العلاج بالموز الجيني

العلاج بالموز الجيني

في بواكير الثمانينيات خرج مارد هندسة الجينات من قمقم المختبر إلى معترك الحياة اليومية للبشر، ليقدم إليهم الأدوية التي تنتجها الكائنات المجهرية معدلة الجينات، وليتبع ذلك بالمحاصيل الزراعية المقاومة بذاتها للآفات، وبالخضار الحاملة لمزايا مختلفة: مثل الغنى بالبروتينات، أو قابلية التخزين الطويل في الجلادات (الفريز)، وغيرها.

وتجلت أحدث الخطا الثوروية في حض الخضار والفاكهة المعدلة جينياً على إنتاج (لقاحات) الكوليرا والإسهال، ليحل الطعام محل المحقن في الدول النامية الفقيرة، التي يعاني العديد منها من ضعف البنية التحتية: مثل البرادات.

ويزمع الباحثون الأمريكيون على زرع الموز الجيني المضاد للكوليرا والإسهال في حقل تجريبي في المكسيك ـ في عامنا هذا ـ بعد نجاح الاختبارات الأولى.

إذ أضحى من المعروف أن الكوليرا والأمراض الإنتانية ـ التي تنتقل بالعدوى ـ تشكل خطراً محدقاً بأعداد متزايدة من أطفال العالم الثالث، بسبب قصور البنية التحتية الطبية وعجزها. وفي هذا الصدد تشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية في واشنطن إلى أن الإسهال يقضي في كل سنة على ما يربو على مليوني طفل يقطنون في الدول النامية بالدرجة الأولى. أما في المكسيك فتشكل الإسهالات القاتل رقم واحد للأطفال الذين يقل عمرهم عن خمس سنوات.

لقاحات مبتكرة للفقراء

وفي أحد المؤتمرات دعت منظمة الصحة العالمية الباحثين إلى ضرورة ابتكار لقاح زهيد الثمن ضد الإسهالات لأطفال الدول النامية. وبعد أيام معدودات من هذا المؤتمر سافر البروفسور تشارلز آرنتزين (مدير معهد بويس تومبسون في إيتاكا الأمريكية) إلى تايلاند ولفت نظره في أحد الأسواق مشهد أمّ تمدّ موزة إلى فم طفلها. فومضت في ذهنه فكرة غاية في الجرأة: فالموز يمثل حاملاً ممتازاً للقاح (مضاد للإسهال) يصلح للأكل، وفي مقدوره تقديم العديد من الخدمات المفيدة.

إذ لا يجوز للباحثين ـ الغربيين عموماً ـ افتراض أن عدداً كبيراً من الدول الفقيرة بعيد كل البعد عن المعايير العالية للرعاية الطبية (البدهية) في الدول الصناعية الغنية. وعلى سبيل المثال لا يملك بعض الدول الفقيرة ما يكفي من القطع الأجنبي لاستيراد اللقاحات. ولو توفر المال لذلك لعجز عن شراء تجهيزات التبريد الضرورية للقاحات الحديثة. ويضاف إلى ذلك عدم توفر وسائل التعقيم والعدد الكافي من الكادر المدرب، المستعد للعمل في الأرياف. وخلافا لذلك يجد الباحث في هذه الدول (الحارة) عموماً مساحات واسعة مزروعة بالموز.

وألهبت هذه الشرارة حماس مهندسي الجينات، الذين تسنى لهم أخيرا ـ بدعم من منظمة الصحة العالمية وتمويلها ـ (ابتداع) صنف جديد من الموز يقدر على (إنتاج) لقاحات مضادة لأنواع البكتريا المحرضة للإسهال (بكتريا الكوليرا وكولي).

وفي عامنا هذا سيقوم باحثو معهد بويس ثومبسون الأمريكي بغرس شتول من هذا الموز معدل الجينات في حقل تجريبي في المكسيك. ويتوقعون أن يحصدوا طلائع فاكهة (اللقاح) بعد مضي سنتين.

هذه المدة الطويلة بين غرس الموز الجيني وحصاده أو قطافه دفعت الباحثين ـ المتشوقين للحصول على نتائج مطمئنة في أقصر وقت ممكن ـ إلى إجراء تجارب أولية على محصول سريع النمو: على (البطاطا) (البطاطس) معدلة الجينات، والتي أثبتت إمكانية مبدئية لتحويل النبات إلى مصنع للقاح.

إذ سمح قصر عمر محصول البطاطا للباحثين الأمريكيين بتقصير الزمن اللازم لتدقيق مفعول لقاحات الإسهال (الصالحة للأكل).

من الفئران إلى البشر

كُللت التجارب التي أجريت على الفئران بالنجاح ـ وهذا ما شجع بالطبع على زراعة الموز في عامنا هذا. إذ شكلت الفئران التي التهمت البطاطا الحاوية على لقاح الإسهال (مناعة ذاتية) (أجساما مضادة انتقائية) تقيها من الوقوع فريسة لبكتريا الإسهال عند تعرضها إليها. فهل ينطبق ذلك على البشر أيضا؟

للإجابة عن هذا التساؤل، وللتأكد من وقاية البشر من الإسهال يقوم الباحثون في الوقت الحالي بإجراء دراسة على أشخاص متطوعين، أعربوا عن استعدادهم لتناول البطاطا الجينية (نيئة)!

ومع أن البطاطا تنمو بوتيرة أسرع وبشكل ملموس عن الموز، فإنها تعاني من نقيصة حاسمة: إذ يؤدي طبخها (سلقاً أو قلياً) وتعريضها للحرارة إلى تفكيك مادة اللقاح. وهذا ما يجبر المتطوعين على تناول وجبة عسرة الهضم مكونة من البطاطا النيئة. لذا يرجح الباحثون كفة الموز، الذي يؤكل نيئاً، ويتمتع بطعم مستساغ، لحمل أو احتضان اللقاح في المستقبل. وهذا ما دعا الباحثين الأمريكيين إلى تحضير شتول لزراعتها هذا العام في مزرعة موز تجريبية، يتوقع لها أن تؤتي ثمارها من الموز الجيني الحاوي على اللقاح بعد انقضاء سنتين.

ومع أن تناول اللقاح عن طريق الفم ليس بجديد، فقد أثبت جدارته في حملات التلقيح العالمية ضد شلل الأطفال، إلا أن عزم الباحثين الأمريكيين على تسخير الموز سيجبرهم على إجراء أبحاث (أساسية) موسعة، نظراً للجهل المطبق ـ تقريبا ـ بالتسلسل الجيني (جينوم) لنبات الموز.

ويشبه البروفسور آرنتزين الصعوبات التي تنتظر الباحثين المتفائلين بمهندس يمسك بين يديه بمخطط تصميمي لطائرة لكن ذلك المهندس لم يسبق له رؤية أي طائرة قط. والآن حصل هذا المهندس على النموذج (التجريبي) الأول، الذي سيتم تجريبه بعد شهور عدة في المكسيك. إلا أن الخبرات المتراكمة تؤكد أن فشل المشروع يبقى أمراً وارداً.

فالتجارب الميدانية وحدها هي التي ستحدد أصناف الموز التي يبقى فيها اللقاح فعالاً. كما يتطلب الأمر سلاسل طويلة من التجارب ـ بعد ذلك ـ لتحديد (حجم) الموزة التي تحتضن الجرعة المطلوبة من اللقاح ـ دون زيادة تذكر أو نقصان.

ويفكر الباحثون الأمريكيون كذلك بأفضل أساليب توزيع اللقاحات. ويميلون إلى قطاف الموز، للإبقاء عليه (طازجا) قبل فترة وجيزة من بداية حملة التلقيح. ولتجنب وقوف طفل جائع (على الدور) أكثر من مرة يتخيلون حتمية اصطحاب الطفل ـ أو ذويه ـ لدفتر تلقيح نظامي، تدون فيه عمليات اللقاح مشفوعة بخاتم نظامي. ولتجنب (الخلط) مع الموز العادي، لابد من إضافة جينة تلون موز اللقاح بلون أدكن بصورة ملموسة.

ومع هذا كله يكثف باحثون آخرون جهودهم لاستنباط لقاحات صالحة للأكل مضادة لأمراض أخرى. وتشمل هذه اللائحة (البندورة أو الطماطم المضادة لداء الكلب)، التي قام بتطويرها أخيرا باحثو جامعة توماس جفرسون في بالتيمور الأمريكية، والتي جُربت بنجاح على بعض أنواع الدببة.

كذلك يوجد حالياً (تبغ مضاد للتسوس) إذ قام باحث المناعة ـ الحصانة ـ البريطاني الدكتور جوليان ما (من مشفى غاي في لندن) بحض أوراق التبغ على إنتاج (أجسام مضادة) انتقائية تكافح البكتريا المسئولة عن تسوس الأسنان. وتم استحصال مستخلص من أوراق التبغ هذه، وطُليت به أسنان المرضى 6 مرات، فبقيت أسنانهم خالية من التسوس مدة تربو على السنة.

ولا تنضوي هذه المستخلصات تحت اللقاحات، التي تمنح الجسم المقدرة الذاتية على الدفاع عن نفسه دون عون خارجي، بل تحت المصول الحاوية على (أجسام مضادة) جاهزة تكافح الجراثيم، ولا يصنعها الجسم البشري بنفسه.

كما ركب مد هذه الموجة معهد جينات النبات في غاترسليبن الألمانية، الذي يحاول حاليا تسخير البطاطا والتبغ في إنتاج الأجسام المضادة، ويخطط لاستخدام الذرة والحمص للغاية ذاتها في المستقبل. وهنا يركز الباحثون الألمان على أن عملية إنتاج الأجسام المضادة تتم فيما يسمى بالمدخرات الغذائية للنبات، مما يسمح لهم بتخزين كميات كبيرة من الأجسام المضادة مدة تقدر بالأسابيع دون الحاجة إلى (تبريد). بيد أن الباحثين لا يريدون تقديم هذه الأجسام المضادة عن طريق الطعام، بل بحقنها مباشرة في الوريد لتجري مع الدم، لتساهم ـ مثلا ـ في تخفيف رفض العضـو المزروع عند نقل الأعضاء.

آفاق

يتفاءل العديد من الباحثين بأن تتمخض هذه الجهود الحثيثة عن بزوغ فجر ما أسموه (حقبة اللقاحات الخضر): وقتها لن يقتصر دور الخضار والفاكهة على إمداد الإنسان في المستقبل بالبروتينات، والنشويات والدهون اللازمة لاستمرار الحياة وحسب، بل تتجاوز ذلك إلى تصنيع اللقاحات الزهيدة التي تنقذ حياة ملايين البشر في الدول النامية.

وعلى ترحيبي بهذا الأمل المشرق لا يجوز لنا أن ننسى ـ حسب اعتقادي المتواضع ـ أن النتائج الإيجابية الفعلية لم تتجاوز حتى الآن بطاطا اللقاح والتي اقتصر تجريبها على الحيوان وحسب.

 

سمير صلاح الدين شعبان