الفنان عبدالرحمن مهنا محمود سالم

الفنان عبدالرحمن مهنا

عالم أسطوري يمزج الطبيعة بالإنسان

عندما ندخل العالم السحري لهذا الفنان فإننا نستجلي بذلك ملامح واحد من أعمدة الفن التشكيلي السوري. على مدار ربع قرن قضاها عبدالرحمن مهنا بين دمشق وحلب قدم أكثر من عشرين معرضاً تجاوزت لوحاتها حدود الوطن إلى بقية أنحاء العالم.

عبدالرحمن مهنا فنان يتمتع بطاقة حيـوية، دائب الحركـة، دائم التجـدد والبحث، فطموحه في تأسيس فن له طابعه المميز لا يعرف الحدود .

هذه الشخصية الديناميكية- إن صح التعبـير - لا بد من أن يكون لها انعكاس ما على العمل الفني الذي يبدعه الفنان مهنا، والواقع أنه ليس هنـاك أي انفصال بـين شخصيـة الفنان وعالمه الداخلي والفكري وبين ما يبدعـه الفنان أو بين الفنان والواقع، خاصة إذا كنـا نتوخى في العمل الفني الصدق، هذا يقودنا إلى أن العـالم الذي يخلقه مهنـا في أعماله الفنية هـو عالم شخصي بكل ما في هذه الكلمة من معنى .

إن كل أوجـه الصراع والتمرد والانفعالات التي يعانيهـا الفنان وهو يعيش في هذا العصر تجد لها انعكاسا في أعماله الفنية، لونا وخطا وموضوعا حتـى يمكننا القول إن ما يخرج من بين يـدي الفنـان هو تصـوير دقيق لشخصيته وتسجيل صـادق لحياته، ولكي نحسن فهم هـذا المعنى يجب ألا نفصلـه عن العالم الخارجي الذي يحيط به .

يقول الفنان التعبيري أوسكـار كـوكوشكـا: (إنني لا أستطيع أن أرسم أي إنسان، فقـط أستطيع تصوير هؤلاء الناس الذين أتعاطف معهم) .

على الرغـم من أن العمل الفني ينطـوي على تعبير يصعب تحليله وعـوالم من الصعب الكشف عنهـا لان ما يتضمنه أي عمل فني مهما كـان قريبـا مـن الواقع المشخص ليست أمورا عقلية بحتة وإنما يحمل العمل الفني عـوالم وجدانية تدرك بالحدس المباشر .

وهذا الـرأي يجب ألا يمنعنا مـن تسجيل بعض التصـورات والـرؤى الذاتية، ونحن نتأمل أعمال هذا الفنان الذي جعلنا نحلم بالواقع بدلا من مشاهدته .

الرؤية الإبداعية

الفنان مهنا لا يرى الأشياء التي يصورها بالمنظور الفـوتوغرافي التقليدي وإنما يراها من خلال العمق المعنوي لها، فيصبح كل شيء في الطبيعـة من إنسان وحيوان ونبات له دلالاته التعبيرية لدى الفنان ، إن كل شيء يتغير في الطبيعة، تبعا لرؤيـة الفنان، ويكـون صدى لانفعالاته الوجدانية وفي مجال اللون يحدث نفس الشيء، فلم تعد الألوان تعبر عن حقيقتها ووجودها كما نراها في الطبيعـة بل أداة ووسيلة تعبير عن أحـاسيس الفنان ومشاعره، يقول غوته: (على الفنان أن يؤسس في الطبيعة ملكـوته الخاص به خالقا- انطلاقا منهما - طبيعة ثانية) وهذا ما نراه عند الفنان مهنا بحيث نرى أن الواقع هو الذي يماثل أعماله الفنية وليست أعماله هي التي تماثل الواقع على حد تعبير خوان لـويس ماركيز سانتشز مدير المركز الثقافي الإسباني السابق بدمشق .

والعوالم التشكيلية عند الفنان غنية ومتعددة الجوانب منهـا الـذاتي ومنها الموضـوعي ، ومن علاقـة الذات مع الموضـوع استطاع الفنان أن يخلق فنا فيه نبض الواقع وحيويته وبقراءة لأعمال هذا الفنان نستطيع أن نحدد جملة من العناصر التشكيلية والفكرية التي تؤلف عالم اللوحة عنده .

إن العمل الفني عند الفنان مهنا تحكمه وتسيطر عليه جملة من المعـايير الحسية، الحس التلقائي، الحس البنائي واللوني، والحس الإنساني هو أكثر هذه العناصر امتزاجا بشخصية الفنان وتكوينه الإنساني، وهو الحس التلقائي الصادق تجاه العالم الذي يصـوره وهو يكشف عن طبيعة هذا الفنان، ونظرته للعالم . نلاحظ من أعمال الفنان أن لديه رغبة جوهرية في الاهتمام بالمرئيات وأشكال الحس التقليـدي ومـن ثم الاعتماد على البقع اللـونية في إعطـاء الحركـة والتعبير بالإضافة إلى التركيز على العنصر البنائي في تصميم اللوحة .

كيف استطـاع الفنان أن يبني عالمه الفني؟

لكي نجيب عن هذا التساؤل لا بد أولا من أن نرجع إلى طريقته في تكوين اللوحـة . إن اللوحة، عند هذا الفنان هي بناء متكامل . فـالخطوط التي تؤكد الأشكال نراها تتوقف فجأة كي تكمل اندفاعها ثانية في ناحية أخرى من سطح اللوحة والبقع اللونية بتبايناتها وتصادمها إنما تعـبر عـن التوتـر الحسي الشديـد الذي يعانيه الفنان، والحركة التي نحسها في لوحات الفنان مهنا لا تأتي من حركة الشخوص وإنما تأتي من حركة الخطوط ذاتها التي تـؤلف الشكل الإنساني وتصـور حركته بإيقاعية جميلة وموحية، فالخطوط الناعمة والهادئة في وجه الفتاة إنما تعبر عن انسيـابية هـذا الوجه والإيماءة العـذرية فيه ، والجـمال الفطري لدى هذا الـوجه من النموذج الإنساني الذي يـدعو إلى المحبة والسلام وهي تحمل وردة حمراء بيدها تقدمها لمن أحب الحياة .

هذه الخطوط تلخص بصورة عجيبة حركة الارتعاش داخل هذا الجسد الأنثوي، وهناك أعمال فنية تحس منها بنبض تعبيري شـديـد التأثـير، خطـوطهـا تجري ثقيلة متقطعة تتفاعل مع إيحاءات الجسم، إيماءات الوجوه وحركة الجذع وامتداد الأيدي وكلهـا حركات تساهم في خلق الديناميكيـة التي تنبض بها اللوحة .

التكوين عنـد الفنان مهنـا شعر صامت له بلاغته وبيانه، وتعبيره الخاص يتميز بالحيوية والانفعال الدافئ حينا والصاخب حينا آخر، فـالمسـاحات اللونية الموزعة على سطح اللوحة فيهـا من الحوار الذاتي والانسجام اللوني ما يبعث في نفس الإنسان حالات مختلفـة من المشاعر والأحـاسيس، فالألوان مـوزعة بشكل متناغم ومتنـاسق مثل أفق بعيد تلونه أشعة الشمس الذهبية أو ضوء قمري ليلي، هادئ بإضاءاته وألوانه، وقد تكـون الألوان مخنوقة تعاني من الكآبة والقتامة وقد تتلألأ وتصدح، فالدرجات اللونية المشعة تريد النفاذ والسطوح اللونية المعتمة تكتمهـا وتضغط عليها، فهنـاك صراع درامـي لا نهائي بين البقـع اللونية، من هذا الصراع تتوالد عوالم أسطورية من الألوان فيهـا من الغموض والغرابة ما يجعل المشاهد يشعر بالحيرة والـدهشـة أحيانا وأحيـانا أخـرى يشعر بالاطمئنان والراحة وذلك تبعا للحالة النفسية للمشاهد .

لقد استطاع الفنان مهنا أن يجعل من تلك البقع اللـونية الموزعة على سطح اللـوحـة مسرحا لانفعالاته ومنبعا لإبداعاته ضمن معادلة حقق من خـلالها الفنان التناغم اللـوني الأصيل المرتبط بالأرض والإنسان والطبيعة .

الفنان قدم لنا معادلات لونية صعبة قلما نجد مثيلا لها، فإمكاناته في مجال التكوين هائلة تنم عن خبرة ودراية في امتـلاك ناصيـة اللون. إن تجارب الفنان السابقة بالألوان المائية في الشمعية وبألوان الحـبر الصينـي أعطته هذا القدر من التميز الموجود في تجربته اللونية الجديدة .

إن الفنان كثيرا ما أثار اهتمامه معالجة ثلاثة مواضيع رئيسية كـان لها صدى عميق في ذاته وهي الطبيعـة بما فيها (الصامتة) والشكل الإنساني الخاص بعالم المرأة والمواضيع القومية والـوطنية التي لها دور كبير في تجربة هذا الفنان .

إن علاقة الفنان بالبيئة ليست علاقة عادية وإنما تفاعل صعب يمتـزج فيه وجـدان الفنان مع الواقع والأصالة التي يختزنها . عبر عن ذلك الفنان والناقـد التشكيلي المعروف الدكتور محمود شاهين قائلا: (إن فن عبدالرحمن مهنـا ليس متكاملا شكـلا ومضمونا وتعبيرا فحسب بل هو فن ممهور بحرائق الحياة ومعمد بالمعاناة ،ممـا يكسـب هـنـا الفن قـراءة تستحق التقـديـر والإعجاب) . (الفن عنده متنفس وحاجة، يفتح به ومن خـلالـه أفقا في أفق، عليـه يتكئ وبه يمضي إلى العذوبة . . . إلى الحلم . والفنان لم يتوقف عند الشكل المألوف للواقع وإنما قام ببنائه وتركيبه شكلا ولونا بصورة حطم معهـا الشكل المألـوف لكي يكشف عن الجوهر ويعطي بعدا رمزيا في بعـض الأحيان . وبعدا تعبيريا يكشف عن الواقع في أغلب الأحيان .يقول الفنان والناقد المعروف صلاح الدين محمد في هذا الإطار: (إن عبدالرحمن مهنا الذي يأتي متميزا في عطائه الفني، يقدم حلولا تشكيلية تواكب بوعي معطيات عصره وتستشف أفق الفن الشـاسع، لان هـذه الحلـول تقدم الحداثة بـوجهها الحضـاري وتنشد التأصيل بـاستيعاب لما هو تراث وما هو متوارث بروح انتقائية مدركة) .

المهنا . . والطبيعة

والطبيعة عند عبدالرحمن مهنا ليست طبيعة جامدة بل طبيعـة متحـركـة نشطـة، فهي تعطيك الـدفء والحرارة، تشعر بصلابتهـا وبرودتها كـما تشعر برقتهـا وجمالها، فالسهول والـوديان والأشجار كلهـا تتكلم وتفصح عن مكنوناتها وتجعلك تبحث بين ثناياها عن همومك وعذاباتك : وإذا ما حـاورتها تشعـر بالراحـة والاطمئنان، إن التعبـير والتحـوير اللذين يـدخلهما الفنان على عنـاصر الطبيعة يجعلان من العمل الفني متعة للعقل وارتقـاء للمشاعر ينفـذ إلى أعماق النفس ويحرك الوجـدان، فكل شيء في الطبيعة يأخذ دوره في خلق التناغم بـين العالم الخارجي وعالم الفنان الداخلي فغدت الطبيعة تحمل أدق نبضات عالمه الخاص .

إذا كان الفنان مهنا قد خلق حالة اندماج كلي مع الطبيعة، وزودها بنبضـات قلبـه فإنه لم ينس الشكل الإنساني عامة والشكل الأنثوي بصورة خاصـة كأحد مفردات عناصره التشكيلية .

الأجواء النفسية للمرأة

لقد عبر الفنان عبدالرحمن المهنا عن المرأة الممثلة بالأم والفتاة والمرأة الشعبية، كلها شخوص حاول الفنان تجسيـد عوالمها المختلفة ورسـم حالاتها النفسيـة بدقـة وتعبير عميق، وهو عنـدما يصـور المرأة لا يهمه الشكل الظاهري لها بل يغـوص في أجوائها النفسيـة، فوجـوه بعضها جـاءت خشنة الملامح مجهدة التقاطيع تعكس بريقا غريبا، وألما مكتوما، وجاء بعضها الآخر يعكس عوالم فيهـا من الفرح والبهجة ما يدل على أن الفنان كان موفقا في رسم الملامح النفسية على وجوه شخوصه، وقد لجأ في خلق نوع من الدراما اللـونية ليخـدم التعبير في اللوحات التي يصور فيها المرأة وعالمها المتناقض، فالمرأة عنده تعيش حالة من الغرابة والفراغ الموجع، وحيدة مع نفسها ولكن الفنان لا ينسى أن يعطي للمرأة التي يجسد عالمها الحزين الأمل والرغبة في الحياة في جانب الألوان القـاتمة التي تحيط بها، تنبعث بعض البقع اللـونيـة الجميلـة والحالمة من وسطها لتخلـق جوا من التفـاؤل ، وإعطاء بصيص أمل في الحياة والحرية، هذا التعبير عن الذات الإنسانية من الـداخل بواسطة الألوان لا يمنع الفنان أحيانا من أن يستخـدم الرمـز ويستعين ببعض الأشكال في التعبير والتصوير، فنجـد الحمامة والسمكة وأوراق الأشجار والزهر والتفاحـة وغيرها كلهـا رمـوز يستخدمها الفنان ولكل منها دلالاتها التعبيرية .

يستخدم هذه الرموز خاصة عندما يحاول أن يعالج المواضيع الإنسانية والوطنية والقوميـة، فجاءت أعماله الملتزمة وقضاياه المصيرية تعبر عن المأساة التي يمكن أن تنجم عن أسلحة التدمير الشامل، فمن خلال مجموعة من الأعمال جسد الفنـان حسه الإنساني وجـاءت هذه الأعمال أكثر غنى من حيث متانة التشكيل والتصميم والتوزيع المدروس للألوان أو المساحات اللونية من باقي الأعمال الأخرى التي اعتمدت على الدفقات الشعورية والتعبير التلقـائي، حيث لعب فيهـا الرمز دورا كبيرا ومعبرا ومؤثرا في الوقت نفسه، فالانتماء الوطني والقومي والإنسـاني والأمل في المستقبل المشرق، كلها كـان لها دلالات ورموز توحي بها وتدلنا على معانيها الإنسانية والعالمية، وأعطى الفنان للخط دورا مهما في هذه الأعمال فجاء قـويا منكسرا تارة ولينا تارة أخرى وذلك لخدمة الموقف الـذي أراد الفنان أن يعبر عنـه، أما البنـاء التشكيلي في هذه الأعمال فإنـه أكثر تعقيدا أو تركيبا وبشكل استطاع فيه الفنان أن يدخل أماميـة التكوين بخلفيته إلى الحد الذي يتعثر معه الفصل بينهما، وذلك للتأكيـد على متانة التشكيل البنائي للوحة وربط جميع عناصرها بعضها ببعض، وذلك من أجل تجسيد مفهوم القوة والصلابة، فالفنان مهنا في أعماله الملتزمة بالإنسان وقضاياه المصيرية التي تتعلق بالحرب والسلام حاول أن يضفي عليها الحس الدرامي التراجيدي .

إن العنف والصراع والتوتر الذي انتاب الفنـان بعد العدوان الصهيوني الآثم على الأمة العربية، كـل هذه الشـواهد تحولت لـدى الفنان إلى طاقة من الاحتجـاج والغضب والسخط على كل ما يهدد الوجود الإنساني وأمن الإنسان .

لقد استطاع الفنان في أعماله الملتزمة بقضايا الإنسان هذه أن يربط بين الشكل والمضمون بصورة موفقة . بقي أن نشير إلى أن الفنان في أغلب الأحيان لا يضع أسماء أو عناوين للوحـاته لقناعته بأن اللوحة أكثـر رحابة وأكثر تعبيرا من أية تسمية تطلق عليها، إنها خلق فني ومزيج مما يمكن للكلام أن يجاهر به وما يعجز الكلام عن أن يفصح عنه، بل أن عمق اللوحـة وبلاغتها إنما تتجلى عندمـا ننسى تسميتها وعندما تكشف اللـوحة عن كل مكنوناتها وتصبح في كل لحظة ذات مغزى جديد .

أخيراً نستطيع أن نقول إن الفنان عبدالرحمن مهنا استطاع أن يجذبنا بقوة نحو متابعة أعماله الفنية وتجاربه الجديدة في البحث اللـوني والتشكيلي وفي إعطاء لوحة فنية متقدمة معاصرة . والشيء اللافت للنظر في تجربة هذا الفنان أنه يستخدم مادة ألوان البلاستيك الشمعية بمقدرة عالية جـدا ويسخرها لمواضيع فكرية وجمالية تعبر عن الأرض والإنسان والطبيعة ومـن خلال لمسات ومساحات لونية جريئة استطاع أن يخلق لنا عالما شديد الكثافة والتبلور، عالما فيه من الأسطورة والحلم ما ينعش أفئدتنا ويذكي خيالنا .

ونحن نشاطر رأى الـدكتور شاهيـن بقوله : " يبقى عبدالرحمن مهنـا فنانا يعرف جيدا ماذا يريد أن يقول في عمله ، إنه بات يملك القضيـة المحـرضـة من جهة ويمتلك الأداة الصحيحة من جهة أخـرى . الأجمل في تجربة هذا الفنان أنه يعيش الفن وينتجه في وقت واحد . وما أندر هؤلاء".

 

محمود سالم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الفنان عبدالرحمن مهنا





إناء زهور لوحة تحقق الانسجام اللوني مما يبعث في نفس المشاهد حالات مختلفة من المشاعر والأحاسيس





بيوت دمشقية قديمة علاقة الفنان بالبيئة ليست عادية ولكنها علاقة امتزاج يصعب فيها التفرقة بين الواقع الخارجي والوجدان الداخلي للفنان





وجوه وأشخاص وخطوط متقاطعة مليئة بالتوتر





تنويعة أخرى على البيوت الدمشقية القديمة وهو موضوع يستهوي الفنان





باب قديم وآية قرآنية تحرس المدخل





الفنان داخل مرسمه على هذه اللوحات يخرج كل ما كان يختزنه في وجدانه





وجوه غاضبة وحزينة إحدى لوحات الاحتجاج عند الفنان عبدالرحمن مهنا