واحة العربي محمد مستجاب

الحمام
ذو الرقبة الموسيقية والهديل والطاقة والألفية والهيام

لو كانت أمنا حواء امتلكت زوجين من الحمام، زغللت بهما أحاسيس ابنها قابيل، لفكر كثيرًا قبل أن يودي بحياة أخيه هابيل، فمنذ هذه الأحقاب وأمهاتنا تغذين رغبات طفولتنا بزوجين من الحمام - حتى ننام، ولا تتحقق هذه الأغنية الليلية، في حدود مضمونها الأخاذ الذي لا ندركه جيدًا في أيامنا المبكرة إلا ليلة الهنا، حيث تتألق المسافة بين العريس والعروس بزوجين من زغاليل الحمام، فالحمام البيتي لا يؤكل أبدًا، بل تؤكل أفراخه عند استشرافها الطيران، فماذا ما طارت تليف لحمها وضمر وفقد لذته، ويقال إنه يفسد الأمعاء أيضًا، ولا يوجد في كتب علوم الحيوان والطير والبيطرة شيء ذو بال عما نكنه نحن للحمام من حب مقترن بالطاقة والسخونة، مع أنه انتشر في الأعوام الأخيرة وقد طار وديعًا حاملا غصن الزيتون رمزا للسلام، أو تخفيا تحت أجنحته اللطيفة لإلحاق أكبر كمين للسلام، والذي يطلع على كتاب ابن حزم الأندلسي (طوق الحمامة) سوف يكتسب خبرات هائلة في عموم أنواع تجارب الغرام التي تختصر لك المسافة المرهقة للوصول إلى فشل مشرف، وهذا التنوع في كتاب ابن حزم هو الذي جعل من طوق الحمامة اسماً على كل أنواع الألوان الدقيقة المتداخلة في الملابس والنباتات وكلمات السياسيين، والمتناغمة في قوس قزح وقصائد الشعر الجيد، وانعكاسات وانكسارات الضوء في البللورات وكلمات المدح وعيون العشاق وطبق الحساء الفاخر بعيدًا عن البيت، ولعل أكبر خدمة تاريخية نحفظها للحمام قيامه ببناء عش على فوهة الكهف لتكمل مع نسيج العنكبوت تأمينًا كاملاً لهجرة رسول الله النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وصديقه أبي بكر قطعًا لطريق كفار مكة وتضليلاً لهم ليعودوا أدراجهم.

أما الحمام البري - أي الذي يعيش في الحقول والصحراوات، وهو في الغالب الذي يستأنس في الأبراج دون البيوت - فهو يؤكل كله، صغر أو كبر، وهو غير اليمام - أكبر قليلاً ومتعدد الألوان - الذي يظل لونه على درجات البني فقط - ويؤكل كله أيضا، غير أن الكتب تهتم بالحمام الزاجل وقدرته الفائقة - والمعجزة أيضًا - في الطيران لمسافات طويلة مع الاهتداء إلى مكان معيشته، وقد استغلت الجيوش وجماعات العشاق والجواسيس والبصاصون هذه الميزة في كل اتصالاتها، حتى بعد سيادة المنجزات العلمية المرعبة، لكن الإنسان لم يقف طويلاً أمام هديل الحمام، هذا الانسياب الصوتي الخفيض المفعم بالشجن، هل لأن ذكر الحمام وفي لحمامته؟؟ أو لأن أنثاه لافت بغيره - كما هو وارد في مواويل الغرام والخيانة والهيام؟ والاستماع العميق لهديل الحمام - وهو مختلف لا الدرجة والنوع عن هديل اليمام أو الحمام البري - يملأ الجوانح بالحزن الطروب الأليف الغامض، إن الموسيقى اللونية في رقبة الحمامة والصوتية في هديلها تحاصر الوجدان وتدفعه إلى الإحساس الدافق بالحياة، ولذا فإن الدول رسمت على راياتها وأعلامها صقوراً وسباعًا وسيوفًا ونسوراً، وأهلة (جمع هلال) ومربعات ومثلثات مقلوبة وأشجارًا ومطارق ومناجل، دون أن يحتل الحمام علمًا دوليًا واحدًا، ربما لأن هذه الدول في مرحلة الخشونة الفظة السابقة على فهم جاد لمعنى رمز الحمام، مع أن الشعراء - والعرب بالذات - ناحوا وضدحوا وهاموا كثيرا مع الورقاء - في الفصحى -، والقمري - في العامية -، وسجلوا بكاءهم في كثير من القصائد التي جرت على حناجر أشهر المغنين، كما يجرى الزغلول من بين يدي أنثى وهي تهم بالتشبث به تمهيدًا لنحره بأصابعها المضمخة بحناء الفرح المقبل.