مهد الإنسان العربي.. نظرية تحتاج إلى التأصيل

مهد الإنسان العربي.. نظرية تحتاج إلى التأصيل

عرفت أوربا الشرق العربي القديم منذ فترة مبكرة، وذلك بحكم التجاور والعلاقات الاقتصادية والتاريخية والدينية، ولكن الأمر تغير بعد ظهور الإسلام حيث انتشر شرقاً وغرباً، وبذلك حقق انتصارات عظيمة، نظرت إليها أوربا بعين الحسد والحقد.

وفي عصرنا الحالي تمخض عن هذا التفاعل مع العالم الإسلامي مذاهب فكرية وسياسية وعسكرية: وعقائدية- فكرية في دراسة اللغات الشرقية وخاصة اللغة العربية منها ممثلة في نصوص القرآن الكريم لتأليب الرأي العام الأوربي ضد العالم الإسلامي. وسياسية في تكوين اتجاهات في أوربا وصل قادتها إلى سدة الحكم في بلدانهم، وعسكرية في خلق الأداة القادرة على تنفيذ مآرب رجال الفكر والسياسة معا في استعمار العالم الإسلامي. وتم ذلك كله أيضا في ظل "علم اللاهوت الكنسي" بهدف التبشير بحقائق المسيحية المباركة وفي ظل "علم التوراة" لاكتشاف سر اللغة العبرية المقدسة حيث كانوا يعتقدون أن اللغة العبرية هي أم اللغات الشرقية وأن العربية لم تكن إلا لهجة من لهجات اللغة العبرية. ولكن بعد التعرف إلى أسرار اللغة العربية، وإلى ثروتها اللفظية الهائلة، تبين لهم أن اللغة العربية لغة مستقلة يمكن تمييزها عن العبرية واللغات الشرقية الأخرى. وباختصار شديد فإن علماء اللاهوت الكنسي كانوا في مقدمة الباحثين في هذا المجال، مستندين في معرفتهم إلى أسفار التوراة، وما جاء في سفر التكوين خاصة، ولذلك فلا عجب أن يدرك شولتسر النمساوي منذ عام 1871م أن الشعوب التي عاشت في الوطن العربي ذات أصل واحد، معتمداً في رأيه كليا على ما جاء في التوراة "سفر التكوين". حيث أطلق شولتسر اسم الشعوب السامية على تلك الشعوب التي تنحدر من صلب سام بن نوح بعد حدوث الطوفان.

الرموز المسمارية

وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، تمكن العلماء من فك رموز الكتابة المسمارية، وبذلك استطاعوا أن يدرسوا اللغات الأكدية والبابلية والآشورية. وبعد دراسة لغوية مقارنة بين هذه اللغات وكل من اللغات العربية والعبرية والأثيوبية، تبين لهم أن هذه اللغات تتشابه في نحوها ومفرداتها، وأهم خاصة لغوية تشترك فيها هذه اللغات هي خاصة الاشتقاق، فالكلمة بأبسط صورها مؤلفة من ثلاثة أحرف ساكنة "المصدر أو الجذر" ومن هذا المصدر نشتق اسمي الفاعل والمفعول... إلخ، وصيغ الصرف هذه التي تتفرع بها الكلمات من المادة الواحدة، تجري في كل هذه اللغات على خطة لا تختلف في جوهرها. يضاف إلى هذا وجود بعض الأصوات الحلقية التي تنفرد بها هذه اللغات ولا توجد في لغة غيرها مثل أصوات "العين، والحاء، والهاء". ولذلك أطلق العلماء على هذه اللغات اسم "اللغات السامية"، حيث وضع شولتسر أسس هذه التسمية عام 1781م. وافترض الباحثون في هذا المجال، أن هذا التشابه اللغوي كان نتيجة لوجود الساميين في منطقة واحدة قبل هجرتهم إلى مواطنهم الجديدة، ولما كانت الغالبية العظمى من الباحثين علماء لاهوت، لذلك وضعوا نظرياتهم طبقاً لما جاء في التوراة عامة وما جاء في سفر التكوين خاصة، وقد ترتب على ذلك العديد من النظريات بعضها يعتمد في جذوره على الجانب الأسطوري وبعضها يستمد قوته من البحث العلمي. ولعل أهم هذه النظريات هي التي تجعل من الجزيرة العربية مهدا للحضارة السامية.

الجزيرة مهد الحضارة

وقد لقيت هذه النظرية تأييداً كبيراً من الباحثين أمثال كاتياني سبرنجر، موسكاتي، ماير، فيلبي وغيرهم. وقد بنى أصحاب هذه النظرية آراءهم على ما يلي:

1- تغير مناخ شبه الجزيرة: العربية من الرطوبة إلى الجفاف: إن وجود الوديان الجافة الكثيرة في شبه الجزيرة العربية في وقتنا الحالي مثل وادي الحمث الذي بنيت مدينة يثرب على أحد فروعه وكان يصب هذا النهر في البحر الأحمر، ووادي الرمة الذي كان ينبع من مكان يقع إلى الشرق من مكة ويصب في بحر عمان، ووادي الرحان، في شمال شبه الجزيرة العربية، إن وجود مثل هذه الوديان الجافة الآن وغيرها، يؤكد أن الجزيرة العربية كانت منطقة مطيرة خلال عصر البلايستوسين، ولكن مناخها أخذ يتجه نحو الجفاف التدريجي ابتداء من العصر الحجري القديم الأعلى "35000- 12000 ق. م"، ويرجع بعض العلماء سبب هذا التغير في مناخ شبه الجزيرة العربية إلى انحسار الجليد عن أوربا من الجنوب باتجاه الشمال. وفي هذا يقول جوردن شايلد ما يلي: حين كان شمال أوربا مغطى بطبقات من الثلوج إلى مسافات بعيدة، وكانت جبال الإلب والبرينس مغطاة بجبال من الثلوج، فقد كان الضغط الكبير فوق القطب الشمالي يجعل الأعاصير الممطرة التي تهب الآن علي أوربا الوسطى، تتخطاها. وبذلك كانت تصل إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، وتواصل سيرها دون أن تنزفها جبال لبنان، فتصل إلى بلاد ما بين النهرين وجزيرة العرب، وإلى فارس والهند. وهكذا تلقت الصحارى التي، تعاني من العطش الآن أمطاراً بانتظام. ولم تكن الأمطا ر الذاهبة بعيداً إلى جهة الشرق أغزر مما عليه الآن فحسب، بل كانت موزعة على جميع فصول السنة بدلاً من أن تكون مقصورة على فصل الشتاء.

وقد كان طبيعياً أن تكون الأراضي الخصبة المغطاة بالعشب في شمال إفريقيا وجنوب آسيا مأهولة في ذلك الوقت بل بالسكان بل ومزدحمة بهم. وانه معقول أن نتوقع أن الإنسان كان بمقدوره أن يتقدم تقدماً عظيماً في مثل تلك البيئة الملائمة.

2- انطلاق هجرات مؤكدة من الجزيرة العربية: يدعم أصحاب النظرية التي ترى في شبه الجزيرة العربية مهد الشعوب السامية المهاجرة نظريتهم، بهجرات مؤكدة انطلقت من شبه الجزيرة العربية في وقت قريب نسبياً من عصرنا مثل هجرة الأنباط، الغساسنة والمناذرة.

3- الهجرة البشرية من المناطق الجافة إلى المناطق الخصبة: يلخص جواد علي هذا الدليل بقوله: لا يعقل أن ينتقل سكنة الجبال والزارعون من حياة الحضارة والاستقرار إلى البداوة، بل يحدث العكس، ولما كانت الشعوب السامية قد قضت في أطوارها الأولى حياة بدوية. فلا بد أن يكون وطنها الأول وطناً صحراياً، و جزيرة العرب تصلح أن تكون ذلك الوطن أكثر من أي مكان آخر.

نحو نظرية عربية

ولا بد لنا فى هذا المجال أن نقدم دراسة عن المهد الأول للشعوب العربية تقوم على أساس علمي بحت، ومنهجية تاريخية صحيحة. فإننا إن لم نفعل، فسنبقى عالة على آراء الغرب، ولن نرى العتق العلمي أو مطلق العتق في يوم من الأيام. ولن نتخلص من التبعية لهم مهما طال الزمن. ولا عذر لنا في هذا بعد كشف النقاب عن آسرار الكتابات العربية القديمة كلها تقريبا. وبعد تعلمنا هذه الكتابات وتعلمنا أسوار اللغات التي كتبت بها. إنني على يقين من أن أي دارس للحضارات العربية القديمة يمتلك من المعرفة اللغوية والكتابية والأثرية أكثر مما كان يمتلك جويدي الذي عاش في القرن الماضي (1844- 1935) م ووضع نظريته، التي تعد أقدم نظرية في مهد الشعوب السامية على حد قوله عام "1879 م". ومما يشجع على القيام بدراسة علمية عن المهد الأول للشعوب العربية القديمة أن الباحثين الأثريين اكتشفوا كثيراً من المدن والممالك القديمة في وطننا العربي، واستخرجوا منها آلاف الرقم والقطع الأثرية. وكل ما كشف إلى الآن هو في مصلحة دراسة عربية تدحض ما جاء به التوراتيون، لأن ما جاءوا به بني بلا أساس، صاغوه من خيال أسطوري، لا وجود له في الواقع.

وقبل التطرق لهذه الدراسة لا بد من نقض بعض التسميات أو المفاهيم التي عاشت بين ظهرانينا فترة ليست قصيرة، أخذناها عن الغرب، ورددناها، دون أن نحاول ولو مجرد مناقشتها. من هذه المفاهيم "السامية"، "الهجرات السامية"، أما فيما يتعلق بالتسمية السامية، فأول من أطلق هذه التسمية العالم النمساوي شولتسر عام 1781م، وواضح أن شولستر قد اقتبس تسميته هذه من التوراة. فقد أطلق اسم الشعوب السامية على تلك الشعوب التي عاشت في منطقتنا، والتي انحدرت حسب أسطورة الطوفان في التوراة من صلب سام بن نوح. فقد جاء في التوراة "سفر التكوين- الإصحاح 10 "21- 31": وولد لسام أيضا بنون، وهو أبوجميع بن عابر أخو يافث الأكبر، بنو سام عيلام وأشور وأرفكشاد ولود وآرام. وبنو أرام عوص وحول وجاثر وماش، وأرفكشاد ولد شالح وشالح ولد عابر... إلخ. وهكذا يتبين لنا أن عابر وأشور وأرام أولاد سام، قد انحدر عنهم العبريون والآشوريون والآراميون.

شعوب عربية لاسامية

يتضح لنا من دراستنا السابقة بطلان التسمية السامية، ولو انطلقنا من واقع الوحدة الحضارية للمنطقة العربية التي تجلت في وحدة اللغة والدين والفن، هذه الوحدة الناتجة عن الأصل الواحد والمحيط الجغرافي الواحد لأمكننا إطلاق تسمية الشعوب العربية القديمة على أسلافنا الذين عاشوا في وطننا العربي منذ أقدم العصور إلى ظهور الإسلام. إذ إن شبه الجزيرة العربية سميت كذلك لأن العرب أصحاب اللغة العربية وجدوا فيها. وقد وردت تسميتهم العربية منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، إذ وردت في نصوص شلمناصر الثالث الآشوري التي تصف انتصاره على الحلف الآرامي في معركة قرقر الأولى "854 ق. م"، وأخيراً ساد العرب وسادت لغتهم بعد ظهور الإسلام الحنيف وسميت شعوب الوطن العربي باسمهم إلى يومنا هذا. فإذا وجدت مثل هذه الوحدة العرقية واللغوية والحضارية بشكل عام، فلماذا لا نطلق على أسلافنا من أكديين وآشوريين وعموريين وكنعانين وآراميين اسم الشعوب العربية القديمة!؟

ولو قدمنا نبذة بسيطة عن تاريخ تسميات هذه الشعوب لاعترفنا بمشروعية هذه التسمية. فقد سمي الأكديون كذلك نسبة إلى عاصمتهم أكد وعندما انتقل مركز الثقل السياسي إلى بابل سمي البابليون كذلك نسبة إلى عاصمتها، فهل نحن أمام شقين مختلفين حقا الأكدي والبابلي؟. ألم تتغير العاصمة في وطننا العربي أكثر من مرة؟ ألم تقم سلالات حاكمة تشكل دولاً كالدولة الأموية في دمشق والدولة العباسية في بغداد؟. أما الشعب فكان نفسه في كلتا الدولتين. هذا الأمر يمكن أن ينطبق تماماً على الشعوب العربية القديمة، التي أسست عواصم لها نتيجة لعوامل اجتماعية واقتصادية واستخدمت لغة شقيقة للغة العربية، وكانت كل مظاهرها الحضارية متشابهه في اللغة أم الفن أم الدين. ولذلك فأني أرى من المشروع تسميتها "الشعوب العربية القديمة".

أما فيما يتعلق بالهجرات السامية، فقد اعتاد الباحثون أن يقسموا هذه الهجرات إلى قسمين رئيسين وهما: هجرات ما قبل التاريخ، هجرات العصور التاريخية. وفي كل من الحالتين يرجعون سبب الهجرة إلى الجفاف الذي حل بمنطقة الشرق العربي، القديم، حيث أضطر الإنسان العربي إلى أن يهاجر من شبه الجزيرة العربية إلى أحواض الأنهار الكبرى مثل دجلة، الفرات، العاصي، النيل، ويفترض الباحثون أن هجرات ما قبل التاريخ بدأت في العصور الحجرية، حيث أصبح الجفاف الذي بدأ منذ العصر الحجري القديم الأعلى "35000 سنة ق. م" حقيقة واقعة منذ العصر الحجري المتوسط " 12000 سنة ق- م" وقد نتج عن هذه الهجرة زيادة عدد القرى خلال العصر الحجري الحديث في بلاد الشام وفلسطين زيادة ملحوظة. ولكن الباحث الدقيق المنصف لا يرجع زيادة عدد المستوطنات إلى هجرة خارجية، فوصول الإنسان إلى مرحلة بناء مستوطنة والاستقرار بها، سبقه تطور استغراق آلاف السنين وشمل ثقافة الإنسان، التي تجلت بشكل مظاهر حضارية فرضتها حاجة الإنسان. فإنسان هذه المنطقة أبدع الزراعة في العصر الحجري الحديث "8000 سنة ق. م" ولذلك اضطر إلى الاستقرار الذي فرض عليه بناء القرى، ومن هنا جاءت الزيادة في المستوطنات السابقة. وهكذا فإن بناء المستوطنات لم يتم بين عشية وضحاها، ولا يمكن لمهاجرين أن يبدعوا هذه الظاهرة الحضارية. ومن المؤكد أن زيادة عدد المستوطنات في بلاد الشام، قد نتج عن إبداع الزراعة، حيث تجبر الزراعة ممتهنها على الاستقرار الذي يتطلب بناء مسكن، وهكذا نشأت القرى حمل الكثيرة في العصر الحجري الحديث في بلاد الشام، بعد أن استقر الكثيرون في هذه المنطقة.

الهجرات التاريخية

وأما فيما يتعلق بالهجرات التاريخية، فالمؤرخون يفترضون أنها خرجت من شبه الجزيرة العربية في مطلع العصور التاريخية، أو قل من مهد مفترض آخر غير شبه جزيرة العرب، وذلك بسبب استمرار الجفاف الذي أدى الى التصحر وضيق الأرض. حيث انطلقت موجات المهاجرين الموجة إثر الموجة ولكن بفاصل نحو ألف عام، نحو أحواض الأنهار الكبرى في بلاد الشام والعراق ومصر وشرق إفريقيا وشمالها. وكمثال فقط نورد ما قاله الباحث جواد علي: "وقد تصور القائلون أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، بلاد العرب كخزان هائل يفيض في حقب متعاقبة، تبلغ الحقبة منها ألف عام بما يزيد على طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم موجات أطلقوا عليها "الموجات السامية" ويرتب الباحثون هذه الموجات من الهجرات حسب تاريخ وقوعها، ضمن جدول زمني يبدأ في الألف الرابعة قبل الميلاد وينتهي في القرن السابع الميلادي، حسب الترتيب التالي: الهجرة الأكدية، الهجرة الآشورية، الهجرة الكنعانية، الهجرة العمورية، الهجرة الآرامية، الهجرة النبطية، هجرة الغساسنة، هجرة المناذرة هجرة العرب المسلمين".

وقبل أن نناقش أمر هذه الهجرات، لا بد من بحث تاريخ الاستقرار في وطننا العربي الكبير لنعرف من الذي هاجر، وبحث جغرافية هذا الوطن الذي عاش فيه الإنسان منذ العصور الحجرية لنعرف من أين وإلى أين هاجر الإنسان؟ ففيما يتعلق بتاريخ الاستقرار، فقد أثبتت معظم الدراسات أن الإنسان أبدع في مجال الزراعة فى بلاد الشام، حيث تعرف أولا النباتات البرية من قمح وشعير لجودها في أكثر مناطقه واعتمد عليها في غذائه. ويعد النطوفيون الذين عاشوا في وادي النطوف إلى الغرب من القدس الحالية أول من صنع المنجل والأدوات الزراعية الأخرى من مجاريش وهواوين وغيرها، وذلك بدءاً من النصف الثاني من العصر الحجري المتوسط 10000- 8000 ق.م. ومع بداية العصر الحجري الحديث "8000- 3200 ق. م" تعرف الإنسان في وطننا العربي الزراعة، حيث صار ينتج غذاءه بنفسه، وذلك عن طريق زرع الحبوب وتربية الحيوان. ومنذ هذا التاريخ انقسم المجتمع في وطننا العربي إلى قسمين رئيسيين، القسم الأول يضم الناس الذين استقروا في قرى ومارسوا الزراعة، والقسم الثاني يضم الناس الذين امتهنوا تربية الماشية ولم يستقروا، بل استمروا في تنقلهم وترحالهم مع ماشيتهم، وقد عاش المجتمعان الواحد منهما بجانب الآخر إلى يومنا هذا. وهـكذا أستطيع القول: إن حياة التنقل والترحال، قد مارسها جزء من المجتمع وقد يكون الجزء الأصغر، أما الجزء الأكبر من المجتمع العربي القديم فقد استقر في مدن كبيرة أو صغيرة منذ بداية العصر الحجري "8000 ق. م" واستمرت هذه المدن عامرة بأهلها دون انقطاع لفترات طويلة، ولم يسجل التاريخ أن سكان مدينة عربية هاجر منها أهلها إلى غيرها من مناطق الوطن العربي. بل إني أستطيع القول، إن هذه المدن عاشت في رغد من العيش حيث كان بناتها يختارون المكان الحصين الذي يسيطر على عدة طرق تجارية وسهل زراعي خصيب لبناء مدنهم، وهكذا ازدهرت أكد وبابل وآشور وأوغاريت ودمشق وجبيل وتدمر والبتراء وتيماء والعلا ومكة والمدينة ومأرب والحيرة وبصرى وغيرها من المدن.

بيت العرب

وفيما يتعلق بجغرافية وطننا العربي، فإن الباحث الجغرافي يرى هذا الوطن محاطا بمظاهر طبيعية جعلته أشبه ببيت، إن ألمت بناحية من نواحيه ملمة، لا يستطيع الإنسان الهجرة إلى خارجه بل يبقى ضمن هذا الوطن. فحدود هذا الوطن الشمالية جبال طوروس وحدوده الشرقية جبال زاغروس والخليج العربي وحدوده الجنوبية المحيط الهندي، أما في الغرب فقد وجد البحر المتوسط والبحر الأحمر ولكن وجدت بهما منافذ مثل صحراء سيناء ومضيق باب المندب. استطاع الإنسان العربي اختراقها والوصول إلى مصر وشرق إفريقيا وشمالها، وبذلك أصبح الجزء الإفريقي من وطننا العربي عربياً منذ أقدم العصور، وأصبح المحيط الأطلسي الحد الغربي لوطننا، فحدود مصر مثلاً لا تقف عند البحر الأحمر، لأن مظاهر السطح لا تتغير إلا عند جبال طوروس وجبال زاغروس وصحارى شبه الجزيرة هي جزء من صحارى إفريقيا فصلت بينهما هذه الحفرة الانهدامية المسماة البحر الأحمر، التي أصبحت وسيلة وصل لا وسيلة فصل.

وهكذا نستطيع القول بناء على دراستنا السابقة إن حركة الإنسان العربي داخل وطنه العربي لم تكن هجرة، بل أشبه بمن ينتقل من زاوية في بيته إلى زاوية أخرى. لقد حرص الباحثون الغربيون على التبشير بهجرة جديدة كلما تغيرت العاصمة لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، في حين أن الأمر لا يتعدى قيام سلالة حاكمة جديدة تنتمي إلى الجنس نفسه دون أي تغيير سكاني أو حضاري في أي ظاهرة حضارية واندماج كامل بين سلالة الحاكمين الجدد والمحكومين. لقد حكمت في مصر ثلاثون سلالة حاكمة، فهل هاجر إلى مصر ثلاثون شعباً؟ ثم إن تسمية السلالات الحاكمة العربية باسم عاصمة بنتها، أو إله عبدته، أو طبقاً لصفة بارزة تتصف بها أرضها لا يعني أنها ليست عربية الأصول والحضارة.

وأخيراً فحركات الهجرة أو الانتقال من مكان إلى آخر في الوطن العربي وقعت في أكثر من مكان فقد هاجر العموريون من منطقة الفرات الأوسط إلى بلاد الرافدين وبلاد الشام، وكذلك فعل الآراميون في تنقلاتهم حيث أقاموا ممالك في بلاد والرافدين، وكذلك فعل الشمسو حور إلى آخر في مطلع الألف الثالثة حيث هاجروا إلى مصر من جنوب شبه الجزيرة العربية، وساحل عمان وكذلك الهكسوس قبيل منتصف الألف الثانية قبل الميلاد حيث هاجروا من فلسطين إلى مصر.

من دراستنا السابقة نستنتج، أنه لم يوجد في يوم من الأيام ذلك المهد الأول للشعوب العربية القديمة، الذي بحث عنه علماء الغرب كثيراً، وأن الشعوب التي حكمت في بلاد الرافدين، وبلاد الشام لم تكن أكثر من سلالة حاكمة حكمت دولته سميت باسم العاصمة التي بنتها، ولدينا مثل هذه الظاهرة في تاريخنا العربي الإسلامي، فقد حكمت السلالة الأموية الدولة الإسلامية وقد أطلق عليها الباحثون اسم الدولة الأموية، وكذلك فعل العباسيون بعدهم مع العلم أن الشعب هو نفسه في كل من الدولتين. وحدث الشيء نفسه في تاريخنا القديم فقد تغيرت العاصمة أكثر من مرة لأسباب سياسية واقتصادية وزالت سلالات حاكمة وبرزت أخرى ولكن الشعب بقي نفسه، تدل عليه مظاهر حضارته التي بقيت دون تغيير سواء في اللغة أم الدين أم الفن وبذلك يكون الوطن العربى الكبير هو المهد الأول للشعوب العربية القديمة.

ونحن لسنا غرباء في بلاد العام أو الرافدين أو مصر أو شمال إفريقيا، كما حاول أصحاب نظريات الهجرات السامية أن يقنعونا، ليرضوا بذلك اليهود الذين جاءوا غرباء إلى فلسطين، حيث سكنها الكنعانيون العرب قبلهم بآلاف السنين. وآثارهم تملأ فلسطين من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، ومدنهم التي أقاموها مازالت قائمة إلى يومنا هذا تشير إليهم بأسمائها وآثارها.

 

محمود عبدالحميد أحمد