وردة المستحيل

وردة المستحيل

لقد طفت في الأزقة طفلاً وكهلاً وأنا أتنصت إلى وعيد الحلاج وهو يساق إلى الصلب, وسمعت المتنبي وهو يتمتم بأبياته راسماً دوائر نارية ومشعلاً الحرائق في كل مكان, والقتلة يطاردونه من حلب إلى شعب بوان ومن الكوفة إلى القاهرة. أتذكره وهو يفضح أول دكتاتور من ورق, كافور (الشمس السوداء). وعندما بدأت بقراءة (خريف البطريرك) لجارثيا ماركيز كنت أتذكر المتنبي وكافور وأضحك.. ومازلت أضحك وأسافر وأنا في عقر داري, ومنذ كنت طفلاً بدأت هجرتي من حيث السندباد انتهى واكتشفت أن النص الحقيقي ليس هو النص الذي كتب بل هو النص الذي لم يكتب بعد. وعندما انتهي من كتابة قصيدة أحس أنها ليست القصيدة التي أنا بصددها فأبدأ من جديد.

وهكذا مرت حياتي بين بدايات جديدة لا حصر لها, وظل النص الحقيقي الذي كنت أريد أن أكتبه لم يكتب بعد, وكل هذا الفضاء المسكون بالرحيل والحركة والصرخات والكلمات والأحزان هو الذي منحني القدرة على أن أجدد نفسي, أن أكون الحاضر والمستقبل. لقد تداخل الزمن بالزمن والوجه بالوجه والمرآة بالمرآة.. فلو لم أكن أنا لكنت أنا.

وكان شأني وأنا أكتب الشعر لا كشأن ذلك الذي يكنز المعرفة, وكنت كلما انتهيت من كتابة قصيدة أشعر بأني سحابة أمطرت كل ما عندها وظلت تنتظر موسماً آخر لكي تستعيد عافيتها فتمطر من جديد, وقد أحسست بمحنة كبيرة عندما نشرت ديوان (أباريق مهشمة) فقد كنت أتجول بين الوهاد والوديان والقمم لكي أبدأ رحلتي من جديد, وكنت أحس أنني لم أستعد توازني بعد هذا الديوان إلا بعد كتابة ديوان (النار والكلمات) الذي كان خاتمة لمرحلة ثانية من حياتي الشعرية, وقد تخلصت فيها مما ترسب في داخلي إلى الأبد, وكان علي أن أبدأ من جديد. وذات يوم وأنا أتجول في أزقة روايات نجيب محفوظ وبالقرب من مسجد (سيدنا الحسين) أضاءت ذاكرتي بعض صور الطفولة التي كنت أعتقد أنها قد اختفت إلى الأبد, وكان رمز الحلاج والمعري وولدي علي وسواهم قد تداخلت وشكلت ثالوثاً في ذاكرتي, وقبل أن أعود إلى البيت كان الحلاج أو قصيدته تولد في ذهني, وقد شعرت أن ذاكرتي, التي ازدحمت بغبار السنوات كانت تعج بصور ورموز كثيرة كان يطمس بعضها الآخر وكان علي أن أضع الإشارات والعلامات في الذاكرة لكي لا أعيد أو أستعيد ما كتبته.. كنت أقيس المسافة بالكلمات كما كان يفعل ت. س. إليوت عندما كان يقيس الزمن بملاعق الشاي, هكذا كانت حياتي كلها محواً وكتابة وكان مثلي مثل من يقوم بالفتح الروحي لمدينة أو قصيدة وكان عندما يصل إليها يرى أنها ليست هي المدينة أو القصيدة التي يريد كتابتها, وكان يتملكني الحنين أحياناً لكي أعود إلى المدينة أو القصيدة ولكن عندما كنت أعود إليها أرى أنها قد احترقت وتحولت إلى رماد, وكنت كمن يسير في متاهة ذات مائة باب وكان عليه أن يجتاز المائة باب ليخرج من المتاهة ولكنه كان يكتشف أن المتاهة ليس لها منفذ.. لقد كتب على الشاعر أن يعيش في متاهته ذات المائة باب دون نهاية سعيدة, وربما تكون القصيدة وطن الشاعر ولكن عن أي قصيدة أتحدث. الأولى, الثانية, العشرين, المائة.. أم القصيدة التي لم تكتب بعد..? لهذا أرى أن الشاعر يعيش بلا وطن, أي أن قصيدته أو وطنه الحقيقي لم يحج إليه بعد ولهذا فإنني لم أهاجر طلباً للمتعة أو للسياحة كما يعتقد البعض لقد كنت أواجه الشاشة البيضاء في كل المدن التي زرتها وكنت أتردد على المقاهي ومحطات القطارات والطائرات لكي أنتظر الذي يأتي ولا يأتي, ولكنني بقيت أمارس هذا الفعل الإنساني بإصرار لأنني أعتقد أنه سيأتي ذات يوم لكنني لن أراه, هكذا هو قدر الشاعر ومن هنا جاءت مأساة المتنبي (على قلق كأن الريح تحتي) فالذي قال هذا البيت هو المتنبي الحقيقي الشاعر والإنسان وليس الذي وقف على أبواب الحكام والأمراء فالذي وقف هناك هو حذاء المتنبي لأنه كان يترك حذاءه دائماً هناك ويرحل مع الريح. لقد شعرت بخيبات أمل كثيرة, وكنت أرى أن البؤس الإنساني أو الليل في كل مكان وإن اختلفت أقنعة هذا الليل, وكنت أحس أن العالم يقع في ثنائية خطيرة على حساب الفقراء والمستضعفين وإن ثورات الفقراء يسرقها السياسيون المحترفون, لقد كنت في حوار داخلي وكنت أبحث عن الحقيقة, وكما يقولون فقد كنت أبحث عن المنقذ من الضلال ليس بالنسبة لضلالي فضلال الشاعر مفيد له, لأنه يضعه في أرض خرافية, لا يتاح لكل الناس الوقوف فيها, وقد أثبتت أحداث نهاية القرن العشرين ما كنت أحس به وأتحدث إلى أصدقائي (في سنوات بعيدة) حيث كان البعض منهم يصاب بالدهشة عندما كنت أقول ما أقول وأؤكد هنا أن التمرد قد ولد في داخلي مع صرختي الأولى وأنا في يد القابلة..? أرعبني النور الذي صدم عيني لأول مرة وأنا أخرج من جوف ظلام العصور الطويلة, حيث مشاهد البؤس (بؤس الطبيعة والإنسان والحيوان), بؤس التاريخ الذي سحقته مطارق الغزاة.

من جهة أخرى استطيع القول إن تجربتي الثقافية والروحية أدت بي إلى عدم تعصبي لأي اتجاه شعري وعدم التوقف عند أية مدرسة من مدارس الشعر. وقد التقيت مع أبطال الأساطير والتاريخ, الأحياء منهم والأموات, في مفترق طرقات العالم المختلفة. وقد تقبلتهم كلهم, الصوفي والعاشق والمحارب والثائر والمفكر, تقبلتهم بشكل وجودي, باحثاً عن لباب الثقافة الحية في تجربتهم. ولعل السبب في ذلك أنني أنا نفسي أعيش شعري وثقافتي بشكل وجودي, أي دون شروط ولا مقدمات.

فمن الناحية الأيديولوجية, أنا تقدمي دون شرط أن أكون ماركسياً, ومسلم عربي دون شرط أن أكون سلفياً.

الأيديولوجيا لا تفرض علي شروطها وكذلك الفقهاء. في رأيي أن الفنان مع حركة الإبداع التاريخي والفني ومع كل ما يصب في حركة الإبداع هذه, فهو لا يقف بين قوسي ضد أو مع اللذين يشيع استعمالهما في الحياة الثقافية العربية ـ أحمر/ أخضر, أسود/ أبيض, تصنيفات لا تهمني المستقبل سيطرح شروطاً إنسانية جديدة. كما أنه يمكن الاستفادة بالمعرفة الإنسانية والاستعانة بخبرات الشعوب دون الوقوع في القيود والأغلال لهذه المعرفة أو تلك , أي يمكن الاستفادة من إنجازات الفكر الإنساني دون التحجر في الثوابت التي وصل إليها.

أقفاص أيديولوجية

العرب كأمة مطالبون بالإبداع في سياق الإبداع الإنساني الحضاري دون أن يكونوا تابعين ولا مستهلكين ودون أن يحبسوا أنفسهم في أقفاص النظريات والأيديولوجيات التي تؤدي دورها وتنسحب من المسرح لتحل أخرى محلها أي أن هناك عملية ثورة في الثورة, كما أن هناك عملية إبداع في الإبداع ضمن كل الاجتهادات الإنسانية.

وفي هذا الصدد أرى أن التراث يسعف إسعافا كبيراً في تمثيل الحداثة, فالتقارب بين الشعر الصوفي والسريالي جعل الشعر يكمل بعضه بعضاً.

ما كان ينقص المتصوفة المسلمين ـ الشعراء بخاصة ـ هو الرؤيا السريالية للعالم. ولهذا تجد في شعرهم صراعاً بين الخضوع للموروث التقليدي والخروج عليه في كثير من الصور والمعاني أما من حيث العطاء فالطريف أن الحركتين متعاكستان, إذ إن كشوفات السريالية النظرية أكبر من إبداعاتها الشعرية.

لقد قادتني التجربة إلى التشخيص في الشعر, عملية السفر خلال الكلمات هي التي قادتني إلى كل التقنيات الفنية دون وضعها في الحسبان منذ البداية. في لحظة ما تم التطابق بيني وبين الحلاج في شكل خطير جداً, فلم أجد بداً من كتابة القصيدة بهذا الشكل.

إن النقلات من مدرسة إلى مدرسة ومن مذهب إلى آخر تعود إلى خصوبة حياتي وأسفاري.

ثقافتي متنوعة وموسوعية ولا تقتصر على الأدب والشعر فحسب, أيضاً لدي خواص ذاتية, فأنا لا أعيش الشعر أثناء كتابة القصيدة فقط بل أعيشه خلال حياتي اليومية فهي مليئة بالتأمل والتفكير, ليس لدي حياة اجتماعية تشغلني عن وظيفة الشاعر. عندي شعور بالحرية هائل لا مثيل له, ثمة تطابق بين عالمي الجواني والبراني دون اختلاف ولا تناقص.

أعبر عن آرائي وأفكاري بحرية كاملة ولا أجد أية عوائق تعوقني, لا يوجد شرطي صغير في رأسي على الإطلاق. أبتعد عن كل ما يؤثر على حياتي كشاعر, أحاول حماية مملكة الشاعر وحراستها بدقة بعيداً عن أعين الفضوليين والطفيليين, كما أن هناك تطابقاً بين سلوكي الاجتماعي في الحياة اليومية وبين سلوكي كشاعر يطرح رؤيا.

أما عن المنفي, تلك المفردة التي أهينت كثيرا هذه الأيام فأود القول بأنني كنت قد كتبت في قصيدة لي عنوانها (مدارات شرقية على لسان نهر الخابور: "إن المنفى أصبح وطناً", وقلت في قصيدة نشرت في ديوان (مملكة السنبلة), (العالم منفي في داخل منفي والناس رهائن) كان ذلك شعوري منذ أن وعيت هذه الدنيا, ذلك لأن الشرط الإنساني لم يتحقق, وكذلك الأمر بالنسبة للعدالة والديمقراطية, وهكذا أرى شعوب الأرض كلها منفية داخل أوطانها, وهؤلاء المنفيون في أوطانهم يضمهم منفى آخر هو هذا الكون, ومن ثم فإن السفر داخل المنفى الصغير أو الكبير يعتبر نوعاً من الترف والنزهة ليس في حدائق الآلهة, بل في صحاري التعاسة.

لقد أطبق السياسيون المحترفون, والقتلة والطغاة والغزاة على العالم منذ فجر الإنسانية الأولى, ولا يزالون يمارسون لعبتهم, ونحن نعيش تحت وصايتهم, وبنادقهم, ورحمتهم ـ أحياناً ـ المشكوك فيها, ولقد قال الإمام علي: إن أشد أنواع النفي هو أن تكون منفياً في عقر دارك, أو وطنك وأنت فقير. وكان ذلك أول سهم أشار إلى النفي في أدبنا العربي, بالرغم من منفى طرفة بن العبدالذي سبقه, وهو منفى القبيلة أو الطائفة.

إن وحدانية الإنسان في هذا العالم, وتركه معرضاً للشقاء الأبدي دون أن يختار اسمه, أو لونه, أو جنسيته, ذلك هو ألف باء النفي, فما بالك بياء النفي؟!

لقد رأيت الصورة الكلية للشقاء الإنساني بعد أن كنت لا أرى إلا الجزء الصغير من هذا الشقاء, كما أنني نعمت ببعض السعادة الهاربة, وببعض الحب والفهم, وكنت أعود ويدي مبللة بالمطر أو بحفنة ثلج, أو بزهرة قطفتها من أحد جبال العالم, أو بصورة إمرأة أحببتها, أو قصيدة كتبتها.. السفر أو الغربة أو المنفى عمق إحساسي بشقاء البشر وعذاباتهم وطموحاتهم, وسعادتهم المسروقة كما أنني اكتشفت جوهرة الأمل الإنساني مهما سحق وهزم وحطم فإنه يعود أقوى مما كان, وعليه فإنني لست مع رأي الشاعر العربي القديم الذي شبه الإنسان بالزجاج الذي يكسر ولا يعاد سبكه, فالإنسان ـ وهو يتقدم نحو حتفه ـ يضيف إلى عملية التجدد طاقة إنسانية جديدة, ويتحول إلى سماد إنساني في بستان المستقبل.

لقد أحسست بالنفي قبل النفي نفسه, أي أنني أحسست بأنني منفي منذ طفولتي, سواء في القرية أم في المدينة واكتشفت أن العالم ما هو إلا منفى داخل منفى آخر, ولهذا عندما وجدت نفسي أمام النفي الحقيقي شعرت كأنما كنت أصعد درجاً معروفاً لي من قبل, أو كأنما كنت أنتقل من أرض إلى أخرى في الذاكرة, كنت أحمل المنفى في داخلي, فعندما يولد الإنسان ويعيش في ظروف استلاب اجتماعي وثقافي وسياسي.. إلخ يحس كأنه طائر أو كأنه سحاب في الظاهر, لأن هذين الكائنين يحصل كل منهما على حريته بالرحيل, ولعلي بسبب ذلك أحسست بأني أكثر حرية عندما جربت النفي في البداية, ولكني بعد ذلك وجدت نفسي محاطاً بصعوبات متراكبة وتزايدت أغلالي ولكن مع بعض اختلاف, ذلك أن مشاكل البلد الذي كنت منفياً فيه لم تكن مشاكلي, وهذا الإحساس أعطى بالطبع بعداً جديداً لتجربتي الإنسانية والشعرية.

أدب سحري

وهنا أيضاً أود القول إن النفي الأرضي الذي عانيت منه حدث على النحو التالي: منذ طفولتي كنت أنتسب إلى أسرة متدينة, وقد أدى هذا إلى حدوث تناقض قوي بين المثالي والواقعي, بعد ذلك أحسست بتأثير الذاكرة الجماعية وبهذا وصلت إلى الإحساس بالبعد الخامس بوحدة الزمن, الماضي والحاضر والمستقبل, ومن ثم وجدتني أواجه الواقع بواقعية تعرف في أدب أمريكا اللاتينية باسم (الواقعية السحرية) ولولا هذا الإحساس لكان قد قضى علي بالموت في المنفى, وأنا أعتقد أن أحد أسباب ظهور هذا الاتجاه في أدب أمريكا اللاتينية هو أنه يمنح الفنانين والقراء أيضاً سلاحاً خاصاً حتى يتحملوا الحياة, وحتى يواجهوها بشجاعة وبثقة وإحباط في آن واحد بأسلحة مثالية وواقعية في وقت واحد, بالواقع وبالحلم, بالصورة وبالظل, وبذلك يكون الإحساس بالنفي الميتافيزيقي قد تكامل مع النفي الواقعي, أي أنهما لم يكونا منفصلين. يقول كارل ماركس: إذا كانت المادية هي نصف الفلسفة فإن المثالية هي نصفها الآخر, وهكذا صارت لي شخصية مهجنة, وبالتالي أكثر واقعية وعمقاً.

وهذا منحنى القوة المطلوبة, كنت أضع نفسي في الخطر ولكن بوعي, دون أن أساوم الواقع, وكنت أقبل الهزيمة وانتصار القدر, ولكني كنت أظل محتفظاً بكرامتي, وأكره الانتصار السهل, وقد عثرت على جدلية الوسائل والغايات وهذا هو ما ينقص بعض السياسيين لأنهم يريدون أن يصلوا إلى الغاية, أما الفنان فتهمه أيضاً الوسائل وبهذا فإن تجربة النفي علمتني الكثير, وبهذا أيضاً دخلت عوالم أناس قليلي العدد هم الخارجون على آلية النظام الحياتي, أريد أن أقول: كنت أحس كأني قطرة من المطر ولكني كنت داخلاً في العاصفة وفيما بعد العاصفة.

أما عائشة التي طالما شغلت مساحة واسعة من ذاكرتي, بل ومن ذاكرة الآخر فهي تطل في كل تجربة شعرية جديدة بمعنى جديد ضمن سلسلة متصلة من التحولات التي تمزج بين الواقعي والأسطوري فعائشة ليس لها قبر معين, لأنها لو كانت قد ماتت لكان لها قبر فهي ميتة وحية, حاضرة وغائبة, أو أنها لم تولد بعد, لأنها لا تزال كلمة مقدسة.. أو بعبارة أخرى في البدء كانت الكلمة.. في حياة كل إنسان مناطق ومساحات ممنوع الاقتراب منها, إذ إن الشاعر يحتفظ بها فيها بعيداً عن أعين الفضوليين والمتسائلين لأنها سر من أسراره. كما أنه يحتفظ بمفتاح هذه المناطق المحببة لكي يورثها لمن بعده قبل موته بقليل, فهناك وصايا وأسرار كثيرة لا يبوح بها, لأنها سر من أسرار قوته.

أحياناً يلمح ويشير, إذا اقتضى مقتضى الحال, وبصورة أدق فإن الشاعر ليس فيلسوفاً مهمته الوصول إلى النواة الكهربية التي تمنح هذا الكون قوته, فهو الشاعر يستخدم هذه القوة أو النواة الكهربية من دون أن يبوح بسرها, مثله مثل الساحر الذي يخرج الكلمات أكمامه من دون أن يقول لنا كيف, ولماذا. ولكننا أحياناً, ونحن نراقب حركاته نكتشف بعض أسرار سحره.

هناك تفسير جانبي قدمته مثلاً ذات مرة عندما سألني مستمع السؤال نفسه فقلت له: إنك لو قرأت قصيدة (بستان عائشة) لاكتشفت مثلاً أن بستان عائشة يقع بين (مدائن صالح) وأعالي الفرات حتى نهر الخابور, واكتشفت أن هذه الأرض التي تسمى بالهلال الخصيب هي وطن عائشة, وهي المنطقة التي كانت حاضنة للاختمار الروحي للعرب قبل ظهور الإسلام, وأن العرب في اندفاعهم لأعالي الفرات قد حجوا إلى الخابور ليكتشفوا بستان عائشة الذي كان أيضاً مدينة مسحورة كان عرب الشمال هؤلاء يحجون إلى هذا النهر أو إلى هذه المدينة المسحورة كل عام في فصل الربيع فيقدمون الأضاحي والقرابين ـ للنهر ـ لكي تفتح لهم أبواب المدينة المسحورة دون جدوى, وكانوا يدورون, ويدورون بحثاً عن بواباتها, وينتظرون دون جدوى, فيعودون إلى حلب ليبكوا وينتظروا ألف عام لكي يحجوا إلى مدينتهم المسحورة. هذه هي ملامح سحر مكان عائشة ووطنها, أما ملامح الأنوثة التي تقترب من ملامح الأنثى التي نصفها صبية ونصفها امرأة لأنها في منتصف ربيعها, فقد مر ذكر كثير لملامحها الأرضية, كما هي في الواقع, أي صورة واقعية لها تقترب من صورتها الواقعية وتبتعد عنها في هالات النور المنبعثة من أزمنة مختلفة, لأن وجهها في المرآة ليس وجها واحداً, فالموت وحده هو الذي يعطي الوجه حقيقته في المرآة.

مدن الصدفة

أما بالنسبة للشعر فلست أريد أن أضع تعريفاً له ولست أهدف إلى تحديد مكان له في العالم ولا من عصرنا وإنما الشيء الذي أريده هو تحديد مكانه من نفسي فحينما بدأت أعالج الكلمة محاولاً بها أن أعبر عن انفعالي بالعالم لم يكن الشعر هو أول ما حاولته من أشكال الكتابة ولكن شيئاً ما كان يلح في طلب التعبير عنه, شيئا كان يجول في نفسي, كنت قادماً من الريف حيث عشت فيه وعدت إليه حتى عام 1947 وهو عام دخولي دار المعلمين العليا وكانت الصدمة الأولى حين اكتشفت حقيقة المدينة, كانت مدينة مزيفة قامت بالصدفة وفرضت علينا وكما كانت المدينة شبيهة بالمهرج. كان جيلنا المتسول الذي استعار ثياب وأزياء من كل عصر حتى فقد شخصيته وصوته الحقيقي. في هذه الفترة وقبلها بقليل كنت كمن يبحث عن الشكل الملائم للتعبير عن نفسه واكتشفت أن التعبير الشعري أقرب إليّ من أي شكل آخر ولم يكن غير الشعر قادراً على إشباع رغبتي في التعبير بالكلمة وإني وإن كنت لا أؤمن بإمكان ولادة الشاعر وفي يده القيثارة, وإنما يمكن أن يولد في قلب ذلك الإنسان الذي لا يتم التوافق بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي. إن التناقض الذي يمكن أن يقوم حينئذ يولد عدداً من الأحاسيس غير المصنوعة وغير القابلة للتغير. وفي اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان تناقضه مع العالم الخارجي يبدأ في التمرد عليه. ومثلما يبحث النهر الدفين عن المكان المناسب الذي يمكن أن ينبع منه يبدأ الشاعر الموعود في محاولة اكتشاف نفسه. إن المهم هنا إنما هو نقطة البداية. إن البدء في محاولة فهم العالم ومحاولة تفسيره ودفعه إلى خارج نطاق النصائح والتعاليم والتربية, ومحاولة التمرد عليها ومناقشتها وخلق نوع من الحوار الصامت حولها, كل هذا يلعب دوراً في صنع عالم الشاعر القادم.

ثم بدأ تعاملي مع الكتب والقراءة كمسافر في قطار لا يعرف المدينة التي سيهبط فيها. لقد كان التاريخ هو النوع الذي أحبه من القراءة, ولم أقرأه كركام من الوقائع أو الأحداث, وإنما كتجربة إنسانية واسعة ومتعددة الجنبات, وكتجسيد لقضايا الإنسان التي طرحت على كل المجتمعات الإنسانية الماضية, كذلك كانت الآثار واللقى التي ذابت صورها في نفسي, البقية الباقية على سطح الكوكب من كل هذه التجارب التي خاضها الإنسان واختفى كما تختفي أشباح الليل.

حينما كنت أقف أمام كوب قديم أو قطعة عملة أثرية أو تصوير باهت الألوان, كان يجتاحني إحساس من انعدام الصلة بالعالم الخارجي, وأروح أفتش عن هذه الآثار في نفسي, ماذا بقي فيها لدي?. كل هذه الأشياء القديمة تركها أصحابها ومضوا كانت هي الصورة الحية لعمق الزمن, والشيء الوحيد الباقي من حياة الناس الذين عاشوا في زمن ما. إن الفن وحده عصارة تجربة الإنسان هو ما يتركه الناس بعد حياتهم, لقد كان البحث عن الشكل الشعري الذي لم أجده في شعرنا القديم, وكان التمرد الميتافيزيقي على الواقع, دون وضع بديل له, والأشواق التي لا حصر لها, والتطلع إلى عالم تسقط فيه كل الأسوار بعيداً عن الشعارات التي استهلكت, كان هذا البحث هو ما أدى إلى اكتشاف الواقع المزري الذي تعيشه الجماهير وإلى اكتشاف بؤسها المفزع. وهنا كان لابد من ضمور الباعث الميتافيزيقي في نفسي ونمو الواقع الاجتماعي والسياسي, وكان هذا النمو انعكاساً وتفاعلاً مع ما حدث في المجتمع العربي ذاته من تحول إلى الثورة الإيجابية نفسها, كنت أشعر في ذلك الوقت بأنني أكتب مدافعاً عن الحرية والعدالة للجماهير البائسة لا لنفسي كنت أفهم الالتزام على أن الفنان مطالب في أعماق أعماقه أن يحترق مع الآخرين عندما يراهم يحترقون, أما الوقوف على الضفة الأخرى والاستغراق في الصلاة الكهنوتية فليس هذا من صفات الفنان الحقيقي في أي عصر من العصور.

 

عبدالوهاب البياتي

 
  




عبدالوهاب البياتي