جمال العربية
"نحن .. وألفاظ الحضارة"
كان الأديب الكبير محمود تيمور في طليعة المهتمين بموضوع ألفاظ الحضارة - أي ألفاظ الحياة العامة - وموقف اللغة الفصحى منها، بعد أن لاحظ أن الكثرة الغالبة من هذه الألفاظ مابرحت أجنبية أو عامية، وأن الكاتب إذا أراد وصف ما يرى من ظواهر الحياة الحديثة وأدواتها لم يستطع أن يقع على تسميات عربية دقيقة، فإن راق له الاسم العربي الدقيق منعه من استعماله أنه نافر مهجور.
ولقد كان اهتمام محمود تيمور بهذا الأمر نابغا من خبرته الواسعة في الكتابة القصصية. وعضويته في مجمع اللغة العربية، وبين ضرورات الفن ومتطلباته، وقوانين اللغة وحرصها على الفصاحة والصواب، كانت معاناته وكان اهتمامه الذي تمثل لا وضعه معجما لألفاظ الحضارة، أقر المجمع بعض اجتهاداته فيه، ولم يقر بعضها الآخر.
فالكاتب - في رأي تيمور - مضطر أن يصف ما في البيت وما في السوق، وأن يتناول ما يدور من أسباب العيش، أو ما يستعمل الناس من الأدوات، وما يتناولونه في حياتهم اليومية من شئون. فهو - حينا - يصطنع الكلمة الفصيحة على حذر، وآنا يقبل من الكلمات العامية ما ليس منه بد، وهو في الحالين مضطرب حيران، يحاذر ألا يدرك مبتغاه من الإبانة، ويخشى أن ينتقص حظه من الإفصاح.
ويستشهد تيمور بما يروى عن الأديب البليغ الشيخ عبدالعزيز البشري عندما زار بنك مصر، فكتب متأنقا يصف المبنى وما إليه، واجتهد أن يعبر عن أرجائه وأجزائه بألفاظ من فصيح العربية، ولم يأذن لكلمة عامية أو دخيلة أن تشوب مقاله إلا كلمة بنك التي أفلتت منه في عنوان المقال، فلما زار مصانع الغزل والنسيج رغب إليه عشاق أدبه في أن يكتب في صفة هذه المصانع، فوعد ولم ينجز وتمنى أن يستجيب، ولكنه لم يفعل خشية ألا تواتيه الكلمات الفصيحة بوصف الآلات والعدد.
وتيمور على حق حين يرى أن الوعي اللغوي الجماهيري يفرض سلطانه متجها إلى الفصيح، وأن حملة الأقلام ينفذون بتعبيرهم وتأثيرهم إلى مراكز الإعلام في الصحافة والإذاعة وغيرهما، وهم يقترحون الألفاظ ويضعونها موضع التنفيذ باستعمالهم لها فيما يكتبون وفيما يبدعون.
وهو ينبهنا إلى أن كثيرا من الكلمات الريفية التي نستعملها على أنها عامية هي في الحقيقة كلمات فصيحة مثل: الدوام والمصطبة والجرن والقفة والمقطف والزكيبة والعزبة والنبوت والجبن القريش. ومثلها: خبز مرحرح وصحتها خبز رحراح، والمدود وصحتها: المذود.
ويقترح تيمور كثيرا من ألفاظ الحضارة، باعتبارها ألفاظا فصيحة، داعيا إلى استعمالها بدلا من الألفاظ الشائعة، من بينها:
الاستطلاع بدلا من الريبورتاج
الموسوعة أو دائرة المعارف بدلا من الإنسيكلوبيديا.
العلامة التجارية أو السمة التجارية بدلا من الماركة أو الاسم التجاري.
الجيوب الهوائية أو الفجوات الهوائية بدلا من المطبات الهوائية.
السفينة الصهريجية بدلا من التنكر.
الزجاجة العازلة بدلا من الترمس.
الحوامة أو العمودية بدلا من الهليكوبتر.
الشواهق (جمع شاهقة) بدلا من ناطحات السحاب.
اللافتة بدلا من اليافطة.
المبتكرات أو الأزياء الحديثة بدلا من النوفوتيه.
عارضة الأزياء بدلا من المانيكان.
الثوب الحاسر بدلا من الميني جيب.
الشبانك بدلا من التريكو.
الخمار بدلا من الإيشارب.
قاعة المعيشة بدلا من ليفنج روم.
المهد بدلا من سرير الطفل.
الوسادة بدلا من المخدة.
الحشية بدلا من المرتبة.
النثريات أو المنثورات بدلا من الخردوات. (والخردوات كلمة فارسية الأصل، والخردة - في الفارسية - هي ما صغر ودق من الأشياء).
النوبة بدلا من الوردية.
قاعة الضيافة بدلا من السلاملك.
سجل الصور بدلا من الألبوم.
التحويلة بدلا من السويتش.
والطريف أن هذه الكلمات التي اقترحها محمود تيمور - وغيرها كثير - في مستهل الخمسينيات من هذا القرن، قد أصبحت الآن شائعة على ألسنة الكتاب وأقلامهم، وجزءا من الفصحى المعاصرة التي تغتني كل يوم وتزداد ثروتها من الكلمات والمصطلحات وألفاظ الحضارة نتيجة للترجمة والتعريب، فضلا عن الاشتقاق والقياس والنحت اللغوي، وما تقدمه المجامع اللغوية من ألوان التيسير وفنون الاجتهاد، مما أدى إلى دخول كلمات جديدة - لم تعد جديدة الآن - في معجمنا اللغوي مثل: اللجنة والمنظمة والهيئة والمؤسسة والرابطة والنقابة والمجلة، فضلا عن العديد من المفردات العسكرية مثل: المدرعة والمدمرة والدبابة والطرادة والغواصة والنفاثة ومنصة الصواريخ والأسلحة البرمائية.
كما تجلى هذا الاتجاه إلى الفصيح في ساحة الرياضة واللغة التي يستعملها الرياضيون، فعلى سبيل المثال نجد النصر حليفا لكثير من الكلمات العربية المتصلة بمجال لعبة كرة القدم، في المباراة بين كلمات أجنبية مثل: الهاف تايم والجول والباك والريفري، وكلمات عربية هي: الشوط والهدف والظهير والحكم.
صفحة
شعر
"قصيدة
من المقامات"
لبديع الزمان
الهمذاني
شغلت المقامات في أدبنا العربي القديم اهتمام الباحثين والمتأدبين باعتبارها فنا جديدا طرأ على هذا الأدب العربي إبان القرن الرابع الهجري، يقدم الصورة الأولى لما عرف فيما بعد باسم القصة القصيرة أو اللوحة القصصية، فضلا عن صياغتها المتأنقة، وأسلوبها المسجوع، وامتلائها بفنون البديع والغريب من المفردات.
ولم يلتفت قراء المقامات - زمنا طويلا - لما تقدمه من نماذج إنسانية واقعية، منتزعة دوما من بين الطبقات الدنيا في المجتمع، ظاهرها الشطارة والاحتيال للحصول على المال والاستهتار بالناس ومواصفاتهم، لكن باطنها وجوهرها هو النقد الذكي للحال التي بلغتها المجتمعات العربية، وتأثيرها على أخلاق الناس وسلوكهم وأساليب معاملاتهم.
في ضوء هذه النظرة، تصبح مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري - فضلا عن كونها فنا له تميزه وخصوصيته - وثيقة لعصر وسجلا حافلا بالنماذج والمواقف، ومرجعا لكثير من النصوص الأدبية - الشعرية والنثرية - يوردها المؤلفان على ألسنة الشخصيات، ويجسدان بها كمال التصوير والتعبير.
ويفاجئنا بديع الزمان - في إحدى مقاماته - باختراعه لاسم شاعر هو بشر بن عوانة العبدي، من خلال قصة متخيلة، تحكي عن هذا الشاعر الذي خرج يطلب مهرًا لابنة عمه، فإذا بأسد يعرض له في طريقه، فلا يفر ولا يهرب، بل يثبت للأسد ويقتله، عارضا شجاعته وتفاصيل عراكه مع الأسد في قصيدة من عيون الشعر العربي يتجه فيها بالخطاب إلى من تسمى "فاطمة" التي قد تكون أخته وقد تكون ابنة عمه، لكن قيمتها في التوجه بالخطاب أنها تفسح المجال أمام الشاعر ليقول.
القصيدة إذن من شعر بديع الزمان نفسه وإن حملت اسم شاعر لا وجود له في الواقع هو بشر بن عوانة، وهي تكشف لنا عن وجه أصيل من وجوه بديع الزمان كاتب المقامات هو أنه شاعر مبدع في هذا النص الجميل النادر.
أفاطم لو شهدت ببطن خبت |
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا |
إذن لرأيت ليثا أثم ليثا |
هزبرا أغلبا لاقى هزبرا |
تبهنس حين أحجم عنه مهري |
محاذرة فقلت عقرت مهرا |
أنل قدمي ظهر الأرض، إني |
رأيت الأرض أثبت منك ظهرا |
وقلت له وقد أبدى نصالا |
محددة، ووجها مكفهرا |
يكفكف غيلة إحدى يديه |
ويبسط للوثوب على أخرى |
يدل بمخلب، وبحد ناب |
وباللحظات تحسبهن جمرا |
وفي يمناي ماضي الحد، أبقى |
بمضربه قراع الموت أثرا |
ألم يبلغك ما فعلت ظباه |
بكاظمة غداة لقيت عمرا |
وقلبي مثل قلبك ليس يخشى |
مصاولة فكيف يخاف ذعرا |
وأنت تروم للأشبال قوتا |
وأطلب لابنة الأعمام مهرا |
ففيم تسوم مثلي أن يولي |
ويجعل في يديك النفس قسرا |
نصحتك فالتمس ياليث غيري |
طعاما، إن لحمي كان مرا |
فلما ظن أن الغش نصحي |
وخالفني، كأني قلت هجرا |
مشى ومشيت من أسدين راما |
مراما، كان إذ طلباه وعرا |
هززت له الحسام فخلت أني |
سللت به لدى الظلماء فجرا |
وجدت له بجائشة أرته |
بأن كذبته ما منته غدرا |
وأطلقت المهند من يميني |
فقد له من الأضلاع عشرا |
فخر مجدلا بدم كأني |
هدمت به بناء مشمخرا |
وقلت له يعز على أني |
قتلت مناسبي جلدًا وفخرا |
ولكن رمت شيئا لم يرمه |
سواك، فلم أطق ياليث صبرا |
تحاول أن تعلمني فرارا |
لعمر أبيك قد حاولت نكرا |
فلا تجزع فقد لاقيت حرا |
يحاذر أن يعاب فمت حرا |
فإن تك قد قتلت فليس عارا |
فقد لاقيت ذا طرفين حرا |