المادة الظلماء.. تاج الكون الأسود

المادة الظلماء.. تاج الكون الأسود

يروى لزوار قصر (التاج محل) أن الشاه جهان عندما قرر تشييد ضريح عظيم بالرخام الأبيض لزوجته ممتاز محل (في القرن السابع عشر)، كان ينوي إقامة ضريح ثان لنفسه في الجهة المقابلة لنهر يامونه، على أن يكون مطابقا للأول، ولكن.. أسود. وبرغم أنه لاتوجد أي أدلة تدعم هذه الرواية، فإن أسطورة (التاج الأسود) ظلت تتناقل بين الناس بسبب ماتحمل من رموز رائعة ومؤثرة في الخيال البشري.

تصور معي، عزيزي القارئ، ما سيكون رد فعل الجمهور لو أن العلماء وجدوا أدلة حقيقية تثبت أن (التاج الأسود) موجود فعلا، وفي المكان المقابل لـ (التاج محل) وهو أضخم منه بين عشرة ومائة مرة، لكنه لايرى لأنه مصنوع من مادة مجهولة لاتظهر آثاراً سوى عن طريق الجاذبية! لاشك أن مثل هذا الاكتشاف سيتصدر أخبار الصحافة والتفزيون عبر العالم كله.

هكذا يقدم لنا الكاتب العلمي تيموثي فرس Timothy Ferris في كتابه الأخير (القصة وما فيها) 1997 فكرة المادة الظلماء في الكون، فهو يلخص لنا تشبيهه الجميل ببساطة: المادة الظلماء، التي نود عرضها بشيء من التفصيل هنا، هي (التاج الأسود) في الكوسمولوجيا (علم الكون) الحديث.

أجهزتنا عاجزة

خلال العشرين سنة الأخيرة، دلت النظريات والأرصاد الفلكية على أن ما بين 90% و99% من الكون مكون من مادة ظلماء، وهي غير مرئية لا لكونها بعيدة، ولكن لأنها لاتشع ولا تعكس أي نور. ويعتقد أن جزءا، ربما صغيرا، من هذه المادة مشكل من أجسام ذات النوع المعروف، ولكن القسط الأكبر منها مكون من مادة مجهولة تماما، لم يكتشفها الإنسان إلى الآن. وهذا ما يؤرق الفلكيين، لأنه يعني ببساطة أن ملايين المجرات التي درسوها إلى الآن لاتشكل إلا أقلية صغيرة جدا قد لاتمثل أبدا باقي الكون. وبالتالي فإن كل ما نفتخر بمعرفته عن الكون اليوم ربما لايشكل إلا جانبا خاصا منه، كأن يحاول المرء القيام بسبر الآراء في المجتمع حول موضوع معين ويكتفي بتوجيه أسئلته، للنساء الحوامل!

لقد جاءتنا أقوى الدلائل على وجود المادة الظلماء من دراسة الحركات الدورانية للنجوم حول مركز المجرات التي تنتمي إليها، فمثلما نستطيع وبسهولة حساب كتلة الشمس بقياس سرعة أو زمن دوران الكواكب حولها، أو كتلة الأرض من خلال قياس دوران القمر حولها، يمكننا استنتاج كمية المادة الموجودة داخل مجرة ما عن طريق قياس سرعات دوران نجومها، ولأن قوة الجاذبية تتناقص مع مربع المسافة، يفترض أن نحصل على سرعات أصغر وأصغر كلما ابتعدنا عن مركز المجرة. لكن الفلكيين وجدوا النجوم الطرفية تدور بسرعات لاتقل عن سرعات النجوم الداخلية، مما أدى بهم إلى استنتاج كتلة للمجرة أكبر مما نراه، أي وجود مادة ظلماء.

وبرغم أن هذا الاستنتاج يعود إلى أكثر من نصف قرن مضى، فإن أحداً من الفلكيين لم يأخذ به أو يعره اهتماما ـ حتى الفترة الأخيرة ـ لأنه صعب على العلماء تقبل أن تكون أجيال من الدارسين للسماء، عبر القرون والألفيات الماضية، قضت حياتها كلها تدرس ما قد لايمثل أكثر من جزء واحد من المائة (1%) من الكون.

ولايمكن طبعا رصد المادة الظلماء مباشرة بأي نوع من الأجهزة، لكن يمكن البحث عن آثارها على المادة المضيئة. فالمجرات اللامعة تسمح بتقفي آثار المادة الظلماء تماما كما تفعل الثلوج على الجبال، فحتى لو لم نر صخور الجبال ولم نشاهد سوى الثلوج، يمكننا استنتاج طبيعة وحجم وشكل وتوزيع الجبال من تحتها من خلال دراسة المادة البيضاء.

وقد (أكدت) الأبحاث والتحاليل الأخيرة وجود المادة الظلماء، إذ هناك إجماع الآن على أن المجرات الحلزونية مثل مجرتنا (درب التبانة) تحيط بها (هالات مظلمة) من المادة المجهولة. وكذلك تم استنتاج أن المجرات البيضوية تحوي ما لايقل عن 70% من المادة الظلماء، بل إن تحليل الأشعة السينية الصادرة منها يؤكد أن هذه المجرات تتكون بنسبة 90% من هذه المادة المجهولة. أما المجرات القزمية فهي مليئة بتلك المادة. وأخيرا هناك أدلة متنوعة (ديناميكية ورصدية) على أن مجموعات المجرات هي أيضا مشكلة بنحو 90% من المادة الظلماء. وبذلك يبدو أنه كلما درست عينة أكبر من الكون عثر على نسبة أكبر من هذه المادة الغريبة.

ثم هناك نتيجة مهمة لوجود المادة الظلماء يجدر بنا ذكرها هنا، تتمثل في تأثيرها على مستقبل الكون ككل. فإذا تأكد أن نسبة هذه المادة في الكون هي 99% أي أن كتلة الكون هي في الحقيقة 100 مرة أكبر مما نراه، فإن الجاذبية المضاعفة للكون سوف تتمكن من توقيف توسعه ـ بعد عشرات الملايين من السنين ـ وربما تحويله إلى تقلص حتى الانهيار. وكذلك عمر الكون (الماضي) الذي نستنتجه من القياسات اليوم يعتمد بشكل مباشر على كمية المادة الموجودة، وبالتالي فقد يكون كوننا خلق منذ 15 أو 12 وليس 10 مليارات سنة.

المسألة إذن في غاية الأهمية

ساخن وبارد وبين بين!

جاءت أولى الدلائل على وجود المادة الظلماء على يدي الفلكي الهولندي جان أورت Jan Oort لدى دراسته لحركات النجوم في المجرة. وبرغم أن قليلا من الجمهور من يعرف أورت فإنه فلكي مهم جداً، حتى أنه يمكن القول إن معظم المعلومات الأساسية التي نعرفها كلنا اليوم عن مجرتنا (درب التبانة) كانت نتاج أبحاثه، ومن ذلك أن الشمس تقع في ضاحية من المجرة تبعد بنحو 30 ألف سنة ضوئىة عن المركز، وأن كتلة المجرة تقدر بحوالي 100 مليار كرة كتلة الشمس، وكذلك تمكنه من تحديد مواقع وأشكال الأذرع الحلزونية للمجرة. وأهم ما يعرف عن أورت أنه اقترح أن المذنبات التي تمر بالقرب منا من حين لآخر كلها تصدر من سحابة كبيرة تحيط بالمجموعة الشمسية على بعد حوالي سنة ضوئية. وبرغم أن أحداً لم يرصد هذه السحابة مباشرة فإن ثمة إجماعا على وجودها. أما في مسألة المادة الظلماء، فكان أورت أول من أشار، في أواسط هذا القرن، إلى أن سرعات النجوم تعطي تقديرا لكتلة المجرة يفوق بالضعف مانستنتجه من قياس المادة المضيئة فيها.

هذا في مجرتنا. أما عن مجموعات المجرات فكان الفلكي السويسري ـ الأمريكي فرتز زفيكي Fritz Zwicky قد وصل إلى نتيجة من نفس النوع في الثلاثينيات. فبعد دراسته لحركات المجرات المكونة لمجموعة Coma استخلص قيمة للكتلة الإجمالية هي عشر مرات قيمة الكتل المرئية. وتؤكد الدراسات الحديثة هذه النتيجة، أي أن تسعة أعشار من مجموعات المجرات تتكون من (مادة ظلماء)، وهوالمصطلح الذي اقترحه زفيكي منذ ستين عاما، وكان زفيكي فلكيا ممتازا، إذ تنبأ بوجود مجرات مدمجة زرقاء تبدو كالنجوم من شدة لمعانها، وهو ما تأكد مع اكتشاف الكويزرات. واقترح أيضا (سنة 1937) أن البحث عن المادة الظلماء يمكن أن يتم بطريقة (العدسات الجاذبية)، وهي طريقة لم تتوصل التكنولوجيا إلى اعتمادها حتى بداية التسعينيات. ولكن زفيكي كان ذا شخصية غريبة وصعبة، كانت علاقاته مع باقي الفلكيين سيئة في معظم الحالات، الشيء الذي لم يشجع القوم على الاهتمام بأعماله وأفكاره.

وبقيت المسألة نائمة حتى سنة 1937 حين أثبت عالمان كبيران من جامعة برنستن العريقة، هما أوسترايكر Ostriker وبيبلز Peebles، أن المجرات الحلزونية مثل (درب التبانة) لايمكن أن تبقى في استقرار لمدة طويلة (عشرة مليارات سنة، عمر مجرتنا) إذا وجدت كتلتها كلها في القرص المجري. بتعبير آخر، مادامت مجرتنا، وملايين مثلها، في حالة مستقرة، فلابد أن (هالة) من المادة غير اللامعة تحيط بها.

وهكذا تحولت المسألة من "هل هناك مادة ظلماء؟" إلى "ما عسى هذه المادة أن تكون؟"

في أواسط الثمانينيات، كانت المادة الظلماء (الحارة)، أي السريعة مثل النوترينوات، هي الخيار المفضل لدى الفلكيين النظريين، ثم في أواخرالعقد بدت المادة الظلماء (الباردة)، أي الأكبر كتلة والأقل سرعة، هي الأفضل، لكن عندما وضعت برامج حاسوبية متطورة في التسعينيات من أجل بحث المسألة وخياراتها المختلفة ومقارنتها مع التوزيع المجري في السماء، ظهرت تعقيدات جديدة تمثلت في عدم قدرة تلك الأنواع من المادة على إخراج التركيب الدقيق المشاهد في الكون. وعندما قدم القمر الصناعي الفلكي الشهير Cobe نتيجته المهمة سنة 1992 حول الاختلافات الدقيقة الموجودة في درجة حرارة الكون في الاتجاهات المختلفة، توصل الباحثون إلى (الوصفة) المثالية للمادة الظلماء: ثلثان من النوع (البارد) وثلث من النوع (الحار) ورشة خفيفة من النوع العادي.

نوع غير عادي

إن أبسط الإمكانات هي أن تكون المادة الظلماء كالمادة العادية مكونة من بروتونات ونوترونات وإلكترونات. وهناك بالفعل عدد من الأجسام التي يمكن ترشيحها في هذه الحالة، منها خاصة: (الأقزام البنية)، وهي نجوم صغيرة جدا (حوالي جزء من الألف من كتلة الشمس) بحيث لاتشع إلا نورا أحمر باهتا يصعب رصده على مسافات معتبرة، ويمكن أيضا اقتراح الثقوب السوداء والكواكب العملاقة والسحب الغازية الباردة، وكلها ستبدو ظلماء لعدم إشعاعها. وربما كانت سحابة أورت المشار إليها آنفا (التي تحوي مائة مليار مذنب) أحسن مثال لهذا النوع من الأجسام، ويستطيع هذا النوع من المادة أن يؤدي الغرض على مستوى المجرة، ولكنه لايكفي بالنسبة لمجموعات المجرات والكون ككل، ذلك لأن حسابات إنتاج العناصر الكيميائية المختلفة أثناء اللحظات الأولى من الانفجار العظيم تفرض حداً أقصى من المادة العادية. وبالتالي لابد أن يوجد هناك نوع غير عادي من المادة الظلماء.

وتنقسم الأنواع غير العادية المقترحة للمادة الظلماء إلى قسمين: نوع يدعى Machos "مدمجة، عالية الكتلة، وموجودة في هالة المجرة"، وWimps "جسيمات كتلية ضعيفة التفاعل" مثل النوترينوات. لاحظ معي، عزيزي القارئ، أسلوب الفكاهة عند الفلكيين الفيزيائيين في تسميتهم للأشياء، إذ كلمة Macho تعني في العامية الأمريكية (الشخص الخشن المبالغ في الاسترجال)، وWimp تعني (الشخص الضعيف الخجول المتواري).

وقد اقترحت طريقة بديعة للبحث عن الأجسام (الخشنة) Machos سنة 1989من طرف تشارلز آلكوك، وهو فيزيائي فلكي بمخبر لورنس ليفرمور القومي، هذه الطريقة تدعى (التعدس الدقيق) Micro Lensing، وهي تعتمد الكاميرات المتطورة CCD في محاولة تسجيل أي تغيرات قصيرة في شدة لمعان نجم ما خلال مرور جسم (خشن) بينه وبيننا. وبرغم أن العملية دقيقة جدا ومعقدة، فإنها نجحت في منتصف سنة 1995، حيث تمكن فريق البحث (المشترك بين مخبر ليفرمور وجامعتي بركلي وأستراليا) من تسجيل ثمانية أحداث (تعدس دقيق) في مجرة (سحابة ماجلان الكبرى). ومن قياس المدة التي يستغرقها تغيراللمعان للنجم يتمكن الباحثون من استنتاج حجم الجسم الذي مر أمامه، وقد وجدوا أن تلك الأجسام (الخشنة) تقارب الأرض في الحجم، وبالتالي فهي أقزام بنية أو بيضاء. ثم وجه فريق البحث أجهزته إلى وسط مجرتنا، فوجدوا عددا كبيرا من الأحداث المماثلة. وشكلت هذه الأبحاث (الحديثة جدا والمتواصلة إلى اليوم) أول كشف مباشر لوجود المادة الظلماء (الخشنة)، وأيضا أول تحديد لماهيتها، وأول تأكيد رصدي لوجود هذه المادة بكثرة في مجرتنا.

ومن جهة أخرى هناك أيضا دلائل على وجود المادة الظلماء (الضعيفة). أولها ما ذكرناه آنفا من أن المجرات والمجموعات لايمكنها الحفاظ على استقرارها جاذبيا إذا لم تحتو إلا على المادة العادية. ثانيا نجد أن فيزياء الجسيمات الأولية تتنبأ هي أيضا، وبشكل مستقل تماما، بوجود جسيمات تحمل نفس مواصفات المادة الظلماء (الضعيفة) بالضبط. تسمي الفيزياء النظرية مثل هذا الجسم LSP ( أخف الجسيمات فوق التناظرية)، ويتصدر (النوترالينو) قائمة المرشحين الرئيسيين.

ولأن أشهر الجسيمات (الضعيفة) هو النوترينو (إذا تأكد أن له كتلة ما)، ولأن قصة بروزه على الساحة الفيزيائىة تحمل دلالة كبيرة في موضوعنا، نود التذكير بها هنا بإيجاز. كان الفيزيائيون في العشرينيات من هذا القرن يدرسون التفكك النووي (أوالإشعاع الطبيعي)، فوجدوا أن العملية تتم بخرق لمبدأ (حفظ الطاقة) المقدس. واقترح باولي Pauli سنة 1930 أن الطاقة المختفية لابد أنها تتسرب على شكل جسيم مجهول، عديم الكتلة والشحنة (لذا سماه الفيزيائي الإيطالي فرمي (نوترينو)، أي (الأخ الصغير للنوترون) باللغة الإيطالية)، لايستطيع أي جهاز (آنذاك) الكشف عنه. وكان اقتراحا جريئا إلى حد الغرابة. ومرت ست وعشرون سنة قبل أن يتم الكشف عن النوترينو تجريبيا، واليوم صار هذا الجسم لاعبا رئيسيا على الساحة الفيزيائية، إذ يلعب دورا أساسيا في سيناريو اللحظات الأولى من تاريخ الكون، وكذلك في التفاعلات النووية التي تنتج الطاقة المشعة من طرف النجوم، وأخيراً في عملية انفجار النجوم (السوبر نوفا) في آخر حياتها. ويبقى الجانب الوحيد الذي لم يتأكد الفيزيائىون منه هو ما إذا كان النوترينو عديم الكتلة تماما.

ونرى أن العبرة من قصة النوترينو أنه يجب عدم التسرع في اعتبار أي اقتراح فيزيائي غريب أو غير معقول، ويجب أيضا عدم تجاهل الإشارات الطبيعية مهما كانت غريبة ـ لمجرد أنها لاتناسب تصوراتنا (المحدودة والمشوهة) للحقيقة.

ونؤكد في الختام على أن التجارب الجارية حاليا، منها تجربة (التعدس الدقيق) التي ذكرناها أعلاه، ومنها محاولات الكشف عن الجسيمات الأولية (الضعيفة)، داخل المسرعات الكبرى، هذه التجارب بدأت تقترب وبسرعة من التأكيد الكامل والنهائي لوجود (المادة الظلماء) في الطبيعة والكون.

فلنراقب التطورات ولننتظر النتائج بعقول سمحة وأذهان متفتحة.

 

نضال قسوم

 
  




من عناقيد مجرات الكون





لحظة تألق السوبر نوفا في صورة بالأشعة