أزمـة واحدة .. وتصـورات مختلفة عزت قرني

أزمـة واحدة .. وتصـورات مختلفة

ما هي الأزمة بشكل عام؟ وما تعريف أزمة الفكر المعاصر على وجه الخصوص؟ بـرغم أن تشخيص الأعـراض قـد يكـون واحـدا إلا أن ظـاهـرة تناول المصطلح في عـالمنـا العـربي تثير إشكالية لا بد من التعـرض لها .

عقدت في الكويت، في أوائل الفترة من الثالث إلى الخامس من إبريل 1995 م، وبدعـوة من "المجلة العربية للعلوم الإنسانية" وجـامعة الكويت ، وبالتعاون مع مؤسسة الكويت للتقـدم العلمي، ندوة بعنوان : "أزمة الفكر العـربي المعاصر في ضوء المتغيرات الجديدة" ، وضمت أربعة عشر بحثا قدمها باحثون من الكويت ومن مصر وسوريا والبحـرين والمملكة العربية السعـودية وتونس والمغـرب، وقـام بالتعليق عليها ومنـاقشتهـا عـدد آخـر من الباحثين والكتاب نـاف عددهم على الخمسة والعشرين، وسـوف يظهر إصدار خـاص من "المجلة العربيـة للعلوم الإنسانية" يحوي نصوص البحـوث والتعقيبات عليها، بما يجعله مرجعا مهما في موضـوعه، وسيقارن هذا الإصدار الخاص من غير شك مع مجلد مهم آخر حـوى نصوص ندوة أخرى مقابلة عقدت في الكويت أيضا عام 1974، بعنوان: "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي" (أقامتها جمعية الخريجيـن وجامعة الكويت) .

ولا نقصد من هذا الحديث إلا أن نعـرض، لمسألة واحدة من مسـائل هذا اللقـاء المهم ، إذ إنها كانت مركزية فيه وهي مسألة "الأزمة" ذاتها: فما تعريف الأزمة بصفة عـامة، وما تعريف أزمة الفكر العربي المعاصر على الخصوص؟ واضعين جانبا ، بصفة عامة ومن حيث المبدأ، علامات تلك الأزمة ومظاهرها من جهة، وأسبابها والحلول المقترحة لها من جهة أخرى، وذلك بالنظر إلى المساحة المحدودة المتاحة أمام حديثنا هذا.

اختلاف أم ثراء؟

ولكن السـؤالين اللـذيـن أشرنـا إليهما، فضلا عن أهميتهما الذاتية، يكونان وحدة مترابطة، ولعله يخرج من دراساتهما، من خـلال مواقف أبحـاث تلك النـدوة ،مغزى مهم هو ظاهرة بحد ذاته : هذا المغزى قد يسميه البعض مظهر الاختلاف الشديد بين العقول على النظر في ظاهرة واحـدة، وقـد يسميـه البعض الآخر مظهر الثراء في التنـاول وغنى التحليـلات والتشخيصـات وتعـددها بـما قد يدل على الصحـة لا المرض، ويكـون ظـاهـرة إيجابية لا سلبيـة. ذلك أننـا لاحظنا، عبر اشتراكنا في سائر جلسات الندوة، وكان لصاحب هذه السطور شرف التقـدم ببحث والقيـام بالتعقيب على بحـث آخـر، لاحظنا أن هنـاك اختلافا بينا في تعريف مفهـوم "الأزمة" بين الباحثين ، واختلافا شديداً في تطبيق التعريف على حالـة الفكر المعاصر، وفي وضع تلك الأزمة في إطار زمني محدد، بل إن بعض أصحاب البحـوث رفضوا ابتـداء، أن هنـاك أزمة على الإطلاق في الفكر المعاصر.

وهكـذا، فإن غرضنا هنا ليس تحديـد مـوقف ولا النظر نظرة نقدية إلى الآراء التي عبرت عنها الأبحاث، بل هـو غرض أكثر تواضعا، وإن كنا نأمل أن يكـون مفيدا للجميع ، ولقراء مجلة "العربي" في المقدمة: ذلك هو تقديم عرض، أو "معرض" ، موضوعي للآراء المتباينة في شأن الموضوعات التي أشرنا إليهـا، بحيث يجد القارئ نفسه أمام عينات نمـوذجية، متنوعة ومتكاملـة معا، من المواقف وطرق التفكير وأسـاليب التعبير على السواء .

ولا نشك في أن كل قارئ سيجـد هواه يطير مع بعض هذه المواقف دون تلك، ولكن النتيجة ستكـون تأكيدا جديـدا لقبول التعددية في الرأي والتعـود على احترام الرأي الآخر ومحاولة إدراكه "في ذاته" ، وبصرف النظر عن تأييد للرأي المعارض أو الوقوف على الحياد. ولنقل بطريقة أخرى: إن هدفنا هو أن نتبين كيف يفكر باحثون مختلفون ، منطلقين من آفـاق متنـوعـة ولهم افتراضات وأسس متبـاينة، حول نفس الظاهرة، ولربما يكـون في هذا مادة لدراسـة الباحثين في المعرفـة من النـاحيـة الاجتماعيـة، أو مـا يسمى "علم اجتماع المعرفة".

ولنبدأ من تعريف مفهـوم "الأزمة" بوجه عام. وهنا ندهش أمام واقعة غريبة: ذلك أن بعض الأبحاث الأربعة عشر لم يتوقف مطلقا أمام هذا الأمر، ونظن أنه كان من المتـوقع أن يتخذ كل بـاحث لنفسه مـوقفا من هذه المسألة، ومن المسألة التي ستليها، ولو في سطور سريعة قبل أن يتحدث بالتفصيل في موضوعه. وها هي المحاولات التي قدمت من أجل تعريف مفهوم "الأزمة" عموما:

تقدم د. سالم يغوت بتعريف أول يقول : (الأزمة أو الأزمات، على وجـه العمـوم، وفي نهايـة المطاف،"أزمات نمو"أو "أزمات تقـدم"، وليست بأي حـال علامات "فشل " أو " إخفاق" ، بـاعتبار أنها تعكس"منعطفـات" أو لحظـات " تحول " يتأكـد فيهـا عجـز الأساليب والأدوات القديمـة والمعهودة عن استيعاب الوقائع والمعطيات الجديدة) .

وهناك تعريفان ثان وثالث له أيضا: "تعني" "الأزمة"في معناها القاموسي المعجمي والضيق: اشتداد الحال إلى حد الاختناق مثلما يختنق الحبل عندما يحكم فتله،أو يأزم القوم عنـدما تصيبهم صروف الـدهـر وأوزاره ومحنـه، أو حينما "يعضهـم" الـدهـر وينيخ عليهم بكلكله. كـما تعني القحط وما يسببه من اشتداد الحال وضيق المعاش: أما في معنـاها الشائع والمتـداول فإنها تعني كل تغير مبـاغـت يحدث فجأة فيؤدي إلى تحسن الأحوال أو إلى تدهورها، فيقال: مرت الأزمة على خير، أو مازالت الأزمة قائمة" .

ويقول د . كمال عبداللطيف عن الاستخدام الشائع الذي يبدو أنه يتحفظ عليـه : " مفهوم الأزمة يراد منه في الأغلب الأعم أن يكون مرادفا للكـارثة ، أي للوضعية غير المرغـوب فيها. وفي هذه الحالـة تختلط العناصر الذاتية في التحليل بالمعطيات الموضوعية، مما يؤدي إلى البلبلة الفكرية". ومن جهة أخرى فإنـه يشير إلى أن ذلك المفهـوم، في الاستخدام الغربي، ارتبط بالتحولات والثـورات الكبرى التي أدت إلى المجتمع الصنـاعي، "وعكس المفهـوم المرحلـة الانتقـاليـة داخل هـذه التحولات، حيث حـددت الأزمة ملامح التوتر المؤدية إلى نظام في المجتمع والاقتصاد والثقافة ، مخالف للنظام القائم ". "الأزمة هنا اختلال في النظام القائم، اختلال مؤقت وعارض، تتولد عنه في سياق التطـور والتحول ممكنـات تعيد صياغة نظام العلاقات ضمن زمانية مفتوحة على التحول المتواصل.

ثم ينظر د.كـمال عبداللطيف أخيراً إلى الاستعمالات الراهنة للمفهوم، والتي استفادت من الأدوات المنهجية المستخدمة في مجال العلوم الإنسانية، فيرى أنها أدت إلى النظر إلى موضـوع الأزمة "من زاوية نسقيـة مركبـة" ، وأصبح المفهوم أداة لتشخيص أبعاد الظواهر المدروسة ،"ولم تعد الأزمة مرضا أو عرضا مرضيا"، بل تحولت إلى "مسألة موضـوعية يلزمنـا التعايش معها"، لأن ربط الأزمة بالنسق العام للمجتمـع والفكر أدى إلى اعتبارها " مسألة حيوية ". والنتيجة المنهجية لهذا المنظور هي أنه يجب تشخيص معطيـات الأزمة وتحليـل أبعادها ،للتمكن من الـوصـول إلى ما سيسـاعد على "حسن إدارتها " وتدبير النتائج المترتبة عنها .

أخيراً، فقـد تقدم كـاتب هذه السطـور بالتعريف التالي للأزمة عموما: "يمكن أن نعـرف "الأزمة" بطرق عديدة، ونختار هنا تعـريفا لها أنها مـوقف مشكل مستمر لا يجد الواقع فيه مخرجا إيجابيا منه" .

تحديد الأزمة

ثم نأتي الآن في السـؤال الثاني : كيف نحـدد أزمة الفكر العربي المعاصر؟ وهنا سنجد التعريفات أكثر بكثير مما كـانت عليـه الحال مع السـؤال الأول، وهي ستدور بصفة عامة في دائرة البـدائل التاليـة : أأزمة واحدة أم أزمات متعددة؟ أزمة الفكر وحده أم أزمته مع أزمـة أو أزمـات كيـانـات أخرى من مثل المجتمع والسياسة والواقع، أو الثقافة والعقل؟ وهل هي أزمة الفكر عموما أم أزمة جانب نوعي من الفكر، هو الفكر السياسي أو ذلك القـومي مثلا أو غير ذلك؟ ونلاحظ سريعا أن الغالبيـة الكبرى من الأبحاث لم تتعرض لتعريف الاصطلاحات الأخرى الـواردة في السؤال الحالي ، وهي اصطلاحـات: " الفكـر " و " العربي" ، و " المعاصر" ، وإنما انطلقـت لعرض آرائها دون التـوقف أمام هذه المفاهيم . ونعرض الآن لمحاولات تعريف "أزمة الفكر العربي المعاصر" (والترتيب بحسب تتالي الأبحاث في برنامج الندوة) .

وقد بدا د . سالم يغوت وكأنـه يـرفض وجود أزمـة للفكر ، مميزا بـين ما هو "حكم قيمة" يعـبر عـن شعور ذاتي ومـا هـو "حكم واقع"يعبر عن واقـع حقيقي موضوعي، ويضرب مثـلا لهذه "الأزمة الحقيقيـة" . "ما يحدث لجسم سليم معافى تنتابه أزمة ربو حادة أو أزمة عصبية شديدة" ، أو ما يحدث في الأزمات الـوزارية ،ويعلق مستطردا: " باعتبار أن للأزمة هنا بعدا حقيقيا وواقعيا ملموسا، فإنه من المتعذر علينا الكلام عنها في المستـوى الثقافي أو العلمي بنفس الحجم والمدلول"، ويخلص إلى " عدم وجاهة الكـلام عن الأزمة في مستوى الفكر، أي فكر بنفس المقـاييس والمعايير التي نتحدث بها عن الأزمـة في عالم الاقتصـاد والسيـاسـة والمال والصحة" . ويعـود في نهاية بحثه إلى الإشارة إلى "نشوء صراعات وهمية، وهو أمر يضعف النظر العربي ويحصره في دائرة مغلقـة من المغالطات المفسدة لآليـات العمل العقلي. بل حتى الكـلام عن "أزمة" مفترضـة يتخبط فيها الفكر%العـربي المعـاصر، كلام يتطلب وقفـة تأمل نقـديـة تؤدي في التسـاؤل عن طبيعتهـا كأزمـة؟ وهل يمكن القول بأنها تـوجد فعـلا؟" .وبعد أن يشكك د . سـالم يغوت على هـذا النحو في وجـود أزمة للفكـر من الأساس ، يعـود ليقول على الفور بعد الكـلام السابق : " وأعتقد أن مختلف مظاهر "أزمة الفكر العربي المعاصر"ترتد إلى أشكال واحد يمكـن تكثيفه في الصيغة التالية : العرب والتاريخ . ونعني بها التساؤل عما إذا كان العرب قد استوعبوا مكاسب الحداثة؟".

أما الأستاذ محمود أمين العالم، فإنه يبدأ بتحديد غير مباشر لـلأزمة بأنها أزمـة غياب الفكر النظري النقدي التأسيسي، ويـرى من بعد ذلك، في نظـرة أخرى، أن هـناك أزمـة في الفكر العـربي المعاصر، وأنـه لا سبيل إلى فصلها عن أزمة الواقع العربي نفسه موضوعيا وتاريخيا، ولذلك فإنه يصك لها اصطلاحا جديدا، حين يقول إنها"أزمـة التبـاس مزدوج" . وتـؤرخ هـذه الأزمة بعصر النهضة، وبما يسمى بصـدمة الحداثة، أي هـذا اللقاء الدرامي بين الـواقع المتخلف والـواقع الأوربي الوافد بفكره وأطماعـه وعلمائه منذ مفتتح القرن التاسع عشر . وهو يرى أن الأزمة ليسـت مجرد أزمة تفاوت في المستوى الحضاري، كما لا يحصر الأمـر في محاولـة اللحاق بالغرب، ويعتبر أن "اللقاء بين الأنا العـربية الإسلامية والآخر الأوربي لم يكن بداية التحـدث في فكرنا وواقعنا العربيين، وإنمـا كـان أساسا بـداية لازمتهما التحديثية " . ويبدو أن الأستـاذ محمود أمـين العـالم يشخص الأزمة في" ثنائية تتمثـل في هذه العلاقة الملتبسة المتـأزمة بين الأنا العربية المتخلفة والآخر الأوربي المتحضر"، وهي ليست فقط ثنائية التخلف والتقدم، بل وثنـائية قائمة في قلب هـذا الآخـر الأوربي هي تحضره من نـاحية وعدوانه واستعماره من ناحية أخرى، حتى أننا لانـزال نعيش حالة مـن التبعية بإزائه منذ مرحلة الصـدمة الأولى. ثم يضيف: " من هـذا الالتبـاس بـين الأنـا والآخر، من حيث مستـوى التحضر، ومن حيث هذا الالتباس داخل الآخر نفسه بين التحضر والهيمنة الاستغـلالية الاستعماريـة .. برزت أزمـة مزدوجـة كذلك في الفكـر العـربي وفي الـواقع العربي على السـواء". وتتمثل أزمـة الفكر العـربي على الخصوص في أنه، منـذ اللقاء الأول مع الآخـر الأوربي، لم يستطع أن يجيـب عن أسئلة الواقع، وبـالتالي لم يستطع أن يقدم حلولا نـاجعة لهذه الأسئلـة، بل إن هذا الفكـر السـائد "يكـاد في معظمه يغترب عن هذه الأسئلة ويغيب الإجابة عنها" .أخيرا ،فإن الأستاذ محمود أميـن العالم يشير إلى أن الأزمة المستمرة قد تخف حينا وتكاد تـوحي بالانفراج، ثم تعمق الأزمة حينا آخر وتصل إلى التدني والتمزق والمأساة، وبخاصة خلال السنوات الثلاثين الماضية، وكما هو حالنـا هذه الأيام" .

وفي نهايـة بحثـه يعيد إيجاز معنى الأزمة الواقعية والفكرية معا: " إننا نعـاني أزمة تخلف وتبعيـة .. إنها أزمة معـرفة وأزمـة تنمية وأزمـة نظام وأزمة حكم وأزمة تفارق صارخ بـين مستويات الثروة والتحضر ومستويات المعيشة، والديمقراطية والعلـم والثقافة، أزمة علاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، أزمة هيمنة خارجية استغلالية على مقـدرات حياتنـا ومنطلقـات تنميتنا الاجتماعية والثقافيـة والقومية، إنها في النهايـة أزمة فكر نظري نتيجة لمختلف هذه الأزمـات المتداخلة، ونتيجة فقداننا للرؤية الاستراتيجية الشاملة لتغيير الواقع وتجديده"

أما د . شاكر مصطفى فإنه يرفض الافتراض المسبق بوجود أزمة فكر، لأن "الذي نعرفه أن الفكر سواء في حالة الإبداع أم الخمول هو دوما في أزمة : أزمة خلق أو تعثر خلق .. الأزمة إذن موجودة دوماً وأبداً"، إنما السؤال الحقيقي في رأيه " هو عن عطاء الفكر، عن تدني إنتاجه، عن السبب في محدودية آفاقه وتقزم إبداعه، وعن حالة الحصار التي يعيشها بالنسبة للفكر العالمي،وعن شتات هذا الإنتاج وضياعه العنيف بعضه عن بعض في الميدان السياسي خاصة" .

وهو يعبر في إيجاز عن موقفه في نهاية بحثه بقوله : "ليس هناك أزمة فكر ولا أزمة قصور في العقل العربي ..وأزمتنا هي حالة حصار أوقفت الإبداع إلى حين، وجعلت الفكر يدور في حلقة مفرغة، فمن يكسر هذه الحلقة التي لا بد أن تكسر ذات يوم؟ هنا السؤال" .

أزمة دائمة

أما د .تركي الحمد فإنه يقدم تصويراً أول لأزمة الفكر المعاصر بأنها تقوم في هذا الخلل الظاهر الذي يجعل العقل العربي غير قادر على استيعاب التحولات العظمى في العصر الحديث، وغير قادر بالتالي على إفراز فكر قادر على التعامل مع هذه التحولات كما هي،لا كما يفترض هذا العقل أن تكون . ويقدم توصيفا ثانياً متصلا مع هذا التوصيف ومطوراً له معاً، حيث يرى أن "الأزمة المعاصرة للثقافة العربية، ومن ثم العقل العربي" إنما تقوم في أن هناك عنده مجموعة من المفاهيم والتصورات والقيم التي اكتسبت صفة الثبات المطلق، بل السكون، وفقدت بالتالي الصلة مع الواقع أو المحيط المتغير، فأصبح الإدراك الذي تنقله،والأحكام الصادرة عنها، إدراكاً وأحكاماً مزيفة من جهة ثالثة، أن "المشكلة أو المأساة التي نواجهها في عالمنا العربي أو عالمنا الثالث بشكل عام هي مشكلة منهجية في المقام الأول"، حيث " لا نكلف أنفسنا وسع تغيير المفاهيم وإعطاءها مضموناً معيناً قبل الخوض في جدل معين" . ولكنه يعود ليقرر أن لب "المعضلة الأساسية التي واجهت أمة العرب (منذ أواخر القرن التاسع عشر) يكمن في العلاقة مع الآخر بل والصراع مع هذا الآخر"، ولكن الذي واجه هذه المعضلة إنما هو "خطاب سياسي عربي" مريض، وهذه علته : "إدراك مختل وحركة أكثر اختلالاً" . ويجمل قائلاً : "نحن في هذا الزمن الصعب نعيش أزمة، بل معضلة حضارية، منشؤها في المقام الأول عدم القدرة على التعامل مع الثابت والمتحول في حياتنا إجمالاً، وشل قدرتنا الاجتماعية والحضارية، وبالتالي فعاليتنا التاريخية"، ونجده يمتد بالأفق الزمني للأزمة إلى بعيد : " هذه الأزمة أو المعضلة الحضارية ابتدأت منذ بداية أفول حضارتنا العربية الإسلامية نتيجة عدم القدرة على التعامل الفاعل مع الثابت والمتحول في نسق قيمي" . وفي خاتمة البحث نجده يرى أخيراً أننا "نعاني من أزمة اتفاق معرفي حول جميع القضايا التي يثيرها العصر، ومن ذلك تنبع إشكالاتنا واختلافاتنا واتجاهاتنا" .

أما كاتب هذه السطور، فإنه رأى في بحثه الذي قدمه إلى الندوة أن الأزمة عندنا ليست أزمة فكر وحسب، بل هي أزمة شاملة . فإذا أخذتها من حيث هي أزمة ثقافية (بالمعنى الأنثروبولوجي) فإنها تحدد على أنها أزمة الفشل في التعامل الناجع مع الواقع من حيث عدم النجاح في مجابهة الغرب من جهة، وبناء الذات الجديدة لنا، حضارة وثقافة وأمة، من جهة أخرى . وإذا أردنا أن نجمع هذين الجانبين معاً، فإننا نقول إنها أزمة الفشل في تحديد الهوية (بإزاء الآخر وبإزاء الذات) .

أما من حيث هي أزمة الفكر بالمعنى الدقيق، فإنها تظهر في مظهرين:

أ - فشل موجات الفكر السابقة المتتالية في حمل المجتمع والثقافة نحو نتائج إيجابية مقبولة .

ب - فشل المفكرين في العصر الأخير في تقديم فكر قوي شامل متسق يلتف حوله أعضاء المجتمع إيجابا وسلباً .

هذه إذن تصويرات مختلفة ومتباينة لنفس الواقع الذي نعيش فيه، وهي لا تختلف فقط بين باحث وآخر، بل وفي داخل نفس البحث أحياناً، وإن كان القارئ سيلمح على الفور قدراً معقولاً من الاتفاق . ولعل جمع الأبحاث التي حوت هذه التصورات في الإصدار الخاص بأعمال ندوة "أزمة الفكر العربي المعاصر على ضوء التغييرات الجديدة" يساعدنا جميعاً على إبراز مكامن الاتفاق، وخاصة فيما يتعلق بالأساسيات ، وعلى التحديد ما هو جوهري وما هو عرضي في فهم الواقع وتحديد آفاق المستقبل .

 

عزت قرني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات