرقص، ومتوجة بزهور الياسمين، وما سبب له الألم في صمت، في عتمة تلك الغرفة حيث كان الهواء مثقلاً برائحة البارود. استعاد رؤيتها في آخر لحظة، منهارة ومرمية على أرضية الغرفة، لا تكاد تستر عريها المزق الغارقة في الدم، غارقة في رحمة النوم ورحمة انعدام شعورها. وعلى هذه الحال كانت تتراءى له كل ليلة في اللحظة التي يدخل فيها نومه خلال ما بقي من حياته. لقد حوله السلام، وممارسة المسئوليات الحكومية، والتمتع بالنفوذ، إلى رجل هادئ، مجتهد في أعماله، وبمرور الزمن شحبت ذكريات الحرب الأهلية ثم طواها النسيان، وبدأ الناس يعرفونه باسم "دون تاديو". لقد اشترى عزبة على الجانب الآخر من سلسلة الجبال، وكرس حياته للعمل قاضياً ثم انتهت به الأمور إلى أن أصبح عمدة، ولولا شبح دولثي روسا أوريليانو الذي يطارده بلا رحمة، لكان بإمكانها أن ينال قدراً كبيراً من السعادة، إلا أنه كان يتكدر صفوه دائماً مع مع كل النسوة اللواتي صادفهن في طريقه، وفي كل مرة مارس فيها الحب، كان وجهها يطارده طوال كل تلك السنين، وجه ملكة الكرنفال. والمصيبة الكبرى، ولسوء حظه الفادح، أن الأغاني الشائعة كثيراً ما كانت تحمل اسمه مقترناً باسمها في أشعار الشعراء الجوالين، فلا تتيح له أبداً أن يقتلعها من قلبه. والصورة التي نمت للفتاة بداخله استولت على تفكيره بقوة، وفي يوم من الأيام بلغت به الأمور حداً فاق كل احتماله. يومها كان جالساً على رأس مائدة طويلة في مأدبة مقامة خصيصا له احتفالاً ببلوغه السابعة والخمسين من عمره، محاطاً بأصدقائه، وزملاء دفعته العسكرية، عندما خيل إليه أنه رأى فوق مفرش المائدة مخلوقة عارية راقدة وسط براعم زهور الياسمين، أدرك لحظتها أن هذا الكابوس لن يفارقه ويدعه في سلام أبداً، ولا بعد موته. ضرب بقبضته المائدة حتى أن الصحون اصطدمت ببعضها البعض. قام وطلب قبعته وعصاته. وسأله رئيسه:

- إلى أين أنت ذاهب يا دون تاديو؟

- لأكفر عن ذنب قديم.

أجابه وخرج دون أن يعطي الفرصة لأحد كي يودعه.

لم يكن في حاجة إلى البحث عنها، لأنه كان يعرف دائماً أنه سيجدها في البيت نفسه الذي واجهت فيه نكبتها، ولذلك فقد قاد عربته باتجاهها. ويومها وجد أن طرقاً سريعة قد مدت، والمسافات بدت أقصر، وبدا المشهد وقد تغير خلال تلك العقود من الزمن، إلا أنه عندما دار بعربته في آخر منحنى حول التل، ظهرت العربة كما كانت تماماً مثلما يتذكرها قبل أن تداهمها فرقته وتستولي عليها عنوة، كانت هناك السقوف الخشبية المقامة وفق الطرز القديمة قاتمة بسبب دخان ألسنة النيران التي طالتها. وكانت هناكالأشجار التي علق على فروعها جثث رجال السيناتور. كان هناك الفناء حيث مذبحة الكلاب. أوقف عربته على بعد مائة متر من البوابة ولم يجرؤ على مواصلة السير لأبعد من ذلك لأنه أحس بقلبه وهو يكاد ينفجر داخل صدره. كان على وشك أن يستدير عائداً لعربته ليرجع من حيث أتى، عندما انبعثت من بين شجيرات الورد واحدة ملتفة في دوامة من الجونلات، أغمض عينيه متمنياً بكل ما يملك من قوة ألا تتعرف عليه، وفي الضوء الشفيف للسادسة مساءً، تطلع إلى دولثي روسا أوريليانو التي تقدمت نحوه كما لو أنها تأتيه طافية طائرة فوق طرقات الجنينة. تأمل خصلات شعرها، وتأمل وجهها المتألق، وتأمل تناسق حركتها، وتموجات قماش فستانها، وخيل إليه أنه يلتقي بها في حلم لا ينقضي منذ خمسة وعشرين عاما.

- تادي ثيسبيدس، أخيرا جئت.

قالت ذلك أول ما لمحته، دون أن تترك نفسها لتضللها بدلة العمدة السوداء التي يرتديها، ولا هالة شعر الفارس الرمادي، لأنه مازال يحتفظ بنفس يدي القرصان، يديه.

لقد ظللت تطارديني بلا هوادة. لم أستطع أن أحب أي واحدة طوال حياتي، حبي ظل لم انت وحدك.

غمغم لها بذلك، وانقطع صوته المبحوح من شدة الخجل.

تنهدت دولثي روسا مزهوة. لقد ظلت تفكر فيه، وتناديه ليل نهار طوال تلك السنين، لكن ها هو في النهاية قد جاء. والآن جاء دورها. غير أنها عندما تطلعت إليه وحدقت في عينيه لم تجد أثراً للقاتل والمغتصب الذي انتظرته، ما وجدته لم يكن سوى دموع تترقرق. بحثت في قلبها عن الكراهية المغروسة طوال حياتها إلا أنها لم تجدها. استحضرت اللحظة التي رجت فيها أباها أن يقدمها قرباناً بأن يبقي على حياتها لكي تسترد دينهما منه، واستعادت آلام الاغتصاب الذي سببه لها الرجل الذي كثيراً ما لعنته، والفجر الذي لفت فيه جثمان أبيها في ملاءة الكتان. استعادت الخطة المحكمة التي وضعتها لانتقامها، لكنها لم تجد السعادة التي توقعتها، بل على العكس من ذلك، غرقت في شعور عميق بالحزن. تناول تاديو ثيسبيدس يدها برقة بالغة وقبل راحتها وبللها بدموعه إذ كان ينتحب، عندئذ انتهى بها التفكير إلى أنها من كثرة ما فكرت في الانتقام كل لحظة، فقد تذوقت طعم الانتقام حتى أستنفذته، لقد عاشت عواطفها الدورة الكاملة للنكبة والانتقام وعندما أتمتها انتهت بأن وقعت في حبه.

خلال الأيام التالية رفع كلاهما البوابات والسدود أمام فيضان حبهما المكبوت، وللمرة الأولى وسط أقدارهما القاسية فتح كل منهما أبوابه ليستقبل اقتراب الآخر منه فتنزها معاً في الجناين وهما يتحدثان في كل شيء عن نفسيهما دون أن يتفاديا الكلام عن تلك الليلة المشئومة التي تغيرت فيها كل سبل حياتها. وفي المساء كانت تعزف له على البيانو، أما هو فكان يستريح ليستمع إلى عزفها وهو يدخن حتى يحس بعظامه وقد سرى فيها الخدر والسعادة تشمله وتلفه كعباءة، وتمحو كوابيس الماضي، وبعد أن تناولا العشاء معاً، غادر ثيسبيدس البيت متجهاً إلى سانتاتريسا، حيث لا أحد يذكر وقائع المأساة القديمة المرعبة. نزل في أفخم فندق، ومنه بدأ يرتب لليلة عرسه. أرادها ليلة جديرة بأن تتباهى بها، وقرر أن ينفق عليها ببذخ، وأن تكون الموسيقى مسموعة للجميع، ولا بد أن تحضر البلدة كلها لتشاركه ليلة عرسه. لقد اكتشف الحب في فترة من العمر يكون الرجال في سنه قد فقدوا فيها الأمل. وذلك ما أعاد لشبابه فتوته. لقد رغب في أن يحيط دولثي بالحب وبآيات الجمال، وأن يهبها كل ما تحلم به ويمكنه بثروته أن يوفره لها. أن تنال في شيخوختها ما يعوضها عن الأذى البالغ الذي ألحقه بها في شبابها. في بعض الأحيان كانت تنتابه، حالة من الهلع، عندما كان يراقبها خلسة، باحثاً في ملامحها عن أي علامة تشي بذرة كراهية خفية، إلا أنه لم ير سوى نور الحب المتبادل، وذلك ما أعاد الطمأنينة إليه. وهكذا قضيا شهراً من الحب.

وقبل يوم العرس بيومين، شرع القائمون في الفندق يجهزون للحفلة في حديقة الفندق. ذبحوا طيوراً وحيوانات للمأدبة، وقطفوا الزهور والورود لتزين البيت، بينما أخذت دولثي روسا أوريليانو تجهز فساتين الزفاف. رأت صورتها منعكسة في المرآة، مثلما رأتها يوم تتويجها ملكة للكرنفال. ورأت أنها لا تستطيع مواصلة خداع قلبها، فهي تعرف أنها لن تستطيع تنفيذ خطة انتقامها، لأنها أحبت القاتل، لكنها لا تستطيع بذلك أيضاً أن تهب السكينة لروح السيناتور. وهكذا طلبت من الخياطة أن تنصرف، وأخذت المقص وذهبت به للغرفة في الفناء الثالث، والتي ظلت خلال هذه السنين كلها مهجورة ولا يسكنها أحد.

بحث تاديو ثيسبيدس عنها في أنحاء البيت. ينادي عليها وهو يائس، نباح الكلاب فقط هو الذي قاده إلي الناحية الأخرى من البيت وبمساعدة الجناينية دفع الباب المغلق بالترباس من الداخل حتى هوى مرتطماً بالأرض، ودخل الغرفة حيث رأى مرة واحدة ملاكاً متوجاً بتاج من زهور الياسمين. وجد دولثي روسا أوريليانو، مثلما ظل، يراها في أحلامه كل ليلة طوال حياته، بفستان الأورجانزا الملطخ بالدم نفسه، وتكهن بأنه محكوم عليه بأن يظل حياً حتى يكمل سنينه التسعين، ليكفر عن خطيئته. بتذكره الدائم للمرأة الوحيدة التي أمكن لروحه أن تجد لديها الحب.

عن الكاتبة إيزابيل الليندي

ولدت إيزابيل عام 1942. وهي ابنة أخ سلفادور الليندي الزعيم الاشتراكي الذي انتخب رئيسا لشيلي وتآمرت عليه الاحتكارات الداخلية وأطاحت به في مذبحة مروعة له وللمقاومة الشيلية الشعبية إلى أن أطاح الشعب الشيلي ببينوشيه في أول انتخابات أتيحت له.

تقول إيزابيل الليندي: إن الانقلاب العسكري بقيادة بينوشيه هو الذي وضعها بفظاظة في مواجهة الواقع وأجبرها على تغيير مسار حياتها كلها، وكان أول تغيير جذري لحياتها شروعها في الكتابة بعد سن الأربعين، بعد عملها بالتدريس ثم الصحافة- فأصدرت رواية "بيت الأرواح- 1982"، "الحب والظلال- 1984"، "إيفالونا- 1987"، "قصص من إيفالونا- 1989"، وأخيراً "باولا- 1994" وقد ترجمت رواياتها لعديد من اللغات بما فيها اللغة العربية: ترجم الأولى سامي الجندي، وترجم الروايات الثلاث الأخريات صالح علماني: أما قصص من إيفالونا فلم تترجم ولم يصدر كتاب بهذا الاسم.

تعد إيزابيل الليندي أهم صوت أدبي نسائي في أمريكا اللاتينية الآن، وتحمل كتاباتها سمات كتابات كبار كتاب أمريكا اللاتينية المعاصرين وفي مقدمتهم ماركيث وكارلوس فوينتس وخوان رولفو، وخوان كارلوس أونيتي، وبورخيس، وباوستوس، وكورتاثار، وكاربنتيه.. إلخ. كتابتها تواجه الواقع بتشريح وكشف بالغي الجراءة والعنف، عنف مماثل لما يطرحه الواقع من معارك متصلة بين أشكال القهر وأشكال المقاومة، والتضحيات الفادحة التي تتحملها الشعوب دفاعاً عن نفسها وثرواتها وكرامتها.

وتستند إيزابيلا إلى غنى الاتجاهات الأدبية التي تربت عليها من قراءاتها لكتاب القارة وعلى رأسها الواقعية السحرية، بالكشف عن التناقضات، وسير النفس الإنسانية والاقتراب من التحديات التي تحاول قهرها، واكتشافها لذاتها، وقدراتهـا في الواقع، وقدرات خيالها والسبل التي ترتادها لتحقيق ما تحلم به. وتقدم لنا إيزابيل المرأة في أمريكا اللاتينية بوصفها شخصية قادرة، لا تقهرها المحن، فتكشف عن أجمل وأسمى ما فيها. وقصة "نزيل المعلمة" نموذج حي لكتاباتها الرائعة.

" المترجم"

 

إيزابيل الليندي