مرض سرقة العقول

مرض سرقة العقول

في بداية هذا القرن وصف الدكتور ألزهايمر Alzheimer مرضاً خطيراً عرف فيما بعد باسمه، كانت الحالة تتعلق بامرأة في الخمسين تعاني من ضعف في الذاكرة ومن فقدان الحس بالمكان والزمان، ومن الغيرة المفرطة، ومن عدم القدرة على الحديث، والعجز عن اتخاذ أبسط القرارات.

قد لايكون الأمر مهماً لو أصاب المرض امرأة مفرطة الغيرة، ولكنه قد يدعو إلى القلق عندما نكتشف قائمة هائلة من ضحاياه تشمل عدداً من المبدعين والمجددين في مختلف المجالات الأدبية والفكرية التي أثرت في مسيرة الحضارة المعاصرة!

ويشكل مرض الزهايمر Alzheimer مشكلة صحية كبيرة في المجتمعات الغربية وأمريكا، حيث تؤكد الإحصاءات إصابة أكثر من مليونين ونصف المليون من المرضى به في الولايات المتحدة وحدها، ويعتبر هذا المرض- حسب رأي البروفيسور ألبرت فيسك Fisk الأستاذ في جامعة وسكنسون- هو رابع مسببات الوفاة في الولايات الأمريكية، ويشغل هذا المرض نصف وقت الممرضات العاملات خارج المستشفيات، وتبلغ تكاليف المرض أرقاما مذهلة تزيد على عشرين ملياراً من الدولارات سنوياً، ويتوقع الأطباء وقبل نهاية هذا القرن، إصابة حوالي أربعة ملايين من المرضى به.

وانتشار المرض في الولايات المتحدة ليس أمراً جديداً، فلقد كثر الحديث عن مرض الزهايمر منذ ثلاثين عاماً وأثار مخاوف الأوساط الطبية والسياسية مما دفع البيت الأبيض إلى إقامة مؤتمر طبي لمعرفة أسباب هذا المرض القاتل ومحاولة البحث عن علاج له.

حدث ذلك عام 1981 م وبرغم ذلك دخل المرض البيت الأبيض، حيث أعلن الرئيس رونالد ريجان إصابته بهذا المرض، فأعاد هذا الحدث الأضواء على ما يمكن أن نسميه، سارق الذاكرة!

العمه والنسيان

للمرض أعراض معروفة منها ما يتعلق بالسلوك وأخرى بالذاكرة، وعادة ما تكون من مشكلات الذاكرة هي أولى علامات المرض. ويتعلق الأمر في البداية بالذاكرة القريبة حيث يعجز الإنسان عن تخزين معارف جديدة، ثم ترحل الذاكرة شيئاً فشيئاً، فينسى المريض ما تعلمه ولايبقى له في نهاية المطاف، سوى السلوك الفطري مثل الأكل والشرب، ويتحول سلوك المريض إلى سلوك طفل رضيع.

ويحس المريض بأعراض المرض في بدايته، حيث يتألم بسبب عجزه عن تذكر أسماء الآخرين، ثم عجزه عن معرفة ذاته وهويته، وجسده أحياناً، وقد يشعر المريض في البداية بأن ثمة شخصاً آخر غريباً لايعرفه، يمشي معه في كل طريق، ينام بجانبه، يلتقط أنفاسه وينتاب المريض شعور مريب عندما يعجز عن تعرف صورته في المرآة.

ويفرق الأطباء بين مشكلات الذاكرة الناتجة عن مرض الزهايمر، والأخرى الناتجة عن الشيخوخة، حيث إن مرض الزهايمر لاعلاقة له بالكبر بل قد يصيب أشخاصاً في منتصف العمر.

وينتج المرض بسب تغيرات في دماغ المريض، من تلك التغيرات ما يرى بالعين المجردة وهو ضمور بالطبقات العليا من الدماغ، وخاصة في مقدمته، وهي المناطق المسئولة عن الذاكرة والتعلم والإبداع. ومن التغيرات ما لايرى بالعين، مثل موت الخلايا العصبية، وتلف الجسور الليفية الممتدة بينها. ووجد الأطباء في دراساتهم أن ثمة نقصاً في إنتاج مادة الأستيلكولين Acetylcholin بنسبة تزيد على عشرين بالمائة من المعدل الطبيعي، والمعروف أن تلك المادة تسهم بدور كبير في متاهات الذاكرة.

وتؤدي إصابة مقدمة الدماغ إلى تغير في سلوك المريض، وتظهر كثير من الأعراض المرضية التي منها:

عمه الرؤية Visual agnosia وهو العجز عن التمييز بين أشكال الأشياء وطبيعتها وكذلك الأشخاص. فالكاتب المصاب لايستطيع تعرف القلم مثلاً كأداة للكتابة والتعلم، بل قد يضعه في فمه ظاناً أنه لفافة تبغٍ، ولايستطع تعرف صورة زوجته مثلاً بل يعجز أحياناً حتى عن معرفة صورته في المرآة، حيث يظن أنها لشخص آخر قبالته.

- عمه الحركة Apraxia وفيه يفقد المريض القدرة على القيام بحركات متسقة، فهو يعجز- مثلاً- لو رغب في التدخين عن القيام بعمل ذلك لأنه يحتاج إلى حركات متسقة متوالية. وليس النسيان والعمه هما أهم أعراض المرض وإن كانا ممن أكثرها وضوحاً وإيلاماً، خاصة عندما يكون المصاب واحداً من أصحاب الرؤية العظام في تاريخ البشرية العقلي، ولعل تتبع سيرة المريض لدى بعض من هؤلاء يوضح لنا مدى وحشية هذا المرض.

نيتشه وموباسان

ترك نيتشه عمله بجامعة "بازل"، وذلك بسبب ذاكرته التي بدأت تهرب منه شيئاً فشيئاً، وعاش بعدها- وهو في الأربعين- مرحلة اكتئاب وكتب يقول: "إني أحس بالجنون بسبب هذه الوحدة المؤلمة".

وحاول نيتشه الانتحار دون جدوى، ثم بدأت تصرفاته تأخذ طابعاً غريباً، كان يبدو حزيناً، يمشي متثاقلاً كأنه يجر جسده عبر الطرقات، وأصبح حديثه غير واضح، ثقيلاً ومتلعثماً ولاحظ أحد أصدقائه في رسالة بعثها له نيتشه عام 1888 م مدى الهذيان والكلمات الغريبة التي لاتليق بمثل هذا المفكر.

كان ذلك يؤكد دخول نيتشه في ظلمات الجنون، وفي أحد الأيام وعلى مرأى من الجميع شرع الفيلسوف يمشي في شوارع مدينة "تورينو" مرحاً، وأخذ في تقبيل أحد خيول العربات الواقفة وسط الميدان، فنقل بعدها إلى "بازل"، وعجز الفيلسوف منذ ذلك الوقت عن الحديث، وفقد ذاكرته إلى الأبد.

وكان يجلس في سنواته الأخيرة في بيت أمه مثل طفل، فقد الكلمات لكنه كان يرسل ببعض الأنين بين الحين والآخر وكأنه يتألم، وبقي على هذه الحالة حتى مات في صيف عام 1900م في عامه السادس والخمسين.

لقد اعتبرت ألمانيا نيتشه أحد كبار مفكريها، ولم تتوقع له هذه النهاية المحزنة، كان الأمر محزناً لأقاربه ولم يتخيل أحد أن ذلك الشخص المريض هو الذي كتب قبلها بسنوات كتاب "هكذا تحدث زارادشت"!

في نفس الوقت الذي كان يعاني فيه نيتشه من الجنون كان الكاتب الفرنسي المعروف "جي دون وباسان De Maupassant، الذى يعتبره النقاد أحد رواد القصة القصيرة، يعاني من نفس المرض.

ولد موباسان عام 1850 م ولم يعش طفولة هادئة، كانت أمه، والتي قيل إنها كانت عشيقة الروائي المعروف "فلوبير" مصابة بالجنون، وكان أخوه متخلفاً عقلياً، ولا نعرف الكثير عن أبيه الذي مات والكاتب في صباه.

يقول البروفيسور ماهيندرا Mahendra في كتاب الجنون في حديثه عن موباسان واعتماداً على ما جاء في مذكرات الكاتب، وكذلك الملف الطبي، إن المذكرات توضح أن موباسان كان مصابا وهو في عامه الثالث والثلاثين بضعف في النظر، حيث أصبح يقرأ ويكتب بصعوبة بالغة وكان يطلب من أصدقائه مساعدته على ذلك، واعتقد أخصائيو العيون في ذلك الوقت أن ذلك هو بسبب إصابته بالزهري، الذي كان حينها منتشراً. وينقل صاحب المذكرات أن خادم موباسان قد شهد بأن الكاتب قد شرع في الهلوسة بين الحين والحين، حيث كان موباسان يرى شخصاً آخر يخرج من جسده ليجلس على الكرسي قبالته، وكان يراه أحياناً، والواضح أن القصص التي كتبها القاص في تلك الفترة تتحدث عن وجود مثل هذه الهلوسة، وخاصة قصته المشهورة Le Horla التي يتحدث فيها عن شخص آخر يقبع معه في جسده يفكر له، ويمشي ويتحدث بدلا عنه، وقد أثارت هذه القصة انتباه الفقاد "مثلما أثارت شخصية المعتوه لدوستوفسكي".

وحاول النقاد معرفة ذلك الشخص الذي يتحدث عنه الكاتب. اعتقد بعضهم أن الكاتب يتحدث عن عمه، وقال آخرون بل يتحدث عن أخيه، ولم يفكر أحد في أن الكاتب كان يعاني أن مرض "الزهايمر"، حيث لم يكن المرض معروفاً في ذلك الوقت.

وعندما كان موباسان في عامه السابع والثلاثين توفي أخوه الذي يصغره بأربعة أعوام فتأثر الكاتب كثيراً، وشرع يحس بأوجاع في بطنه، وصداع متواصل فرض عليه البقاء في البيت. كان موباسان يبدو نحيفاً، نظراته شاردة في الفراغ، وشرعت ذاكرته تذهب عنه شيئأ فشيئاً وأخذ الأرق يحول ليله إلى جحيم، حيث كتب في رسالة يقول: "لقد قضيت ليلتي أنهض من السرير لأعود إليه دون جدوى في النوم، كنت مطارداً بالكوابيس وبأصوات لاوجود لها". ثم كتب في رسالة أخرى: "إنني لم أعد أستطيع الكلام، لم أعد أفهم ما أكتب".

ذات مرة، وبينما كان موباسان يمشي بالقرب من مقبرة، أخذ يجزم أنه قابل شبحه يمشي في الطريق، وفي عام 1891 م- قبل موته بعامين- كتب موباسان رسالة مليئة بالأخطاء اللغوية إلى طبيبه الخاص، التي نشرها ليرنر في مذكرات الكاتب:

"إني دون أمل، أعيش لحظات احتضاري، بدأ دماغي يذوب بسبب غسله بالماء المالح، إن الملح يفسد الأدمغة، وفي كل ليلة، أحس أن أدمغتي "بالجمع" تنزل من أنفي، وذلك يؤلمني كثيراً، ذلك يعني أن الموت يقترب، وأنني أصبحت مجنوناً، لم يعد عقلي يميز الأشياء، وداعاً أيها الصديق".

وقرر موباسان إطلاق النار على رأسه لقتل الذباب الذي يدور حوله دماغه، ورآه خادمه ذات يوم يطلق النار على النافذة نحو عدو وهمي، ربما نحو الكائن الذي يشاركه جسده، والذي ربما ظن الكاتب أنه حاول الهروب منه بعد أن قرر الانتحار. بعدها قطع موباسان رقبته بالسكن وصاح يقول: "انظروا ماذا فعلت، إنني لمجنون، إنني لمجنون"، ونجا الكاتب من الموت لكنه بقي في عيادة "المجانين" بقية حياته.

ونجد في الملف الطبي في تلك العيادة أن تصرفاته أصبحت حيوانية، شرع ينبح، ويلعق جدران غرفته، وكان يصرخ أحياناً مدعياً أنه ابن الله، وأنه فاوض الشيطان الأكبر لاقتسام العالم. ودخل موباسان بعدها بأسابيع في غيبوبة ومات في صيف عام 1893 م عن عمر يبلغ الثلاثة والأربعين عاماً.

وسومرست موم أيضا

يعتبر "وليام سومرلست موم" واحدا من أكثر الكتاب الإنجليز شهرة ولقد تأثر "موم" في كتاباته بالكاتب الفرنسي "موباسان". وهناك تقارب كبير بينهما في الأفكار وفي طريقة الكتابة، لكن التشابه لايتوقف هنا، "موم" أيضاً مات بسبب مرض الزهايمر!

برغم شهرته ومنزلته الأدبية وأناقته، كان "موم " يحمل شخصية مريضة. كان يظن طوال حياته أنه رجل غير محبوب وأنه غير قادر على حب أحد، وأنه كان رجلا مفرط الغيرة على الآخرين واعتبر علماء النفس سلوكه هذا ناتجاً عن عقدة كانت تطارده منذ صباه.

وبعكس "نيتشه" و"موباسان" لم تظهر علامات مرض الزهايمر عند "موم" إلا في وقت متأخر. يقول الكالتب "تيد. مورجان" في كتابه عن "موم ". إن علامات المرض ظهرت أول مرة بعد سرقة إحدى لوحات الرسام الإسباني "غويا" من المتحف الوطني في لندن، يومهـا كان "موم" في فيلته في الجنوب الفرنسي فأخذ يصرخ ويهدد الآخرين بالموت ظاناً أن ثمة من يريد سرقة لوحات كان يحتفظ بها في فيلته، وتكررت هذه الحالة أكثر من مرة في وجود ابنته وأحفاده.

بعدها بعام بدأ "موم" في رؤية أعداء وهميين يطاردهم صارخا ويقذفهم بأكواب الماء والكراسي، وكانت الحالات لاتنتهي إلا بالمهدئات. لكن حالات الهذيان استمرت من سيىء إلى أسوأ عندما أخذ الكاتب يطارد ابنته ويهددها بالقتل بسبب بيعها إحدى اللوحات.

ولاحظ العامة سلوك "موم" غير الطبيعي بعد نشره في صحيفة Sunday Express مذكرات تتعلق بزوجته الميتة منذ سنوات والتي كتبها بكلمات لوعلمت الصحيفة بمرضه لما قبلت نشرها. وقال أحد أصدقاء "موم " المقربين وهو "نويل كوارد": الرجل الذي كتب مثل هذه الفضلات لايشبه الرجل الذي كان صديقي، لقد دخل جسده الشيطان. إنه يشكل خطورة على الآخرين وعلى الجميع تجنبه.

أصبحت تصرفات "موم " غريبة جدا حيث أصبح لايفرق بين المرحاض ومكتبه مثلما ذكر بعضر الزوار الذين كانوا بصحبته في المكتب. ثم ازدادت حالته سوءاً، وخرج "موم " ذات ليلة، حافي القدمين إلى إحدى الطرقات المزدحمة بالسيارات، كانت نظراته شاردة وقال "موم" للشرطة التي جاءت لإنقاذه إنه كان يبحث عن غرفة نومه التي لم يجد إليها سبيلاً. وعندما جاءت ابنته لزيارته كان "موم " يتحدث إليها وكأنها زوجته الميتة. لقد سرق مرض الزهايمر ذاكرة "موم " فلم يعد يستطيع تعرف حتى أقرب أقاربه إلى أن مات عام 1965 بعد غيبوبة طويلة.

 

محمد قصيبات

 
  




التصوير الشعاعي الإلكتروني يقترب من دقة تشخيص الزهايمر





التصوير الشعاعي الإلكتروني يقترب من دقة تشخيص الزهايمر





التصوير الشعاعي الإلكتروني يقترب من دقة تشخيص الزهايمر





نيتشه





موباسان





سومرست موم