جمال العربية
جمال العربية
ماذا تقول شجرة لأختها ؟ من العاطفة المشبوبة والخيال المحلق لشعراء جماعة أبولو، ومن التأمل الرصين والوجدان العميق لشعراء جماعة الديوان، تشكلت قصيدة الشاعر السعودي حمزة شحاتة، الذي قدر له أن يعيش السنوات الأخيرة الخصبة من حياته في مصر، وأن يجاور عن كثب مجتمع القاهرة الأدبي والشعري ، وأن يبدع قصائده الناطقة بشاعريته المتميزة، وخروجه على المألوف الساكن، وجرأته في مواجهة كل ما يراه زائفا ومعيبا وغير حقيقي، من غير أن تفقده هذه المواجهة ماء شعره ولا كيمياء إبداعه . ولأسباب كثيرة ظل شعر حمزة شحاتة غير منشور أو مجموع، ولم يتح له ذلك إلا بعد رحيل صاحبه ، وظل اسم صاحبه يتردد على ألسنة عارضيه- وهم القلة الواعية- حتى كانت الدراسة النقدية الضافية للناقد السعودي الدكتور عبدالله الغذامي بعنوان"الخطيئة والتكفير" عن حمزة شحاتة وشعره، بداية لمعرفته على نطاق واسع، واكتشاف جدته وأصالته واختلافه عن النسق المألوف في شعر معاصريه من الشعراء: موقفاً وتجربة ورؤية ولغة واتجاها ، وعكوفا على كل ما هو جوهري في رسالة الشاعر، الذي يضيء توهج شعره مصابيح الوعي الكاشف والرؤية الطازجة والتنوير البعيد .وفي كثير من كتابات الدارسين للشعر الحديث في المملكة العربية السعودية اتفاق على منزلة حمزة شحاتة باعتباره واحدا من عمد المدرسة الحديثة، وعلى أنه، ومعه محمد حسن عواد ، فرسا رهان في ميدان الإبداع الشعري المتميز، كل منهما مدرسة في التجديد الشعري والأدبي، فضلا عن أن شعر حمزة شحاتة يتسم بالرصانة والجزالة .والطريف أن ارتباط الشاعر- في السنوات الأخيرة من حياته- بمصر، وتشابه اسمه مع الأسماء المصرية جعل الكثيرين يعدونه من شعراء التجديد في مصر، وقد غاب عنهم وجهه الحجازي الأصيل، الذي تذكرنا ملامحه- فكرا وشعرا- بفلسفة "نيتشه" في كراهيته للضعف ودعوته إلى القوة، كما يذكرنا في نسيجه وأسلوبه برهافة شاعر الحجاز القديم - النابغة الذبياني- ووثبات المتنبي في قمة تألقه وانطلاقه . ولقد عاش حمزة شحاتة حياة اغتراب وعزلة وكأنه في منفى، فهو بين الناس غريب الروح والعقل والنفس، ترفعه سخريته عن الواقع درجات، وتقيه حدة مزاجه من الوقوع في شرك الاهتمامات الصغرى لسائر الناس، الذين تغريهم مباهج الحياة وتجذبهم متعها العابرة . وفي قصيدته "ماذا تقول شجرة لأختها؟" نموذج رائع لفكره وفلسفته وفنه، وطريقة تعامله- شعريا- مع عناصر تجربته المغموسة في الألم والمعاناة، وكشف التفاوت في الأقدار والحظوظ، والانشغال الدائم بفكرة العدل، وحرية المصير، والقدرة على اتخاذ القرار، وتغيير المسار ..يقول حمزة شحاتة: أكذا نحن- حيث نحن-
مقيمان على الخسف ليس نرجو فكاكا؟ *** يا أخت نؤثر الصبر،
والصبر- على ما ترين- قيد المساعي *** أي عيش هذا الذي نحن
صالوه هوانا وفاقة وشنارا؟ *** أفلا تحزنين للواقع
البخس ألفناه ذلة وخمولا؟ *** ما لنا أوهن الخنوع
قوانا فغدونا مُطلّحين رزاحا *** آن يا أخت أن نثور، فقد
عشنا طويلاً على الرجاء المضاع *** ما أرى الكون منذ كنا
سوى سجن كبير أعد للضعفاء *** إن ما تحمله القصيدة من فكرة رمزية، وصورة شعرية موحية، تجعل لها قيمة رفيعة في مجال الإبداع المرتبط بقيم العدل والحرية والتنوير، وهو إبداع تتجلى ثوريته في منطقه وأصالته، وفنيته العالية في قدرته على الإيحاء والتأثير، والأخذ بمجامع النفس في أبهاء هذا الحوار- الذي نستمع إليه طيلة الوقت من طرف واحد - لكنه طرف الحياة في مواجهة العدم، والعزة والتمرد في مواجهة اليأس والخضوع، والقدرة على المواجهة والتمرد في وجه الإلف والعادة والاستسلام .والذين يقرأون شعر حمزة شحاتة، تستوقفهم دوما هذه القصيدة، باعتبارها جزءا يشير إلى الكل، وفرعا في دوحته الشعرية الباسقة يحمل كل سمات الشجرة وقسماتها الأصيلة .
![]() |
|