البانتومايم .. فن التمثيل الصامت بيومي قنديل

البانتومايم .. فن التمثيل الصامت

كتاب الشهر
المؤلف: توماس ليبهارت

البانتومايم فن يحاول أن يعلو عن اللغة ويعتمد على تطويع حركات الجسم من أجل خلق لغة عالمية يفهـمها الجميع .إن هذا الكتاب يحاول أن يؤرخ لهذه الظاهرة منذ أقدم العصور .

منذ البداية ميز المؤلف بين تقاليد البانتومايم الصامت الذي عرفه مطلع القرن التاسع عشر وبين المايم الحديث الذي لا يأنف من استخدام الأصوات غير البشرية وتلك البشرية المدغومة السابقة للغة الإنسان إلى جانب استخدام المجاز الحركي .وطرح المؤلف في هذا الضوء هذا السؤال: هل ينبغي على " المايم " أن يكون صامتا؟ وخلال الجواب الذي قدمه عن سؤاله أكد أن معظم مسرحيات المايم منذ العصور الأولى وحتى الآن صاحبتها أصوات من نوع أو آخر، أو انطوت على ذلك الحديث الذي يسوقه الراوي أو الجوق أو مؤدي المايم أو الأصوات التي تصدر عن صفق طرف من أطراف الجسم بالآخر أو النقر بالأرجل على أرضية المسرح .

وفي هذا الصدد يقول إن العالم القديم عرف مسرحيات مايم مليئة بالحياة ونابضة بالحيوية بينها المسرحيات الثلاث عشرة التي عثر عليها مكتوبة على إحدى لفائف البردي، وهي من تأليف كاتب مسرحي إغريقي عاش في مدينة الإسكندرية حوالي 270 ق .م يدعى "هيرونداس" وكان مؤدو هذه المسرحيات يتكلمون على خشبة المسرح وكانوا يستعيدون من الذاكرة نصوصا كتبها مؤلفون معروفون .

ويشير المؤلف أيضا إلى أن بعض الشعراء القدامى كانوا يلقون قصائدهم بأنفسهم فيما يصاحب هذا اللقاء بإشارات وإيماءات معبرة .وتقول إحدى الحكايات التي لا تخلو من ظل على الأقل من الحقيقة إن الشاعر اليوناني المعروف ليفوس أندونيكوس استأجر بعد إصابته بالخرس في عام 240 ق .م ممثلا خاصا كي يلقي قصائده بالنيابة عنه فيما استمر في أداء الجانب الإيمائي من عملية الإلقاء .

ويشير المؤلف إلى ما كتبه "جاك ميريكو" في عام 1751 حول البانتومايم والمايم، وهو الأمر الذي يعني أن "ميركو"كان يرى أن هناك فرقا بين الاصطلاحين اللذين يستخدمان في الوقت الحاضر- مع الأسف - وفي كثير من الأحيان بمعنى واحد .ولقد حدد " ميريكو" البانتومايم بأنه تمثيل صامت بشكل حاسم، بينما يصاحب مؤدي المايم ممثل آخر يتكلم بالنيابة عنه، ولقد سمح مثل هذا الفصل بين الممثلين لذلك الذي يستخدم لغة الجسد وحدها أن يجتهد في التعبير عن نفسه بصورة أكثر اكتمالا، ولذلك الذي يتكلم أن يواصل كلامه دون أن يصيبه اللهـاث .وهذا أمر يدفع المرء إلى التخمين بأن المؤدين الأوائل للرقص الهندي المعروف باسم "بهاراتا ناتيام "- وهو عبارة عن دراما راقصة تشيع في جنوب الهند- قد يكونون في الأصل حكائين يصورون بعض أجزاء قصصهم بالإشارات والرقصات- ولما أصبح الرقص أكثر تعقيدا وأقرب إلى الرياضة البدنية اختص مغنون محترفون بالأجزاء التي تستخدم الألفاظ في الحدث .وبعد أن يوضح المؤلف بجلاء، الفرق بين البانتومايم والمايم يدخل إلى الفصل الأول الذي يخصصه لـ "جاك كوبو " الرائد الفرنسي في هذا المجال .ويصدر المؤلف هذا الفصل بسؤال عميق لـ "كوبو": هل نحن ممثلون لماض مفقود أم أننا على النقيض من ذلك بشائر لمستقبل لا نكاد نميز ملامحه في الطرف الأقصى لحقبة أوشكت على الانتهاء؟ ويعيد المؤلف إلى الأذهان المقولة التي ذهب إليها "توماسكون" في كتابه الشهير "هيكل الثورة العلمية" بأن الأشخاص الذين يتلقون تعليما عميقا في إطار مناهج قديمة يعجزون عن وضع مسافة بينهم وبين أنفسهم تكفي كي يروا عيوبهم وتناقضاتهم ومن ثم فالذين يحوزون تلك النظرة الموضوعية اللازمة لدمج معارف جديدة في إطار وجهة نظر جديدة للعالم يأتون في الغالب الأعم من بين الهواة وغير المتخصصين بل والدخلاء، وكان "كوبو" أحد هؤلاء الدخلاء .ولم يكن ذلك غائبا عن باله، إذ كان يدرك أن روح التجديد التي دبت في المسرح في الماضي كانت ترجع في غالب الأحيان إلى جهود شخص فرد لا ينخرط على الأقل في البدايات الأولى لعمله في خضم التيار الرئيسي لمسرحه المعاصر .

عالم القناع

وتتمثل أمية مسرح "الكولومبي العجوز" الذي أسسه "كوبو" في اكتشاف عالم القناع، وكيف يموت ممثل الابتسامات والتكشيرات كي يولد ممثل جسدي جديد، وبموت النموذج القديم اختمرت احتمالات ظهور ممثل جديد في غياهب المستقبل .فالقناع يعد بدائيا وموغلا في التعقيد في نفس الوقت، وطمسا وكشفا في ذات الوقت وشيئا ينتمي إلى أقدم المسارح وفي عين الوقت إلى أكثرها حداثة .ولم يكن القناع سوى الأداة التي مكنت للولادة الجديدة لمسرح جديد، مسرح يستطيع توجيه سائر البشر من جميع الطبقات وجميع الأمم .فلم يكن المسرح الذي لم ير "كوبو" فيه وسيلة للتسلية أو الترفيه لينطوي على أي شيء أقل من الخلاص المحتمل للفرد والمجتمع والعالم .

هل هو فن ضئيل الشأن؟

ويمضي المؤلف إلى الفصل الثاني الذي يفرده الرائد آخر هو "ايتيان دكرو" ويصدر هذا الفصل بقول" دكرو": " لقد ألقى "كوبو" ، في قلب عالم المسرح بشعلة نار، وكل الذين انفصلوا عنه لسبب أو لآخر حملوا معهم منها جذوة .

ويشير المؤلف إلى أن "كوبو"التقط صبي الجزار الذي كانه "دكرو" في صباه كي يصنع منه ممثلا عظيما .فالإشارات التي يقتصد خلالها الذين يعملون بأيديهم جهدهم كانت بمثابة أحد العوامل الرئيسية التي أثرت في فن "دكرو" .ويشير المؤلف إلى أن " كوبو" جاء إلى عالم المسرح من مجال الأدب أي من مجال أرقى في ذلك الوقت بينما حضر "دكرو"إلى ذلك العالم من الطبقات العاملة أي من مجال أدنى .ولكن كلا منهما ، أي من (كوبو" و"دكرو" ، حمل إلى المسرح قوة استبصار جديدة من مجال آخر .

ويقول المؤلف إن "دكرو" استجاب من كل قلبه لتعاليم "كوبو" فلقد أسهم تفانيه للمسرح كفنان ونقاؤه كإنسان الشاب الذي كانه "دكرو" .وبعد ذلك بعدة سنوات رأى "دكرو" لزاما عليه أن يقر طوعا أنه ما كان لينجز ما أنجزه في مجال المسرح لولا التمارين التي وقعت عليهـا عيناه والارتجالات التي شاهد الممثلين يؤدونها خلف أقنعة محايدة (غير معبرة) في مسرح "الكولمبي العجوز" والمعهد الذي نشأ على هامشه .

ويقف المؤلف طويلا أمام ما كتبه "جاستون باتي " الذي عمل معه "دكرو " عندما ترك "كوبو" .في خطاب مفتوح إلى إحدى الصحف السيارة في ربيع 1942 يتهم فيه " دكرو" بمحاولة بتر عنصر المايم من العملية الدرامية لا لسبب إلا استهواءه هذا العنصر لذاته .وبذلك- هكذا يمضي " باتي" - فان "دكرو" يشوه الفن العظيم لصالح استعراض لا يزيد وبرغم كل شيء على كونه ضئيل الشأن .ومثل هذا البتر لا يترك لنا جسدا اقتطع منه عضو بل عضو اقتطع منه جسده .

ولكن "دكرو" يرد على هذا الاهتمام في كتابه "كلمتان" عن المايم" بعبارته التي ذاعت فيما بعد عنه:"أعتقد أن الفن يزداد غنى كلها كان فقيرا في وسائله" .

ويضيف "دكرو" أنه ليس أمام المسرح الذي يدخل بالكاد في دائرة الفن، ذلك الذي يومئ إلى الشيء بالشيء ذاته إلا فرصة ضئيلة كي يكون فنا بالغا حد الكمال .ويوجز الأمر كله على هذا النحو: كي يكون الفن فنا يتعين عليه أن يعطي فكرة شيء ما عن طريق شيء آخر .ومن هنا تنهض هذه المفارقة: لا يصير الفن كاملا إلا إذا كان ناقصا .

ثم يعقد المؤلف الفصل الثالث على " جان لو بارو" وسيرا على نهجه، يصدر هذا الفصل بعبارة مقتضبة لـ "بارو": "لم أكن شخصا واحدا بل كنت ثلاثة أشخاص " .وعبارة أخرى عنه لـ " جان دورسي ": ولد " بارو " راقصا لكنه خلق من نفسه ممثلا كبيرا من ممثلي المايم، وفي نهاية المطاف وجد سعادته في أن يكون ممثلا دراميا .

ويشير المؤلف إلى أن "بارو" جاء إلى هذا العالم قبيح المنظر يحمل على كتفيه رأسا ضخما وتحمله رجلان مقوستان ، واحتاج إلى ثمانية عشر شهرا كاملا كي يتعلم المشي .ولكن العالم أشار إليه بالبنان لوسامته الفائقة ورشاقته النادرة خلال حركته على خشبة المسرح .

ويضيف أن أول لقاء ذي بال لـ "بارو" كان لقاءه مع "دلان" ويقرأ "بارو" بأن عبقرية "دلان" تكمن في أنه ظل بصفة رئيسية وبصورة دائمة إنسانا من لحم ودم . كما ظل قادرا على أن يخلق حول نفسه جوا من التتلمذ والنقاء الفني الخالص والاتساق والكمال .والسمة الرئيسية التي لمسها "بارو"في "دلان"في نفس السمة التي لمسناها من قبل في "كوبو"و "دكرو" وهي عينها التي سنلمسها في غيرهما من الحداثيين الذين نذروا أنفسهم لمذهب يقوم على النقاء الفني الذي ينطوي على بعد أخلاقي إلى جانب بعده الفني .وقد تكون رغبة "بارو" في قيادة فرقة مسرحية قد نبعت لديه من إعجابه بالقوة الفنية والروحية التي يتمتع بها "دلان " .

ولقد كتب "بارو" بصريح العبارة يقول:

كل شيء عبارة عن إشارة .من الذي دعا الآخر؟هل كنت أنا الداعي أم أن الورشة هي التي كانت داعية؟ هل كنت مخطئا عندما وصفت الأمر كله بأنة ولادتي الثانية و" دلان " بأنه والدي الثاني .وعن المايم الموضوعي الذي يفيد في خلق الإيهامات، يستند "باور"إلى المقولة التي ترى أن الوجود المتخيل لجسم ما لن ينتقل من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة إلا عندما يوحي جسد ممثل المايم بشكل ملائم بذلك الخلل العضلي الذي يفرضه ذلك الجسم عليه.

ولقد استهدف "بارو" بالأعمال التي شارك فيها مع " دكرو" أن يعود إلى النبع المقدس للدراما .إذ توخت هذه الأعمال أن تبتعد قدر ما تستطيع عن الترفيه التجاري .والحقيقة أن هذه الأعمال كانت ستبوء بالفشل لو كانت قد انغمست في الترفيه .

ولعله من الجلي أن النضال في سبيل العودة إلى هذا النبع المقدس سمة حديثة وفي نفس الوقت كلاسيكية نظرا لأن ما هو حديث وما هو كلاسيكي غالبا ما يشبه أحدهما الآخر في قوته ونقائه وفي اختياره الدقيق هدف محدد .حقا لم تكن شخصية "بارو" شخصية مثقف أو محلل ولكنه حاز خيالا خصبا وجد صداه لدى الفلاسفة الأمريكيين التأمليين والصوريين الذين غصت كراساته بأقوالهم إبان الفترة التي قضاها في الورشة.

وقاد عشق "باروا" للأدب الأمريكي إلى رواية الروائي الكبير "وليم فوكنر" (عندما تمددت محتضرة) وهي رواية انهمك "بارو" في استكشاف إمكاناتها المسرحية خلال عامه الأخير في الورشة فلقد هزته بعمق تلك الرؤية البصرية التي تتسم بها الرواية التي تدور حول أم في مرضها الأخير وترغب في رؤية تابوتها وقد نجره أحد أبنائها أمام عينيها، وفي نهاية الأمر تلفظ أنفاسها الأخيرة .ففي هذه الرواية لم يعثر "بارو" على بانتومايم وحسب بل ولحظات الصمت للمسرح الناطق .

السجن داخل الفن

ويتوقف المؤلف في الفصل الرابع أمام فن " مارسيلمارسو" وكعادته يصدر هذا الفصل بقول "مارسو": "أشعر بأنني سجين داخل فني فالجمهور لا يحب مني أن أتكلم أو أكشف عن ملكاتي الخاصة أو أتقمص شخصية أخرى خلاف شخصية " بيب " التي قدمتها في وقت سابق كما لا يحب مني أن أتجاوز نطاق "المايم"المتميز الذي ابتدعه والجمهور لا يستشعر ارتياحا لأي "مارسو" آخر سوى ذاك الذي تعود عليه وصار مألوفا لديه" .

ويمضي المؤلف إلى القول بأن "مارسو" يعد أبرز ممثل " للمايم " في عصرنا الحالي، ومع ذلك لم ينبثق فنه من الجذور الحديثة .وإذا كنا نعرف أن " المايم" الحديث والحداثة بشكل عام قد تشبعا بمؤثرات شرقية كالمسرح الياباني المعروف باسم "النو"، إلا أن " مارسو "يدين بدين أكبر في فنه للتقاليد الأوربية في الكوميديا دي لارثي"والفيلم الأمريكي الصامت .

ويرى المؤلف أن "مارسو" أصعب شخص بين الأربعة الكبار "دكرو" و"بارو" و"مارسوا" و "ليكوك"عندما يقرر المرء الكتابة عنه .فالطبيعة السريعة الزوال لعمله- وكان معظمه أداء وأقله تدريبا للممثلين وكتابة عن فنه على النقيض مما كان الأمر مع الثلاثة الآخرين- لا تقدم كثيرا مما يحتاج إليه التحليل النقدي، كما أن سرد قصة حياته بصورة أمينة لا يوفيه حقه من الأهمية في هذا المجال .ويقول المؤلف إن ذلك الشغف الذي شاع في سائر أرجاء العالم بالمايم ما كان له أن يرى النور لولا السنوات الثلاثون التي قضاها "مارسو" في التجوال في ربوع الكرة الأرضية بالإضافة إلى تكرار ظهوره أمام الجمهور بصفة دائمة في ذلك الوقت.ولكن هذا الظهور "مثالب مناقبه" كما يقول الفرنسيون .لقد شق "مارسو" المسارب في الأرض وأنار الطريق أمام الذين اقتفوا أثره حتى صار اسمه مرادفا للمايم .ولقد كتب الناقد "اريك بنتلي" في مجلة " نيو ربابليك " يوم 20 أكتوبر 1955 يقول إن "مارسو" رفع الغنائي إلى قوة الجليل .

ويمضي المؤلف إلى "جاك ليكوك" أحد الأربعة الكبار فيوقف الفصل الخامس على فنه .ويصدر هذا الفصل- كعادته- بكلمة للفنان البارع: ليس هناك شكل واحد "للمايم" .فالمايم هو كل شيء والمايم قبل كل شيء هو المسرح .ويعقد المؤلف في البداية مقارنة مستفيضة بين "مارسو" الذي قضى الشطر الأعظم عن حياته على خشبة المسرح وبين " ليكوك " الذي أمضى معظم حياته الفنية داخل جدران حجرة الدرس .وفي عام 1945 بدأ "ليكوك" العمل مع "جان داستي" في فرقة كوميديان دي جرونويك كمصمم رقصات وكممثل وكان "داستي" مفعما بالروح التي سادت "الكولومبي العجوز" بعد أن خاض غمار تلك التجربة الخصبة في مدينة جرنويل بجنوب فرنسا .وفي دروس الصباح التي يشرف عليها "داستي" عرف "ليكوك" الإمكانات التي يوفرها القناع .ولقد كتب أستاذه "داستي " يقول إن "القناع يتطلب تبسيط الإشارة وتكثيفهـا في آن واحد، فثمة شيء يدفعنا إلى الطرف الأقصى للإحساس الذي ننشد التعبير عنه .وإذا كان جسمك مرنا وكنت دارسا للأكروبات أو الرقص فان إشاراتك سوف تنطوي على أبعاد أكبر ." وهذه أفكار يجوز لنا أن نلخصها في كلمتين وحسب: بسط وكثف .ولقد وصف "ليكوك" القناع المحايد ذات مرة على هذا النحو: "في اللحظة التي ترتدي فيها قناعا يغطي رأسك تماما تكون أنت قد تغيرت إذ يكف شخصك في هذه اللحظة عن الوجود وتصبح مجرد " ما يحدث" .وكلنا نتواصل ونتخاطب بوجوهنا وبأفواهنا وأعيننا وبالأوضاع التي نعطيها لرءوسنا والخطوط التي تنخدش في بشرتنا ..إلخ أما القناع فيحذف منك ماضيك وجنسك وعرقك ولا يبقى منك سوى ما يصوره القناع .والقناع يرغمك على أن تمثل بجسمك وأن تفكر بجسمك والجسم لا يكذب" .

المايم الحديث

أما الفصل السادس فيحمل عنوان " المايم " بعد - الحديث .ويقف المؤلف طويلا أمام تعريف المايم الحديث والمايم بعد- الحديث .ويشير إلى أن المايم بعد - الحديث يعد نموا ناتئا على المايم الحديث على غرار ما يعد الرقص بعد- الحديث مثلا امتدادا للأطوار الحداثية التي مرت بفن الرقص .ولقد لقي الطور الحديث بفنون مثل الرقص والرسم والموسيقى والعمارة حظا أسعد في إلمام الناس به من الطور الحديث للمايم .

ويضيف المؤلف أن المسرح تمر به على وجه الاحتمال وبصورة متناوبة فترات من التحليل، ولعله من الثابت أن "كوبو"امتلك رؤية للمسرح ككل .ولكن المناهج التي استخدمها في تجسيدها والبحوث التي أثارها قادت إلى أكثر من خمسين عاما من تحليل الحركة وأعمال الأقنعة والمهارات الحركية والصوتية ومختلف المهارات الأخرى التي بدأت في العودة في الاندماج في نهر الفن المسرحي .والواقع أن الفترة التي أعقبت الحداثة كانت فترة توليف ولكنها لم تكن مجرد عودة إلى أفكار "كوبو"رغم ما كان يتمتع به من رؤية ثاقبة وبصيرة نافذة إذ أن جهوده كانت قد انتهت في التوقف أو على الأقل ارتأى "جيد" ذلك.

ويقول المؤلف: "إن ما بعد الحداثة تعد في أسوأ حالاتها خلطة انتقائية وتوسيعا لنطاق المستفيدين من الاكتشافات التي توصل إليها آخرون بشق الأنفس واختيارا مشتركا لرؤية خالصة للحداثة .أما في أفضل حالاتها فهي رؤية للكمال ودمج للعناصر المتباينة في كل متوافق، وعمل متآزر الأجزاء يعالج في الوقت الذي يرسل فيه جمهور المشاهدين بل والممثل نفسه إلى الوراء إلى جذورهما المشتركة ثم إلى الأمام إلى مصيرهما المشترك".وينقل المؤلف عن " بيتر شومان " في كتابه "فن في متناول الجميع.لماذا؟ " إن الفن طعام .حقا نحن لا نستطيع أن نأكل العمل الفني ولكنه يغذينا ، ولذلك فإننا نلح على ضرورة أن يكون الفن في متناول الجميع ومتاحا لكل الناس .

ويأتي المؤلف إلى الفصل السابع الذي عنوانه على هذا النحو: "الفودفيليون الجدد وممثلو المايم الجدد" ويكشف عن أن مصطلح الفودفيل الجديد بدأ النقاد في استخدامه في الآونة الأخيرة كي يصف تلك الجماعة من المؤدين الذين ينحدرون سواء بشكل مباشر أو روحي من فرقة "سان فرانسيسكو للمايم "، أي من رحم الحياة السياسية والاجتماعية والفنية للشارع الأمريكي . وينقل عن "ايرين" وهو ناقد مسرحي شهير وصفه للفودفيل الجديد بأنه الكابوكي الأمريكي .فالكابوكي الياباني الأصل مثل الفودفيل الجديد شكل صحي للمسرح وهما لا يدعيان أننا نستطيع التعبير عن كل ما يعن لنا في نص أو مايم أو رقص أو خلاف ذلك ولكنهما يقران بأن هناك لحظات يستشعر المرء فيها أن مكامن روحه تنزع به نحو الغناء أو الرقص أو المايم باعتبار هذه هي الوسائط الأمثل للتعبير عن حالة نفسية أو شعور أو خاطرة وكلاهما عبارة عن مسرح توليفي مفعم بالحياة والتلاوين والتهاجين إذ يشمل الرقص والمايم وألعاب السحر والأكروبات .

 

بيومي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب