في الفن التشكيلي المغربي الأساطير تستعيد حياتها

في الفن التشكيلي المغربي الأساطير تستعيد حياتها

نلاحظ إهمالا كبيرا في مجال دراسة الأساطير والخرافات العربية الإسلامية من طرف علماء الميثولوجيا، فهل هذا يعني أن العرب لم يكونوا مبدعين في هذا المجال? صحيح أن ظهور الإسلام كان حدا قاطعا بين الأساطير والمعتقدات الجاهلية، وما جاء به الدين الجديد من عقائد حول التوحيد والخلق الرباني، والحياة بعد الموت والروح، لكن كل ذلك لم يخنق أنفاس الإبداع والخيال، بل ساعد على ظهور فن أسطوري ذي مقومات جديدة، لكنه انطلاقا من نفس الوظيفة، وهي الخلق والإبداع ساهم في حل إشكالية التحريم المتعلقة بالتصوير التجسيدي التمثيلي، لقد توصل الفنان المسلم إلى تصوير الكائنات الأسطورية والخفية (براق، سنتور، جن...) لتجاوز الطبيعة وعدم السقوط في محاكاة الخالق، ولفتح مجال آخر للتعبير عن الواقع.

أما بالنسبة للفن التشكيلي الحديث، فتوظيف الأسطورة كحركة إبداعية وذلك بتمثيل الطبيعة من خلال تفاعل العناصر الأربعة، الماء والهواء والتراب والنار، هو محور تجربة الفنان محمد المليحي منذ أن بدأ مسيرته الفنية. فهو يعترف بأن (خطابه في الرسم بطيء لايتغير بسرعة)، وضمنيا فالمليحي سن سنة الرواد الشرقاوي والغرباوي في العودة إلى التراث العربي الإسلامي لكن بالمقارنة مع التراثين الروماني واليوناني مما جعله يلاحظ (أن هؤلاء حضارتهم مثالية، أما نحن فحضارتنا تعيش وهي تفكر بالآتي)، بالعالم الآخر، إنما حضارة تأمل في الطبيعة، لذلك نجد صعوبة في التصنيع والقضية (في رأيه) تتركز في ماضينا الديني، فالإغريق أعطوا للآلهة أشكالا إنسانية، ونقلوها إلى الحجارة، أما الحضارة الفرعونية فإنما تؤمن بأن الإنسان يصبح إلهاً، وليس العكس، إنهما تياران متعارضان، لماذا (يقول) كل هذا? لأن النار والماء، الشعلة والموجة شيئان متضادان، جاء أحدهما من رحم الآخر وهما أصل البشرية على الأرض).

إن أقوال المليحي تؤكد على المنحى الأسطوري الذي يطبع تجربته التشكيلية: أولا على المستوى الموضوعي، لأنه يشتغل على العناصر الأربعة التي هي الأصل. ثانياً: على المستوى الفكري، لأنه يعتمد في بناء مفاهيمه على مقارنة التراث الإنساني من الناحية العقائدية والأسطورية والفلسفية. ثالثا على المستوى التشكيلي، إذ إنه يوظف العناصر الأربعة كأشكال تقسم مساحة اللوحة إلى فضاءات متموجة يتخذ اللون فيها دوراً تأمليا وخياليا، بحيث تتحول الشعلة إلى موجة، وتتحول هذه الأخيرة إلى شعلة، وذلك بفعل تغيير الألوان، أما الحركة فهي هي.

عالم الخرافة

بينما ونحن نشاهد أعمال صلادي لا نكاد أن نحرم أنفسنا من الارتماء في أحضان عالمه الخرافي السحري، حيث الطيور الضخمة والأجساد البشرية المتعددة الأيدي والعيون، والمباني المطاطية التي تنحني بفعل ثقل الطير الواقف فوقها، فصلادي يبني عالمه الخرافي وكأنه يحدد طاولة الشطرنج لتبدأ شخصياته في اللعب والتحرك حسب الأدوار المسندة إليها.

إن صلادي بتناوله موضوع الخرافة يحيي فينا طفولتنا بأبطالها وشخصياتها وآلامها وأمالها، يحيي فينا عالما غريبا وأليفا في نفس الوقت، قامت الجدة بالدور الرائد في تكوينه وتعقيده، فكانت أول من عرفتنا بحديدان وجحا والغول.

في حين يطلعنا بوشعيب هبولي، المعروف بالطائر ـ الرمز الذي يتحول إلى الطائر ـ الأصل والطائر ـ الشاهد أو الطائر ـ الضمير، طائر هبولي يتحول حسب المكان والزمان بل حسب المواقف والظروف دون أن يحدث خللا أو تناقضا في ـ مع المبدأ الثابت للطائر وهو الطائرـ الشاهد.. يطلعنا هبولي على آخر إنتاجاته حول الجسد العاري المجنح فتفاجئنا عدة تراكيب وخطوط معهودة عنه تحمل شيئا ما من الغرابة تفلت عن إدراكنا وهنا تحصل المتعة ولايحصل الإدراك وكأن إدراك أسطورة الجسد المجنح والطائر المتحول إلى لانهاية مرتبط بإدراك الكون والسلوك البشري الذي حددت آفاقه منذ الأزمنة الغابرة حين كان الإنسان يتحول إلى آلهة أو إلى شياطين أما اليوم فقد أصبح الإنسان مجردا لايتعدى رقما على بطاقة أو على سجل

صراع من أجل الخلود

في العصور الغابرة كان الإنسان يتطلع إلى الحياة الأبدية، إلى قهر الدهر على حد تعبير العرب في الجاهلية، دعونا نستحضر قصة لقمان بن عاد في صراعه المتواصل من أجل خلود سبعة نسور كلما ملك نسرا عقبه نسر آخر، بلغ عمر سابع نسر ليدرك أن البقاء مستحيل استحالة قهر الدهر أو الزمن على حد تعبير المستحدثين، ذلك الزمن التجريدي المرقم من صفر إلى 24. الأرقام نفسها أصبحت علامة ـ رمزا تنوب عن الإنسان وتحل محله. إنها حقيقة أسطورية وأسطورة حقيقة، ندرك ملامحها في واقعنا الشاذ ونحن نشاهد أعمال عبد الكريم الأزهر.

قد يسيطر الغيبي على أذهان مبدعي الأساطير، لكن الواقعي يتحكم دائما في بناء الأسطورة وحبكتها وتسلسل أحداثها وتضارب شخصياتها وفلسفتها، الشر والخير، الجمال والقبح، الحياة والموت، القوة والضعف، بل حتى التكوين الفيسيولوجي للشخصيات الأسطورية لم يتعد الواقع إلا فيما يخص التركيب، فالسنتور عبارة عن إنسان وفرس أما الدياس عبارة عن إنسان وطائر، إنها شخصيات من نسج الخيال المبدع، تتصارع لخلق كون متفاعل ومتصارع أيضا، لأنه مؤسس على التناقض، ذلك التناقض الذي يطبع أعمال أبوالوقار على مستوى الشكل لأنه يوظف عدة تقنيات لإنجاز عمل واحد وعلى مستوى المضمون لأنه يقابل الواقعي بالأسطوري داخل فضاء تجريدي مطلق.

إن العودة إلى المواضيع التاريخية الكبرى بحثا عن شكل فني مغاير ومميز لضمان الأصالة وإعطاء الطابع الإنساني للتجربة الفنية، حيث تطويع الحدث التاريخي ودمجه ضمن فضاءات وأزمنة مطلقة تسقط عنه طابع المحلية والانتماء الأيديولوجي الضيق، ذاك وجه آخر لتشكيل الثمانينيات.

الحرب والإنسانية

إن الحرب كنشاط إنساني شاذ يزيد في حدة التناقضات الحاصلة في الحياة، حلال حرام، جمال قبح، موت حياة، الحرب كذلك فترة حاسمة تخلد نفس الإحساس لدى كل الشعوب، إحساس بالألم والهزيمة تخلدها أعمالا شهيرة لغويا وروبانس، وبيكاسو، وضياء العزاوي.

لقد حاولنا صحبة الفنان شفيق الزكاري لكي نستكشف وجه الإنسان الآخر، الإيجابي والسلبي وذلك باستعراضه إلى جانب وحوش خرافية وأخرى أسطورية، داخل فضاء متوهج ساقط إلى السواد، يلعب اللون الأسود دوراً أساسيا في تحديد الشكل والفضاء دون اللجوء إلى تمثيل البعد الثالث بواسطة المنظور.

الأسطورة إذن كحركة إبداعية توحد بين الكون وخالقه، والفن والإنسان، هذا الأخير الذي يحقق ذاته ووجوده كممارس للإبداع الحر والخلاق.

 

نور الدين فاتحي

 
  




نور الدين فاتحي: أكرليك على خشب





أبوالوقار (تصوير فوتوغرافي)





نور الدين فاتحي: الجسر الكبير





المليحي: صباغة دهنية





صلادي: حبر على ورق





عبدالكريم الأزهر: حبر على الورق