سر السيناريو في الفليم الروائي

سر السيناريو في الفليم الروائي

مما يلاحظه المرء إذا ما دمج مراجعة التاريخ السينمائي بحب البحث عن الأساليب التي اعتمدت لسرد الروايات ومعالجة شتى صنوف الروايات القائمة على الحدث والحبكات الخيالية، حقيقة أن البلاد التي احتوت على أكبر نسبة من السكان ولاتزال مالت إلى سينما روائية تقليدية ذات تقاليد وأساليب متشابهة.

وحتى لايبدو هذا الكلام مجرد استنتاج عابر "وهو ليس كذلك"، فإن السينما في مصر والهند والصين والولايات المتحدة وإندونيسيا وباكستان وتركيا وإيران (قبل الثورة) تتشابه في اعتمادها على أساليب سرد تقليدية. بعض هذه الدول شهدت كذلك أساليب سرد غير تقليدية لكنها لم تعش طويلا أو تدم، بسبب عدم وجود جمهور مستعد للإقبال على هذه النوعية من الأفلام.

لكن ما هو السيناريو التقليدي وما هو غير التقليدي?

في خلاصة تفرضها رغبة الانتقال إلى ما بعد التعريف، فإن السيناريو التقليدي هو ذلك القائم على سرد الحكاية مقسمة إلى مقدمة وحبكة ونهاية، في هـذه الحالة. فإن القصة ـ بصرف النظر عن اتقان أو عدم اتقان شخصياتها ـ هي التي يشاهدها المتفرج في المقدمة، وعلى نحو أساسي هي ما يدفع فيها ثمن التذكرة.

السيناريو غير التقليدي هو الذي يفكر في استبدال ذلك المنوال بسرد غير مشروط بالحكاية ذاتها. كأن ينتقل بين التواريخ بلا حواجز فيبدأ من المستقبل أو من النهاية ويعود أدراجه، أو كأنه يستغني عن المتابعة الشرطية للحدث عن طريق فرض تحليلي للمكان وللشخصية وللظرف في المقدمة وإبقاء الأحداث فاترة أو متباعدة وقليلة.

وفي الواقع لم يجتمع السينمائيون في كل بلد ويقررون أن هذا الشكل من السرد ذلك الذي يريد أن يحكي القصة أساسا ويحرك الممثلين حسب أنماط تخدم الحكاية وتحقيق غاية الترفيه في النهاية هو المطلوب، بل نتج الأمر عبر تراكمات عفوية للصورة المسرودة للوصول إلى غاية تقديم موقف ثم حبكة فحكاية كاملة.

الفيلم الذي شهد العرض التجاري الأول، "خروج العمال من المصنع" (1895) للأخوان لوميير ينص على إظهار حالة تدعو للتأمل، هاهم العمال يتدفقون من بوابة المصنع حال فتحها رجالا ونساء بقبعات أو دونها بدراجات هوائية أو سيرا، البعض يتجه يمينا حال خروجه والبعض يسارا، بعضهم يتحدث مع البعض الآخر، والبعض ماض بمفرده أحدهم معه كلب يحاول الاتجاه يمينا بينما صاحبه يتجه قدما.

شاهدت الفيلم الذي تبلغ مدته نحو دقيقة أكثر من عشر مرات في جلسة واحدة. عازما وضع نفسي في إحساس تلك الفترة من الحياة فربما ألتقط الأحاسيس التي التقطها غيري عندما شاهد هذا الفيلم، وأفلاما أخرى صنعت قبل وبعد ذلك التاريخ من النوع ذاته. هل أصبت? من يدري.

ما وجدت نفسي أقوم به هو محاولة معرفة ما لم تبده الصورة، ما نوع العمل الذي يمارسه ذلك الرجل الطويل الذي كان أول المغادرين. هل هاتان السيدتان اللتان تتحدثان وهما تخرجان من تلك البوابة العريضة المكتظة تعملان في ذات القسم? وماذا عن ذلك الرجل ذي الدراجة، ماذا يفعل بعد خروجه من المصنع? هل لديه عمل آخر أم أنه يتجه إلى البيت? هل هناك مقهى على الطريق?

بذلك يبدو أنه حتى المشهد الثابت الواحد قادر على إثارة بعض تلك الأفكار التي إذا ما أردت متابعتها وجدت نفسك في صدد قصة أو قصص متعددة. أي أنه حتى الفيلم الذي بلا قصة يسبب طرح أفكار تستطيع أن تتبلور صوب قصة. لذا من الممكن الجدل بأنه من الصعوبة بقدر كبير قبول الفيلم على أساس أنه تسجيلي لمجرد أن الكاميرا حينها لم تفعل أكثر من الحضور في مواجهة باب المصنع وانتظار خروج العمال لالتقاط ذلك الفعل اليومي المعتاد، (خروج العمال من المصنع) هو في ذات الوقت ولادة للفيلم الواقعي وإيحاء بقصص مختلفة تفرزها تلك الشخصيات المثيرة للاهتمام، ثم إذا أردت، نموذج للفيلم الوثائقي.

منعطف تاريخي صوب الرواية

ولادة الفيلم الروائي الأول وردت من هذا المنعطف.

مشهد وصول القطار إلى المحطة، في فيلم بذات العنوان (أي "وصول القطار إلى المحطة") يوحي بالأحاسيس والملاحظات ذاتها لكن هناك صورة رجل واحد يقله القطار الذي يصل مما يدفع للسؤال عمن يكون وإلى أين يتجه من محطة ليون.

طبعا مثل هذه الأسئلة جائزة وبعد نحو 100 سنة من تصوير تلك الأفلام تبدو غامضة الأهمية، لكن الانتقال فعليا من مجرد تصوير حدث يومي إلى نوع من افتعال الموقف بدأ كاستنتاج تلقائي لمايقع في الصورة.

ونستطيع أن نخمن أن أصحاب النقلة الأولى من الفيلم الذي يصور واقعة كحالة خروج عمال من المصنع أو وصول قطار إلى المحطة، إلى الفيلم الذي يتصرف في تلك الواقعة فكروا على نحو ابتكاري عندما أرادوا تجاوز الوضع الماثل إلى الوضع الذي يمكن لهم (تمثيله). لقد فكر هؤلاء بأن الوقت قد حان لتصوير مشهد مثل ذاك الذي يقع عادة إنما مع ممثل يقوم به. وهذاكان بداية التصرف بالواقع وبداية نقل وظيفة السينما من تسجيل لما يقع إلى محاكاته. على هذا الأساس تم جلب ممثل يؤدي دور لص قطارات في الغرب الأمريكي في فيلم (سرقة القطار الكبرى) الذي أخرجه أدوين إس. بورتر في العام الثالث من هذا القرن.

لص القطارات كان معروفا، كان واقعا لكن أحدا لم يستطع تصويره أثناء قيامه بعمله، لذا فإن المحاكاة كانت أكثر من مقبولة إذ حققت رواجا كبيرا بين المشاهدين كونها صورت وضعا سمعوا به ولم يشاهدوه وأضفت فوقه شيئا من الإثارة وشيئا من الفكاهة. فجأة صار للكاميرا، إذ لم يكن السيناريو ولد بعد على النحو الذي نعرفه الآن (لم يكن أكثر من خطة عمل يتألف من بضعة أسطر) وظيفة جديدة غير التقاط صور الحياة بلا (رتوش).

ما قام به أدوين إس. بورتر أن صنع فيلما يحاكي الواقع مستخدما تقنيتين كانتا لاتزالان في مطلع عهدهما هما التصوير والتوليف لكي يسرد الحكاية ويحول الفيلم إلى قصاص. لم يكن الأول بل نرى أن جورج ميليه الفرنسي سبقه (وسبق وكالة ناسا الفضائىة) في الصعود إلى القمر في (رحلة إلى القمر) في العام 1902، بل إن ميليه أقدم على سرد حكاية ساندريللا في فيلم يحمل نفس العنوان في سنة 1900.

الحكاية حينها كانت مجموعة من اللقطات التي تؤدي إلى سرد حكاية.

فن القصة

لكن المعني هنا ليس فقط حركة التطور الزمني التاريخي للسيناريو الروائي على الرغم من أهمية هذا الجانب، بل المعني أيضا هو ترصد مسيرة هذا السيناريو والفيلم الروائي ككل، كعلاقة وثيقة مع الناس منذ مطلع القرن وحتى اليوم على بعد سنتين فقط من نهايته، وصولا إلى معرفة ماهية الفيلم الروائي وكيف تؤثر النسبة الكبيرة من السكان في الدول ذات النسبة الكبيرة من السكان، في فن ومصير الفيلم بدءا من كتابة السيناريو وانتهاء بالتوليف. وما يتبدى لنا على الفور في هذا الصدد هو التالي:

فعل مصاحبة العمل الروائي للجمهور يعود إلى فجر التاريخ الحديث، دوما ما كان هناك فعل يروى بنفس من يريد أن يسرد حدثا أو قصة أو حكاية ذات أبعاد فلسفية أو دينية مثلا.

والكتب السماوية ذاتها ذات سياق قصصي سورة يوسف آية 3نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ـ صدق الله العظيم. وفي القرآن الكريم، أكثر من غيره، فن الرواية القصصية مكررا في أكثر من مناسبة وببلاغة بديعة، سواء عبر قصة يوسف أو عبر قصة النبيين موسى وعيسى أو حكاية النبي سليمان عليهم السلام. كما أن مسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لاتزال متداولة وذات تأثير نفسي واجتماعي وفكري عميق، خصوصا أن قصة النبي صلى الله عليه وسلم هي قصة نشوء الإسلام وهي القصة التي تتابعت فصولها في عهود الخلفاء الراشدين.

ألا يعني ذلك أن السرد الروائي هو وسيلة الجذب الأولى التي عبرها يمكن جذب اهتمام الناس? هل الخطابة وحدها تستطيع أن تؤدي الغاية? هل يستطيع الشعر وحده? إن كان الأمر هكذا لماذا إذن تحفل خطابات المساجد في يوم الجمعة بالحكايات التي ترد ضمن الموضوع الذي يطرحه الخطيب? بمجرد أن يبدأ الخطيب في المسجد الكلمة الأولى فيما يبدو أنه استعان بحادثة يرويها قصصيا حتى يستعد المستمعون تلقائىا لسماع قصة وترتفع توقعاتهم ويتابعون أبعادها إلى نهاية القصة حينما يتجلى المغزى وراءها.

حكاية الفصول الثلاثة

هناك أكثر من سيناريو لأكثر من غاية. ذلك أن الدول التي سعت لأن تجعل الفيلم أساسا حدثا سرديا لحكاية، كهوليوود ونيودلهي والقاهرة، تعمد إلى سيناريو يضع في المقدمة هدف تقديم قصة. أما المحاولات المختلفة في تلك الدول، وبنسبة أقل، أو في دول أخرى، فكتابة السيناريو اعتمدت معايشة الشخصيات الأساسية بالدرجة الأولى ولتقف القصة في الصف الثاني من الأهمية.

لذا فإن النوع الأول هو نوع روائي كامل تنتمي إليه ما يعرف بـ "السينما التجارية" (وهي تسمية لها وعليها، لكن ذلك هو موضوع آخر) والثاني هو نوع ذاتي تنتمي إليه ما يعرف بـ (السينما الفنية).

ونجد أن السيناريو القصصي يعتمد على ثلاثة فصول: الأول تمهيدي تقع فيه مشكلة سيبني عليها الفيلم أحداثه. الثاني هو تبعات تلك المشكلة، والثالث نتائجها.

الفصل الأول في فيلم (الفك المفترس) وهو فيلم ستيفن سبيلبرج حول سمكة القرش القاتلة، هو في اكتشاف سمكة قرش قاتلة تترك ضحايا بالقرب من شاطئ بلدة سياحية معزولة. الفصل الثاني هو كيف عالج بطل الفيلم (روي شايدر) الوضع والأحداث التي تلت ذلك الاكتشاف والمواقف المختلفة للشخصيات وكيف أن المحافظ (موراي هاملتون) يود إبقاء الساحل مفتوحا أمام السياح بينما ينادي بطل الفيلم بإغلاقه وخلال ذلك يواصل القرش الاعتداء على السابحين وإيذاءهم. أما الفصل الثالث فهو المتمثل في إيجاد الحل والذي يحتوي على النهاية، وهنا نجد محاولة ثلاثة رجال (شايدر، روبرت شو ورتشارد درايفوس) قتل القرش. (الحافة)، وهو فيلم حديث من كتابة المسرحي عادة دافيد ماميت وإخراج النيوزلندي ليا تماهوري، مبني على هذا النسق، فصل أول يصور وصول المليونير (أنطوني هوبكنز) وزوجته عارضة الأزياء (إيل ماكفرسون) وصديقه المصور (إليك بولدوين) وهذا الفصل عني بتأسيس العلاقة بين الشخصيات وتأسيس علاقتنا نحن بها. الفصل الثاني هو الرحلة التي يقوم الزوج والمصور بها إلى منطقة ثلجية والتي تنتهي بتحطم الطائرة وتعرضهما لدب كاسر قبل وصولهما إلى بيت معزول. والثالث هو في المواجهة بينهما حيث يكتشف الزوج صدق شكوكه، فالمصور على علاقة مع الزوجة ويخططان لقتله مما يدفع بالسؤال الحتمي حول من سيقتل من في نهاية الفيلم.

فن تاركوفسكي وبرجمان

أما إذا ما تمت الكتابة على أساس متحرر من هذه التركيبة، فإن الكاتب يواجه منطقة لاحدود فيها مما يمنحه كبناء درامي للأحداث مساحة حرة تماما. لكن ذلك عملية خطرة، إلا على الكاتب المتمرس الذي يعلم ما الذي يقوم به وكيف يبقيه ضمن إيقاعية عادلة وكيف يبرر غياب الاتكال على الحدث بشخصيات مثيرة للاهتمام.

في هذا النطاق عليّ أن أذكر أن بعض الأفلام الذاتية مقسمة في الصميم إلى فصول ثلاثة أيضا إنما بحدود باهتة تكاد لاتظهر، لأن اعتماد الكاتب المخرج يقوم على تقسيم الفيلم إلى تلك الفصول ليس بينا ولم يرد له أن يكون. لنأخذ في هذا المجال واحدا من أصعب أفلام أندريه تاركوفسكي، ذلك الفنان الكبير الذي رحل قبل بضع سنوات تاركاً إلى الآن فراغا كبيرا في فيلمه "مقتف" (Stalker) قصة دليل يذهب بعالم ومثقف إلى منطقة معزولة في عالم مستقبلي داكن في رحلة للوصول إلى حجرة، كل من يدعو فيها يستجاب له. الفيلم ليس قائما على التقسيم التقليدي، لكن المرء يستطيع ـ ولو بصعوبة ـ رسم خطوط عمودية فيه لتقسيم البداية ثم الحبكة، والأحداث الكثيرة في الفصل الثاني ثم النهاية (أو المدلول والنتيجة) في الفصل الثالث. بما أن الفيلم ليس مبنيا على هذه الأسس فإنه لايدرس على هذا النحو مطلقا ويقبل على النحو الذي سعى فيه الكاتب المخرج تاركوفسكي لإتمامه.

في أفلام إريك رومـيـر مثلا لا نجد إمكانية لأكثر من فصل واحد، هو في الحقيقة ليس فصلا لأن اهتمام المخرج الفرنسي صاحب (ركبة كلير) و(قمر كامل في باريس) و(حكاية شتوية)، لايعترف بأي تقسيم كهذا بل يعمد إلى تقديم حالة واحدة، شباب على ساحل البحر يتعرفون على بنات، ويمضي في تأسيس مفارقات قائمة على هذه النبذة الصغيرة التي قد تصنع فيلما جيدا أو ـ كما هو الحال غالبا ـ فيلما غير جيد.

ولعل أفلام أنجمار برجمان نموذجية في هذا الشأن. فيلم مثل تحفته (برسونا) 1966 قائم على متابعة خلجات ومشاعر بطلتيه: ممثلة تلتزم الصمت المطبق وممرضة تتحدث كثيرا. لاتبحث عن أحداث أو مفارقات أو أي شيء يغير إيقاع ما يمر على الشاشة، لكن في ذات الوقت لايمكن تفويت أهمية ما يعلنه المخرج على الشاشة ويستخلصه من موضـوعه الجميل.

هيتشكوك والسيناريو

على الجانب الآخر فإن ألفريد هيتشكوك، المخرج الذي لقب ولايزال يلقب بـ (سيد التشويق) من أولئك الذين أبدعوا كثيرا في مجال معالجة السيناريوهات القائمة على القصة.

هيتشكوك كان أحد أولئك المخرجين الذين راعوا قدرة السيناريو على تقديم قصة مباشرة لايرتفع البعد عن مستوى الحدث. والبعد في أفلامه لنقل مثلا (النافذة الخلفية) أو (مخرب) أو (المراسل الأجنبي) كان مناطا بالحبكة أساسا، أي أنه وعلى عكس سيناريوهات السينما الواقعية في مصر أو في إيطاليا أو الموجة الجديدة في البرازيل أو فرنسا، لم يكن هناك بعد يتقدم القصة ولم يكن هذا البعد طرحا اجتماعيا من أي لون، ولو أن مناهضة النازية في بعض أفلامه ((الدرجة 39)، (مخرب)، (شمال شمالي غرب).. إلخ) يمكن اعتباره بكثير من السعي مواقف سياسية.

عبقرية هيتشكوك في معالجة السيناريوهات تكمن في مقدرته على تحويل سيناريو لايخلو من الثقوب إلى فيلم مثير وحبكة ومواقف تغطي تلك الثقوب حتى لاتكاد ترى. وأحد الأعمال التي ينطبق عليها هذا القول هو فيلم (فرتيجو) 1958 المقتبس عن رواية نفسية بوليسية تدور حول تحرٍ تسبب في مقتل شرطي عندما اكتشف التحري (أداه جيمس ستيورات) خوفه من الأماكن العالية خلال مطاردة على أسطح مباني سان فرانسيسكو، عندما حاول شرطي كان يشترك معه في مطاردة مجرم مساعدته من الانزلاق نحو حتفه سقط الشرطي وأصيب هو بكسر (غير مبرر باعتبار أننا لانرى كيف تجنب بطل القصة السقوط من ذلك العلو الشاهق) صرفه عن العمل.

بعد أشهر يطلب منه صديق أن يراقب زوجته إذ يعتقد أن تلك الزوجة (كيم نوفاك) مصابة بإحباط نفسي شديد وهو يخشى أن تقتل نفسها، لكن بطلنا يكتشف في مراحل متقدمة جدا من الفيلم أنه كان ضحية لعبة يقتل فيه صديقه زوجته طالبا من أخرى أن تمثل دورها.

من أهم الثقوب التي ترد في السيناريو (كتبها سام تايلور وإليك كوبل) عن رواية فرنسية عنوانها (مدخل الموت) لبيير بوالو وتوماس نارسيجاك، وهي أن كل شيء محضر سلفا في خطة المجرم ليسير على النحو المقرر له من دون أن تكون هناك ضمانات. بكلمات أخرى حبكة السيناريو لاتتضمن طرحا ضمنيا بديلا عما يمكن أن يقع لو أن المصادفات والمفارقات وقعت على غير هذا النحو.

سيناريوهات تتهاوى

إذا ما كان ذلك التقسيم قائماً بين التقليد وعكسه، وينص على تقديم الحدث على الشخصية أو العكس، هل يمكن القول إذن إن أحد هذين الأسلوبين هو الذي يؤدي إلى فيلم أكثر جودة من الآخر?

الأمر ليس بهذه السهولة وفي إطار سرد القصة على أساس أنها المحور في جذب الجمهور وتوفير الترفيه المطلوب إليه، فإن السيناريو القائم على ثلاثية الفصول، أو لنقل على كلاسيكية البناء السردي، معرض للكثير من المشاكل الفنية التي قد تهدم الفكرة القائمة وراء انتهاج هذا النوع أساسا.

نتعرف على فيلم أوليفر ستون الحديث (استدارة كاملة ) (U Turn) ذلك القدر من المشاكل. ومحور الفيلم يقوم على رجل يقود سيارته في صحراء أريزونا، ثم يدلف إلى بلدة نائىة عندما تتعطل سيارته، فيجد نفسه كمن وقع في فخ محكم. في محاولته الخروج من تلك البلدة يتفق مع رجل على قتل زوجته ومعها على قتله. المشكلة الرئيسية (وهناك مشاكل فنية لا علاقة للكتابة بها) هي في الفصل الثالث عندما يخفق الفيلم في تتويج كل ما سبق من أحداث في نهاية ذات وقع أو تأثير ما يسبب مطا متواصلا علما بأن المفاد بأسره كان سبق أن تحقق ولم يبق سوى الاقتناع بأن الوقت آن لخاتمة.

وهناك سيناريوهات تكون أكثر قدرة على خلق شخصيات ذات أبعاد من أخرى. مثلا فيلم (أناكوندا) وهو عن ثعبان مفترس يخرج من عمق الأمازون ليقتنص من مجموعة من الشخصيات كانت تجوب مجاهل ذلك النهر، لا وجود لإمكانية تعميق تلك الشخصيات أو بعضها. ذلك أن الحدث ليس دراما من الذات أو بفعل ماض يلقي بتبعاته على الحاضر ويؤدي إلى مقارنة، بل هو تدخل تاريخي مناط بوحش فاتك وكيف سيقاوم الآدميون ذلك الوحش ومن سيقضي في سبيل ذلك ومن سيعيش.

وإذا كان ذلك متوقعا من فيلم من هذا النوع، ومن كثير من الأنواع المماثلة، فإنه لم يكن متوقعا من سيناريو الفيلم الكوميدي (مكتوم ومعلن) (In & Out) الذي يدور حول أستاذ مدرسة (كيفن كلاين) يكشف، بعد سلسلة من المفارقات، عن أنه شاذ جنسيا. ما يسبق هذا الإعلان وما يؤدي إليه من مفارقات مجموعة من التراكمات الحديثة المفهومة، لكن ما يغيب عن الصورة دوما هو تفاعل داخلي بحيث يستفيد الفيلم من أي نمو داخلي في تلك الشخصية وعلى غرار ما حدث في فيلم (جيري ماغواير) عندما تؤدي خسارة توم كروز لعمله إلى اكتشافه طعما مختلفا للحياة ومسئوليات جديدة.

إن السيناريو هو الأساس القصصي للفيلم، الفيلم كما سيشاهد وعلى هذه المساحة المكتوبة يمكن للمؤلف وضع ما يريد في التركيبة التي يريد ويستطيع بكل تأكيد اعتماد الشكل الثلاثي دون تغييب أهمية البعد الشخصي، فيجمع بذلك بين الأسلوب الأمريكي والأسلوب الأوربي في الكتابة والتدليل.

 

محمد رضا

 
  




أناكوندا .. لا وجود للعمق





لقطة من فيلم أوليفر ستون "استراة كاملة"، مشاكل





الحافة: مبني على نسق





هيتشكوك العبقري