أرقام

أرقام

يحدث شرقاً

ماذا حدث في أوربا الشرقية بعد أن تخلت عن الاشتراكية؟

السـؤال ليس متأخرا، والإجابة سوف تختـار مجالا واحدا هو : سوق العمل، ومعدلات البطالة.

شهد الغرب الأوربي ظاهرة بطالة تصل إلى 11% في ربيع 1995. وشهدت منظمـة التعاون الاقتصـادي والتنميـة (التي تضم 25 دولة) معـدل بطالة يصل إلى 8 , 7% في الشهور الخمسة الأولى من عام 1995..أما المعدل في شرق أوربا (باستثنـاء ما كانـت تسمى ألمانيا الشرقية) فقد تراوح عام 1994 بين (10) و(15) بالمائة من قوة العمل.

النسب تتقارب لكن الفروق كبيرة..
الغرب يبدأ من خيـارات مستقرة .. نظام اقتصادي حر .. اقتصاد السـوق والعرض والطلب.. تلك هي القوانيـن السـائدة .. أما شرق أوربا فهو ينتقل من نظام مـوجـه ومخطط مـركـزيـا .. إلى ذلك النموذج الغربي.. ولمرحلـة الانتقـال دائما طبيعتها الخاصة.والبطالة في الغرب جزء من آليات النظام الحر.. فالعمل سلعة يقدمها من يستطيع ويشتريها من يريد. والسعر- أي الأجر - تحدده قوة العـرض والطلب .. أما الشرق فهو يبدأ من تراث عمره نحوه نصف قرن .. قائم على التكافل الاجتماعي ونظريـة التوظف الكامل، فلم يكن مسمـوحـا وحتى الأمس القـريب أن يكـون هنـاك عاطل .. الكل يعمل، حتى لو تحول إلى بطالة مقنعة.

والغرب يبحث عن حلـول للمشكلـة، ويعزوها للركود الذي ساد لسنوات طويلة .. وهـو يحاول - في ذلك - ابتكـار أفكار من طراز ما قـدمه شيراك في فرنسا ، حـين أنشأ بعد تـوليـه الحكم وزارتين : واحـدة " للاندماج ومكافحة الاستبعاد " والثانية " للتقارب بين الأجيال ".

وفي الشرق ما زالوا يبحثون عن حلول.. لكن، وبينما يأخذ البعـد الاجتماعي أهمية متزايدة في الغرب .. فإن البعد الاقتصادي - وبسبب مرحلة الانتقال - هو الأولى بالرعاية هن دول شرق أوروبا..!

روسيا هي الأفضل!

في دول شرق أوربا شهدت السنوات (90- 1994) نسبة غير كبيرة في معدلات البطالة .

والدراسة التي أعدها البنك الدولي تشمل خمس د ول : روسيا - بلغـاريا - التشيك - بولندا - سلـوفاكيا -والأرقام التي انتهت لها الـدراسة والمنشـورة في نهاية 1994 - تلفت النظر .

لقد قفز معـدل البطالة في بلغاريـا إلى عشرة أضعافه بين عامي 1990 وأوائل 1994.. كـان المعـدل (6،1%) فأصبح 1،16% .

في بولنـدا وسلوفاكيا تضاعف المعدل ثلاث مرات خـلال نفس الفترة ليصل إلى ما وصلت إليه بلغاريا تقريبا. أي نحو 16% .

ولكن ـ والمفارقة واضحة - فإن الجزء الآخـر من تشيكوسلوفاكيا لم تتخط فيه البطالـة في الربع الأول من 1994 : 7 , 3%

أيضـا فإن روسيا - وحتى ذلك التـاريخ من العام الماضي - لم تزد فيها البطالة على (1 ،2%) .

المعـدلات عالية، لكن التفـاوت أيضا يحدث شرقا .. بل وبين أجزاء الـدولـة التي كـانت واحـدة مثل تشيكوسلوفاكيا.

في التفسير تأتي أسبـاب عدة ليـس على رأسها ما يشكـو منـه الغـرب وهو الركـود الاقتصادي أو قـدرة الاقتصاد على تولد فرص العمل .

في الدول ذات الاقتصـاد الموجه سـابقا، التي تقع جغرافيـا في شرق أوربا، يأتي التحـول على رأس أسباب التعطل .. فـالقطاع العـام أصبح طاردا، والقطاع الخاص غـير قادر- بعد - على الاستيعاب.

في البداية كـانت سيـاسة القطاع العـام : تخفيض العمالة عن طريق " ضبط النفس " فلا تعيينات جديدة مقابل من يصلون إلى سن المعـاش أو الـذين يقدمون استقالاتهم .. ولكن، وفي مرحلـة تـاليـة بدأ الهجـوم مباشر على قوة العمل وبدأ الاستغناء المباشر عن العمال.

أيضا، وفي القطاع الحكومي انخفضت قوة العمل،وعندما بدأت سياسة الخصخصة اختلفت آليات سوق العمل .. فلا القطاع العام- قبل البيع- راغب في تعيين عمال جدد .. ولا القطاع الخاص راغب في زيادة فاتورة بند الأجور .. والنتيجة تزايد البطالة.

يضـاف لذلك ما يدخله القطـاع الخاص المشتري للمشروعات من تكنولوجيا أكثر تقدما، وأكثـر إيلاما بالنسبة لسوق العمل " فجهاز " كمبيوتـر " كبير قادر على توفير مئات وربما آلاف العاملين ..

في الأسبـاب أيضا، يأتي، عنصر التكـافل، فكلما زادت الإعانات للبطالة كان ذلك مشجعا للمتعطلـين .. لـذا فقـد اقتصرت الإعانات التي تمنحها كل من جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك على ستة أشهر كـما لجأت دول أخرى لتخفيض الإعانة قياسا لآخر أجر .

هذه هي الخريطة التي يتوقعون لها مزيدا من التفاقم بسبب المزيد من " الخصخصة" .. وحتـى باتت قضية البطـالة كـبركـة آسنـة يـدخلها الكثيرون ، ويخرج منهـا القليلون، وبما يجعل للمتعطل سمة أخرى تختلف أيضا عن الغرب، وهو التعطل " طويل الأجل ."

أخطار المستقبل

تمثل الأرقام والظاهرة خطرا على المستقبل .. وتحملان العـديد من النتـائج . على الجانب الاجتماعي، يجري تحليل ظواهر الجريمة و " المافيات " في ضوء تزايد نسب العطل، وانخفاض مستوى المعيشـة، وجمود الأجور مع ارتفاع الأسعار ونسب التضخم.

على الجانب السياسي، يخشى أصحـاب مشروع الانتقال للقطـاع الخاص والاقتصاد الحر مـن انعكاس مشكلـة البطالـة على مـوقف الـرأي العام من التحـول.. فكلما زادت البطـالة وزادت المعانـاة قـال الكثيرون " ألم يكن أفضل أن نظل اشتراكيين ؟ "

و .. تبقى النتـائج الاقتصـاديـة؟ وهي ذات وجوه عدة، أولها : الانكماش الذي يخلق فـرص عمل أقل .. وبما يوفر قوة شرائية أدنى؟ تدفع بدورها للمزيد من الانكماش .

وثاني الوجوه: استفـادة القطاع الخاص من الظاهرة فبطالة أكثر تعني وفرة في اليد العـاملة، ووفرة اليد العاملة تعني اجورا وتكلفة أقل للسلعة أو الخدمة،

أما الوجـه الثالث: فيتعلق بالخروج من الـدوامة فلا مجال لعمالة أكثر دون استثمارات أكثر .

إنها التنمية سواء اخترنا نظـاما اشتراكيا أو رأسماليا فخلق فـرص العمل ليس مجرد قرار سيـاسي أو انحياز اجتماعي .. لكنه وبالدرجـة الأولى- ناتج آليات اقتصادية لخلق المشروعات والتوسع الاقتصادي .

و .. هـنا تبـدأ معضلة الشرق الأوربي .. لقـد أصبح لزاما عليه الدخـول في الحرب الصعبة.. حرب المنافسة مع الغرب، وتقديم سلعة أفضل وأرخص .

إنه الاختيـار الـذي تم .. فقـد مضى عصر التكتل شرقا والاعتماد المتبـادل الذي طالما وفـر سوقـا تستوعب السلعة الشرقية .

الآن .. لا مفـر من الحرب .. وعنـدمـا تصل نسبـة التعطل إلى فرد واحـد بين كل ستة أفراد فهي الكـارثة، لكن ذلك قد حدث.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات