في وداع عبدالله العتيبي رحلة إلى غابة الحلم المقدس سليمان الشطي

في وداع عبدالله العتيبي رحلة إلى غابة الحلم المقدس

إنه شاعر تجاوز المألوف والسائد وأمسك في الوقت نفسه بالوسط الذهبي فوق كل ما هو ساذج وبسيط بعيدا عن الغموض والتعقيد. لقد حقق معادلة صعبة لم يصل إليها إلا القليل من الشعراء وكان في كـل عطـائه لا يتعـامل إلا مع صفـاء وكبريـاء شـاعـريتـه.

(صلاة من أجل السياب) و (أنا يعربي ) هما البداية التي انطلق بها في أوائل الستينيات صوت عبدالله العتيبي ( 1943 - 1995)،وبهما حدد المجالين الرئيسيين اللذين سيحظيان بدفعة قوية إلى الأمام بفضل شـاعريتـه ووعيه بعصره ومتغيراتـه، جاء هذا الصوت الشعري بنفس متفرد ولغة جديدة معاصرة ذات حساسيـة خاصـة استطاعت أن تتعامل مع فترة كانت تقلبـاتها الفكريـة والفنيـة والسياسيـة وتداخل مفاهيمها، تعصف برءوس كثيرة، استطاع هذا الشاعر أن يثبت في الذاكـرة اسمه ويحدد توجهـه ومن ثم حفر اسمه ليكون في مقدمة الشعراء المتميزين الذين عرفتهم الكويت في حقبة الستينيات حتى السبعينيات.

كانت بصمته الشعرية واضحة وتجربته متفردة وثرية ومؤثرة . وهي تجربـة لم تنحصر في ذلك النسق الشعري الرفيع الذي يخاطب الخاصة، وقد أبدع فيه إبداعا لا يخطئه الناظر، ولكنهـا تجربة استطاعت أيضا أن تقيم جسرا حيـا متصـلا بـالقطـاع الكبير من المتلقين حين جعل من كلمة الشعر السهلة وسيلة نفذ من خلالها إلى الأغنية ذات المستـوى الشعري المتميـز في صوره ودلالاته.

عنـدما نتوقف لنشير إلى جهـوده المتميزة في الشعر الغنائي مثـلا فإننـا نحس بأن التـذكـير بما هو واضح ومشهور واجب فقـد قدم العاطفي والـوطني، وفيهما حـدد عـلامات مضيئـة في تطـور كلمات الأغنية في وطنه،

وكان المغني الحقيقي لمرحلته التي عاشها وأصبحت كلماته المغناة علامات وأنوارا يحيط بها أبناء شعبه.

الحب الكبير يمجد الكلمة

أدرك عبـد الله العتيبي أن كلمة الشـاعر ترتفع وتتجوهر عندما تتحـدد عنده الرؤية الفنية والفكرية ويتعلق بفكرة سامية تحتـوي صاحبهـا وتتحول عنده إلى علامة مشيرة ودالة عليه، أدرك هذا مبكـرا فاقترب من الموقع الـذي تكـون فيه الكلمـة طاهرة مبرأة من كل عيب، لـذا كان اختياره واضحـا، تعلق بفكرة ترسيخ المواطنة، وإن الشاعر الحق هو من يقترب من شعبه ويغني أفراحه بل ويجعله يتغنى معه، وهو في الوقت نفسه، يتحسس كل مواطن الألم فيجسـدها، لذا تغنى بوطنه الكويت وغنى له ولكنه - وفي الوقت نفسه - وعى جيدا محيطه الكبير المتمثل في أمتـه فلم يسقط في هوة التناقض أو الانحـراف وذلك عنـدما وضع يـده على مفصل انصهـارهما في بوتقـة واحـدة فتـوقف عند هذا المفصل، فكـان العتيبي واحدا مـن مجموعـة في جيل لم تختلط عندهم الرؤية فوحد ما يجمع بين أمته ووطنه من تآليف وتناسق، لذا جاء أفق المواطنة متسعا.

وضح هـذا الاختيار في أوائل كـلماتـه لـوطنـه حين اشترك في احتفالات الاستقلال الأولى، تلك الكلمات التي صيغت لحنـا وقـدمـت أغنية، ومن يـومها برز بنكهته الوطنية الخاصـة في هذا المجـال المتميز - مجال كلمات الأغاني - وكانت كلماته تجمع بين الحب لوطنه والإدراك العميق للانتماء العام فقال ناطقا بلسان حال أبناء وطنه : (أنا يعربي والعروبة أمتي) .

كانت تلك البداية ليستمر في هذا المزج الواعي دون انقطاع. وكان الأجمل فيه أنه لم تكن هذه المواقف مناسبات ولكنها أصبحت عنده مرتكزا ونشاطا أساسيا في مسيرته الشعرية.

لقـد تفتحت كلماتـه على وطن رأى فيه وهـو يجتاز مرحلة من تاريخه رؤى جميلة وحكـايـة تـروى بحب فأصبحت أفراح هذا الوطن - وما اقلها في وطننا العربي-كلمات دالة ومناسبة يؤكد فيهـا اليقين الذي يجب ألا يتسرب إليه أو تحيط به هالات الظلمة، كان يقينه نقطة تفاؤل متجددة، لذا لا يمكن تجاوز شاعر يكتب أغنية لوطنه يقول فيها:

حين أغني الكـويت
يخضر كل المدى
يزهر حتى الصدى
حين أغـني الكويت حين أغـني الكـويت
يطرح شوق السنين
شتى زهور الحنين
حين أغني الكـويت

ولأنه لا يكتفي بـالمألوف لذا تجاوز الأغاني الفردية قصيرة النفس إلى الأعمال الطويلة المتعـددة الأصوات،تمثل هذا في تلك الأوبريتات الوطنية فبدأ بالعمل الرائع( صـدى التاريخ ) الـذي جسد تـاريخ وطنه الكويت ليس من جهة رواية حوادث التاريخ أو تمجيد أحداث منه ولكنه اختار زاوية لا ينتبه إليها ويـؤديها حقها إلا شاعر واع ، فقد نظر إلى الأرض من جهة عطائها وتميزها وصلتها بإنسانها:

قـالت الـريـح للغيـوم الثقيلـة

انتهت ليلـة الـرحيل الطـويلـة

قـد وصلنـا إلى بـلاد ستأتي

كطيـوف المنى بقلب الجميلـة

وهذا التلاقي يتجسد عملا وجهدا وبناء اجتماعيا،فقد رأى المواطنة تميزا في طبيعة الحيـاة، لذا ابتدأ بلحظة لمس فيها نقطة البدء والتلاقي ثم أخذ يستقرئ مناحي الحياة فنبضهـا يقدمه : نشيـد البنائين والحدادة ودوران الصناعة في المغزل وغناء الصيـادين والبحارة وجهاد العلم . ويحيط بهذا كلـه التراث الشعبي ودعـوة الحب التي يحس أنها أساس كل مواطنة . وكـانت (مواكب الوفاء) تجربـة أخرى لاحقة ورائعة قدم فيها رؤيـة قومية افترض فيها أن فرحـة الجزء أو القطر الواحد هي فرحة الأمة كلها، لـذلك أقام بناء شعريا وفنيا طـويلا استند فيه على استخلاص تراث الأقطار العـربية كلها في أفراحها، وجـاءت مواكب زفاف تتـوالى فيها الوفود العربية تهنئ الكـويت في عيـد استقـلالها . لقد كان عملا قوميـا متميزا . وعندما أسدلت ستارة الختام على(مواكب الوفـاء)كـانت النيـة منعقدة على عمل آخـر مشـابه ، وما كـان أحد يعلم أن مواكب الـوفاء هذه ستتوزع بعد شهور قليلة، وفي صيف 90 التعس ، بين مواكب غدر وأخرى مواكـب عزاء.

جاء كـابوس الاحتلال ، تجربة قـاسية وكارثة مريرة بكل المقاييس ، ومع هذا الانكسار والمرارة استيقظ فيه الرفض الذي مثل قـوة دافعـة ومتحدية، فالـوطن لا يغيب ولا يتلاشى عند من يعي موطنته، ومن كان هذا الوطن أغنيته المفضلة تكـبر عنـده وتتضخم ردة الفعل المتحدية والمنـاضلة، لـذا كـان العتيبي متفـردا في أن شاعريته كانت في قمتها وتحولت سـلاحا يـذيب أي انكسار أو يأس، قدم حلما شرسا في إثبات حقه.

كبرت الكـويت ونمت وتعملقت في عينـه وقلبه فاحتشدت شاعريته:

بـلادي مثل نجم تبـدو صغيرة

ولكن بها في حـالكات الدجى يسري

(طائر البشرى)

لقد أطلق ديوان (طائر البشرى)، كتبـه والاحتلال الغاشم كابوس يهشم النفوس والأجساد، برزت كلماته الرافضة والمحرضة، تحولـت كلها إلى أغاني وطنيـة فيها مدد وطاقة قويـة مؤكدة أن دور الكلمة لا يتوقف، ولا ينبغي له هذا، وأن الشعر نضال وهداية:

فصارت ضلوعي للكويت ربابة

تترجم شوق الناس للفرحة الكبرى

وصارت حروفي للكـويت سنابلا

إذا فـاتها الإعصار من بعده قفـرا

(طائر البشر)

من عربي بلا شوائب

والروح نفسها نحسها عنده حينما يتحدث عن أمته العربية ، فتمتد عـواطفه مجسدة موقفه وفكرته السامية إزاء أمته فيستبصر زمنا عربيا حقيقيا لا تخدشه الشوائب برغم كل الجراح التي نعرفها ونعانيها، هذا الزمان الذي يقدمه بكلمات أغنية سامية وعميقة الدلالة:

إذانظـرت سماء لا يفـارقهـا

دفء الشموس ولا إطلالـة القمر

وإنعبرت حـدودا لا تبـارحهـا

غمائم الحسن تترى حلوة الصـور

ولادة الـزمن الماضي ومبـدؤه

يخضر شوقا إليها سالف الزمن

وهذه الرؤية الوردية التي تحمل الأشياء لا تدعوه إلى أن يخطي الأخطار الآتية، وهي أخطار يجسدها بأسبابها من خلال تصور الشاعر:

لأن آفاقها بوابة الشمس

لأن أعماقهـا خصيبـة الغـرس

تكـاثرت في سماهـا سحائب الشر

وحـام حول حماهـا كواسر الطير

( الزمان العربي )

وإن هـذه الـروح التي تعادي هذه الأمـة ( تود لو أخذت من ليلنا القمرا )بل (تـود لو سرقت من غيمنا المطرا )وليس القمر إلا الهداية وأما الغيم فهو هذا الخير . ولكن:

وسيبقى حبنـا للفجـر جسرا

وستبقى أرضنا للخير نهرا

وسيبقى ليلنا المقمر للأحباب صدرا

وسيأتي مـرة أخرى إلى الـدنيـا

( الوجود العربي )

رؤى تـوشحت بكلمات تتحـدى روح الاستكانة وتحمل جذوة النار تحت الأقدام . لم يكن، إذن، شاعر حلم ولكنه شـاعر دعوة وبينهما فرق، فشـاعر الأحلام تخدعه أحلامه وشاعر الدعوة يتوسل بكل الوسائل كي يدفع مـن حوله إلى الـرؤية الصـائبة. إدراكـه هذا ليس تهويم الحالمين المنفصلـين عن الـواقع، ولكنـه إدراك الإنسان الـواعي المحيط بـما حولـه والمستشرف للحقيقة والمتلمس لقـاع التخاذل الذي انحدرت إليه الأمة،وشتان بين النظرة الخادعـة والحس القابض على الجمر،وشاعرنا، عبداللـه العتيبي، واحد ممن استطـاعوا أن ينجوا من انحـراف الميزان الشعري والفكـري فلا يبكي أو ينوح أو يضخـم أصوات البوم والغـراب، كـما أنه لا يحول آلام الجراح إلى فتحـات تنطـق بابتسامات خادعة.

الوطنية هنا إدراك متسع، والإحساس بآلامه الكبرى اختيار تاريخي نـابع من سـلامة التصـور ونقاء العرق واتصاله بأرض هذه الجزيرة العـربية التي هي الأصل.وهـذا الإحساس بالواقع والمصير الواحد يـبرز لنـا من خلال مكـاشفته ومناجاتـه للمدن والأوطان العـربية،هذه المكاشفة تدفعها حوافز معركة غـير خادعة.

من هو الشاعر؟

يقول لنا العتيبي : " عنـدها يفـرح الشعراء لا بد أن تكون الحياة استثنائية ".
هذا الاستثناء هـو المحك الرئيسي، ففرحـة الشاعر مختلفة عن فرحة الفرد - الشاعر، فالأول، أي الفرد جزء من كل، واحـد من مجمـوع، لـه خصـوصيته الفردية واتصاله بالآخرين يتوقـف على حدود الظاهـر المعلن الذي يمر، عادة، عبر مصفاة العقل الحذر التي تحافظ على المسافة بينها والآخرين وهـي مصفاة حذرة مدققة،أما الآخـر، الشاعـر، ففرحته تتجاوزه وتنطلق لتصبح ملكا للآخرين بجملتهـا ، كاملة دون أن يخفي أو يستر أي شيء منها فهي مكشوفة لمن يملـك وسائل الوصول إليها .

ولكن هل يفـرح الشعراء، أم أن هـذا هو الاستثناء الذي يبحثـون عنه، فـالشاعر واحد من نخبـة مفكرة وقائدة تحمل الهموم العامة، هم الضمائر والرءوس التي تجابه تحديات الـواقع، وعندما تتسع المسئـولية تتضاءل الفرحة، وإذا تحققت فهي كبيرة ممتدة لأن الحياة،فعلا،أصبحت في حالة استثنائية.

المنطلق الأول هو أن يعي الشاعر رسالته ويحددها، وهذا الـوعـي إنما هو ركيـزة تـزيل أي افتراض بأن الشاعرية حلية أو زينة، إنها معانـاة يكتنفها قلق وحيرة، فعـين الشاعر وعواطفه متجاوزة حدوده الفردية وموهبته حـالة يصعب عليه أن يحددهـا أو يجعلها طوع يديه في كـل الأحوال، وهو موزع بين أمرين ظاهره الملاصق للناس والمعايش لهم فـردا ومواطنا يوائم بين الواقع وظرفه الخاص . أمـا الأمر الآخر فطبيعته وضريبة موهبته التي تفرض عليه حسا عاليا يدعوه إلى أن يجعل فنه عاما سـاميا هاديـا، أي أنـه واحـد من قادة المجتمعات الـذين يفرض عليهـم أن يقدمها الاستنارة والدعوة إلى المستقبل واعتبار القيم السامية والمثال العالي هما الهدف الذي يسعون إليه .

لذا قـد يسهـل علينا أن نُعرف الشـاعر من الخارج،ولكن من العسير أن نعرفه من الداخل ونصل إلى السمة البارزة لماهيته الشعرية، أو ملامسة حدوده الداخلية،لذا كـان هناك دائـما حـوم ودوران واقترب من حياته الخارجية رغبة في النفاذ من القشرة الصلدة والوصول إلى المنطقة الجديرة بالاقتراب منها.

إن التمييز بين الإنسان والشاعر مفيد حتى لا يختلط صفاء الفن بكدر الواقع أو بالصدوع المتناثرة أحيانا على الإناء، لأن تحول الشخـص) إلى شاعر إنما هو حالة خاصة ، تمتلئ بالإخلاص لفنه فقط، حـين تتحكـم فيه الحالة الشعرية لأن تفانيه تجاه صياغة فنه ومعاناة كلياته وجزئياته أمر لا محل للشك فيه لأن النتيجة الظاهرة هي الدالة وحدها.

يقدم لنـا العتيبي مـدخلا جميلا يوضح فيـه حقيقة الإنسان الشاعر ،ومن ثم معنى الشعر عنده، ويغلب على ظني أنه نفذ بقوة إلى تلـك المنطقة الخاصة للشعر،التي أراه عبر عنها، في قصيـدته (البحـر والنار)، تعبيرا مباشرا عن المعنى الحقيقي للشاعـر الذي يسكن عالما خاصا هذه حدوده :

بحر وأرحم شاطئيه النار

ومسافر شقيت به الأسفار

ترتاده الأحزان أو يرتادها

سيان ، فهو مثور ومثار

***

تتمرد الانسام في ساحاته

وبه لكل العاصفات مثار

تتزاحم الأفلاك في آفاقه

وله على حد الجراح مدار

( مزار الحلم )

جميل ،بل مفيد ، أن نخطو خطوة أخرى فنضم إلى هذا التصوير ملمحا آخر للشاعر تجده في قصيدته( الشاعـر ) وهي واحدة من ثلاث قصائد خاطب فيها صديقه الشاعر يعقوب السبيعي . في هذه القصيدة تجسيد الحالة الشعرية بواسطة صـور منتزعة من داخل التجربة وواقـع المعاناة ولذا فهي صالحة كل الصلاحية لتقدم لنا المعنى الدال على حقيقة الشاعر كما يراه العتيبي ولعله أيضا دال على تصوره الخاص للشاعر كما يحسه في نفسه، وفي هذا الغوص وصول إلى فكرة الشاعر - الإنسان ، وفي قصيدته هذه مفتتح يضع الشاعر في موقعـه المتجاوز والمتخطي للواقع والمعادي للسكون فمبتدؤه الرحلة التي هي خط أولى ينطلق منه إلى استكمال العوالم أو المجالات الخاصـة التي يسـير فيها الشاعر، وأول هذه المجـالات هي تلك العلاقـة مع الخيال ، وهي ليست علاقة عاديـة، فهو يقدمه لنا وقد تجاوز الخيـال العـادي ومن ثم أصبح الشاعر متبوعا وليس تابعا:

راحل حلمه يسابق عينيه

ويمشي على خطاه الخيال

( مزار الحلم )

وتتوالى خصوصيـات تمتد مساحة فهمها تبعا لمقدرة المتلقي وتفاعله مع القصيـدة التي تتجمع فيها حزم من إشعاعات المعرفة الشعرية والتي نراها تأتي وقد تعددت أزياؤها وكلها تحمل طبيعة الشعر الذي يتجاوز المألوف دون أن يكون هذا التجاوز حلية أو لعبة أو فضاء أجوف. الشاعر هو من:
(..يغفو في راحتيه المحال )

هو والليل والرياح نجوم

شدها في مداره الترحال

سكبته الأقدار في لجة

الدهر جراحا نزيفهن الكمال

( مزار الحلم )

وهـذا الكمال هو شوق الشاعر لكمال الرؤية والمتسامية، لـذا ينطلق يجلـده شـوق، هـو اتساع العاطفة، وسؤال ويعني اتسـاع المعرفة، وهكـذا تطرد صورة الشـاعر هنـا بين أحوال شتـى، الشاعـر بصفته جزءا من الشعـر أي مطلق، عام، سام مستشرف،ومكتشف متجـاوز، رائد، فوق الواقع، مع الحلم،عالمه قيم، هو صورة الكمال التي أريدت له.

وعندما نستكمل بقية الرسائل الشعريـة الثلاث،والتي خـاطب العتيبي شريكـه في المعـاناة الشعـرية،يعقوب السبيعي ؟ نجده استخدم الجانب المشترك بينهما متكأ نفذ منـه إلى الجانب العام فيه، أي كونه شـاعرا ، والذي هو بطبيعته عام وليس خاصا.

وفي هذه المحاورة الشعـرية نجده يقـدم في الأولى( فرحة الشاعر ) طفلة حلوة أغفت بأحضانه. ويكتمل بعد ذلك حضور الشاعـر المتميز في تلك الصورة الحلم أو المثلى، فهـو غـاسل للحرف في بحر الضياء ومطهر له، وغاسل للحزن بالفرح النشوان، وفيه يتجلى سمو النغم، فالشـاعر محرك لربابة العشق، ونلمس شفافية اللون فيـه حيث تحسده كل الفـراشـات على إشراق ألوانه، أما أعماقه فهو العطاء الفياض، كمورقة لأجمل الطير تشـدو فوق أغصانه؟ وفيـه دفء المكـان الآمن حيث أحلام الحسان زوارق تشتهي دفء الشطاّن .

ويستكمل إطار الشـاعر عنـده في القصيدة التـالية( وردة القلب ) فنجد فيه حربا على الجفاف العاطفي ( لا تدع للجفاف وردة قلب ) ، وهو أيضا حرب على الحزن( لا تـدع أدمع الأسى تتراءى بعيـون بألف حلم..)،وغيم يهمي ( لـيرى العشب في الحيـاة سبيلـه ) وقـدره أن يسوق ركب الأمـاني في الدروب المستحيلة ، وهو في مجمل رسالتـه حامل لهداية من نوع خاص حينما يلملم الشوق صانعا منه شراعا لهذا العالم .

ولكن صـورة الشـاعر النقيـة والمتسـاميـة كـما يراها العتيبي قـد يحطمها من لا يحفظ للشعر رسـالته ونقاء كلمته، فتبدو وجوها معتمة تحيط بالوجه النقي، وهذه العتمـة تثير الشـاعر المعتز بفنـه، والعتيبي واحـد من هؤلاء، لـذا يبدي سخطـه على هذه السلبية المظلمة،يأتي هذا السخط في صورة سؤال:

ومن أحـال الشعـر محظيـة

تبـاع في سـوق الخنـا والسفـاح

( مزار الحلم )

سقوط كلمة الشعـر،والذي كـان ثورة تغيير وهزة عنف تحرك السكون وتحوله إلى نقيض رسـالته، فالشعر الذي أصبح سلعة إنما هو طعن لموقعه السامي وإسقاط لعزته وتفرده، فتحوله إلى (محظية) استدعى إلى أذهاننا سقوط الإرادة وتغير الوظيفـة وانحـدارها ، وإذا كانت هذه الكلمة -محظية - مشبعة بمعناها الساقط، فإن وضعهـا في إطارها المناسب يكتمل بفكـرة ( البيع ) أي التدني إلى مستوى السلعة الرخيصة، ثم تتدنى وتنحدر ليصبح مكانها ( سوق الخنا والسفاح ).

إنه يقدم هذا الجزء الشائن من واقع الشعر في صورة مباشرة لا تلتوي ولكنها تؤطر هذا الشعر الذي يقدمه شاعر ساقـط، ويستحضر هذه النـوعيـة من خـلال مشهدين متتابعيـن أولهما سؤال لشاعر مدع لبس جلباب النضال :

سلوا شاعر الكدح والبؤساء
من أين جاء؟
بتلك الغيوم التي حملته
لأعلى العواصم..
أغلى الفنادق..
أحلى النساء
ليكتب فوق ضفائرهن نشيد الفداء !!

( مزار الحلم )

مأساة سقوط الشعر كما يراها العتيبي تتجلى مشاهدها في تلك المناجاة أو الوقفة الكاشفة لهذا التردي، هي وقفة بين يدي المعري صاحب الإحساس الأكبر باللا جدوى، فيستظل شـاعرنـا في ظلاله ليتحدث عن النقيض المضحك والمؤلم عما هو مجد في هذا الزمن، هو عزف على الوتر نفسه ، فالمعري كان الإحساس بـالفناء عنـده متعملقا وهو فناء يتحكـم في الحياة، أما العتيبي فقضية الفساد هي القضية المتعملقة عنده ، وهذا بدوره أضاع حملة القيم العليا ومن ثم خلقا للا جدوى .

وتجاذب الشاعران أطراف الواقـع، فإذا كـان المعري يرى أنه لا شيء يجدي، فإن شاعرنا يرى كل شيء فاسد يجدي في هذا الزمان، وإذا العرض المناقض في الدلالة اللغوية من ( غير مجد في ملتي واعتقادي ) إلى ( كل شيء يا شيخ أصبح يجدي ) ، هو نفس العرض المتطابق، أيان نفي الشـاعـر الأول لما هو غـير مجد يسـاوي إثبات الثاني لما هو مجد ومن هذين تكتمل دائرة نقـد الواقع.المعري هـنـا ليس قناعا يستعيره الشاعر، إنما هو محاور يستكمل بمعيته ما قـد بـدأ به هي إذن مناجـاة على حقيقتها وليست تواريا وراء الوجه الآخر ، ولا يتحدث عن الزمان إلا بين يدي حكيمه المعروف:

يا حكيم الزمان هذا زمان

ظاهري العلا ، سحيق التردي

بدلت أفقها النجوم وباتت

ساهرات على شفا كل لحد

من جراح الزمان نحن أتينا

بوجوه شدت على غير ود

كبر المحبسان فالدرب أعمى

قيدتنا صروفه أي قيد

إذن هذا زمان أول مـا يضيع فيه الشعراء رسالة الشعر وحملة الفكر ، إنهم تلك النوعية الخاصة الحاملة للكلمة النقية ، الفكر البناء ، والشعر الصافي ، الهداية والروح، الحب والعدل وسط هذا الضياع أصبح من المحتم أن نرى هذه المشاهد الآتية : نرى الحلاج ، وهو صاحب الوجه العميق الموحد ، " يبيع الوجوه ". وعروة بن الورد الداعي إلى الذوبان في الإنسان الآخر" يبيع الصعاليـك " ، وأبوذر الغفاري حامل هم العدالة الاجتماعية أصبح " يوم حرب الثغور سمسار نقد ". أما المتنبي ولبيـد، وهما قمة الإبداع والإتقان الشعري" فيعرضان الأزياء في قصر عبد"، أي أصبحا عارضين للشكل والزيف والبهرج أما المحب المتفاني - قيس بن الملوح - " فإنه يبيع ليلى ". وتكتمل الصورة في المعري نفسه،" الذي يعرض أسمال المجد ".

وهكذا سجل العتيبي ضياع رموز الصفاء الفكري ولم يبق إلا الشـاعر الذي يبيع وهم النضـال، والآخـر السـاكن في قصر الأميرة، وإذا كـان هذان هما شعراء المرحلة فإنه من الحق أن نقول معه :

كل شيء يا شيخ أصبح يجدي

ما عدا العوم في بحار التحدي

إن الجرأة الفنية والتعلـق بالسـوية الشعـرية العالية جعلا العتيبي لا يكتب إلا لكي يحرك الروح الداخلية والعقول الملتهبة لا الأجساد والأقدام، فجاءت كلماته محافظة على خصوصية الشعر فلم يقع في خندق الكلام المسطح، بل احتفظ برونـق الشعرية الصـافي وتجوهرت لغتـه الغنـائية فجلـت وارتفعت عن البسيط الساذج ونأت عن الغامض المعقـد، وتمثلت الأداء الموسيقي،لغة شعرية جملت ودقت معانيهـا وقدمت محتواها المشبع المتجاوز للعجمـة المقترب من الصفاء ،وهو صفاء لا يركن إلى الوضـوح الفج ولا الغموض البغيض ولكنها رؤى تتوالى ذات جذور ممتدة وغور تخاله لشفافيته سهلا قريبا وهو في حقيقته متسع الأركان .

هكذا يكـون شعر الشـاعر الـذي لا تخذله موهبته ويعتدي على قـدسية موهبتـه، فقد كان شـاعرا في كل المجالات ، جريئا واثقا مستقلا بوجوده، لم يضل طريقه ولكنه أحسن اختيار المسار وحافظ على كبرياء الكلمة واستقلالها وضخامة طاقتها.

***

الشاعر عبدالله العتيبي

شاعر من الكويت ولد فيها وتلقى تعليمه النظامي في المعهد الديني ثم التحق بكلية دار العلوم في القـاهـرة حيث حصل على الليسانس، عمل مدرسا ثم أكمل دراسته وحصل على الماجستير والدكتوراة من الكلية نفسها وكان محور دراسته فيهما هو شعر السلم في الجاهلية وشعر السلم والحرب في الإسلام .عمل في جامعة الكويت وكان رئيسا لقسم اللغة العربية ثم عميدا مساعدا فعميدا لكلية الآداب شغل عـددا من المناصب الأخرى فكان رئيسا لتحرير المجلة العربية للعلوم الإنسانية وأمينا عاما لرابطة الأدباء ونائبا للرئيس في وكـالة الأنباء الكويتية وعضوا في مجالس ثقافية عديدة. له من الدواوين ( مزار الحلم )و ( طائر البشرى ) وأعمال شعرية طويلة مثل ( صدى التاريخ ) ، (مواكب الوفاء ) ،(حديـث السور) ، وغيرها كثير. ويضاف إلى هذا عشرات من الأغاني الوطنية والعاطفية. له من الكتب شعر السلم في العصر الجاهلي ) ، ( دراسـات في الشعـر الشعبي الكـويتي ) ، ( الشاعر عبدالله سنان )بالاشتراك مع الأستاذ خالد سعود الزيد إضافة إلى بحوث أخرى منشورة في المجلات المتخصصة.

 

سليمان الشطي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عبدالله العتيبي





غلاف كتاب طائر البشر





غلاف كتاب مزار الحلم





صورة من أيام الشباب تجمع كاتب المقال مع الشاعر الراحل والشاعرين يعقوب السبيعي وخالد الزين





كان قارئا جيدا ومتابعا لأحداث الساعة