واحة العربي

واحة العربي

الحبل
أداة وصل، وجر، وتثبيت، وعشق، وانتقام

عرفنا الحبل مبكرا، ربما كان أول (مصنوع) بعد تشذيب الحجر، وبالتأكيد كان مفتولا من ليف النخيل كما هي بعض أنواعه الآن، وقد تكون عملية فتل الليف هذه أسبق مباشرة من شغف الأصابع بالعزف الموسيقي،ويميل رسامو الكاريكاتير إلى تصوير الرجل البدائي وقد سحب أنثـاه من شعـر رأسها، وهم لا يستطيعون مغادرة هذا التصور، لماذا؟؟ لأن البديل لشعر رأس المرأة في حالة هذه الطريقة في الجر - أن يستعمل الحبل، واستعمال الحبل- حتى في الكاريكاتير- سيفتح الآفاق الواسعة لاستعمالاته المروعة للذكر والأنثى- وحتى الصبية والأطفال.

لقد كانت ألياف النباتات (وأقواها ليف النخيل) ثم الشعر الحيواني، عناصر موفقة لصنع أداة الربط هذه ، وكانت أولى المهام التي استخدم الحبل فيها - غير سحب الأنثى- اصطياد الحيوانات،وتحديد مناطق النشاط الخاصة بمن امتلك حبلا، ثم كان الحبل إشارة لتحديد الوضع الاجتماعي، وأقصد بذلك أن زعيم القبيلة القديمة ربط الحبل بشكل أنيق حول أول سروال من أوراق التوت؟ وهو ما يفعله - بشكل أنيق أيضا - بعض الضباط الآن حينما ترى حبلا- بالتأكيد ليس من الليف- وقد التف مع نجوم الأكتاف أو حزام الوسط، وإذا كان كل أفراد القبيلة القديمة تسلحوا بأغصان الشجر الغليظة أو بالهراوات، فلا بد أن التعامل بالحبل كان يحتاج إلى دراية خاصة، أنظر للأمر في هدوء وأنت ترى القبيلة كلها وقد وقفت تنتحب إزاء مشهد لواحد منهم وقد التف الحبل حول رقبتـه تنفيذا لحكم يقضي بإنهاء حياته. على أن الحبـل الذي بدأ أداة للجر، ووسيلة للتحكم أو القيادة، أو تنفيذ الأحكام، لم يلبث أن تطور به الأمر وأصبح حبائل، إنـه الفخ التاريخي المصاحب لحركة الإنسان، سواء أكانت حبائله ناعمة دقيقة مثل ملمس الأنثى، أو كانت خشنة شرسة كملمس المعاهدات والاتفاقيات الناجمة عن حرب ضروس، التي يفـرز القـوي فيهـا الحابل من النابل، أي المكتنز حبلا وحملا من الضامـر نبلا وخواء، حيث لم تستعص كثير هن المواد على فتل الحبـل، ليس من ليـف النخل فقط، بل ومن شعيرات الكتـان والقطن والحرير.

والمتلمس- بالنظر- الأصابع وهي تفتل الحبل، تتحـرك وتتعانق وتنفـرج وتتشبـث، وتتلمس نسير النخل مع قليل من الماء ليشيع في المادة الرطـوبة والليونـة المطلوبتين، ثم تعـود الأصابع فتنقبض وتجعل الأنسجة تلتف في دقـة، الذي يرى هذا سوف يحس فورا بالشد والجذب والاختناق. إن ملايين الأميال تتحرك بين هذه الأصابع لتصبح قوى تدعيم المقاطف (المصنوعة أصلا عن خوص النخيل)، ولترتسم بين قرون البقر والجـمال والجاموس، ولتشتد بين دعامتين في سيرك لتظهر مدى مرونة وسحـر القافـز بينهـما، ولتنسـج حـولها مسـاحـات من الحصير والكليم (نـوع معروف من السجـاد البلـدي) ، وليتم نشر الغسيل الزاهي على كيانها الممتد في الشرفات والسطوح، ولتتنسم الهواء في قلوع المراكـب وتسهيل تحريكها،ولتمتـد بـالبيـارق والأعـلام في الساحات والميادين، ولتتألق بالشرر الكامن تزويدا للناقلات والقطارات بالكهـرباء ، أو تلتف عنيفة قـاسية دموية حول رقـاب الضحايا، حتى الولائد يخرجـون من بطـون أمهاتهم وقد جذب معهم هذا الحبل السري الذي- في حد ذاته- معجزة إلهية بكل المعايير.

أما حبل الحيـاة فهـو شريـان الوريـد الخارج من القلب في العنق كي يصل إلى المخ، والـذي يسري عليه التنزيل العزيز: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، أما العرب القدامى فيقولون: حبلت فلانة فلانا، ويعنون: أوقعته في شباك حبها وسحرته، أما إذا قلت حبلت فلانة فقط فالمعنى واضح ولا يحتاج إلى بطن منتفـخ لتفسيره، وحبـل العاتق: عصب بين العنق والمنكب (وهو الذي يتألم شديدا حين يصاب شريان القلب بالجلطة- الذبحة الصدرية)، وحبل الذراع: العرق الظاهر في بطن الذراع، ومنه جاء قولهم: هو على حبل ذراعك- أي أنه في دائرة تنـاولك وفي المستطاع ، وحبل الفقار: شريان يمتد في الظهر من أوله لآخره.

والحبل - أخيرا - أداة وصل،وعشق ، وانتقام، وتحريك، وتوليد، وسحل، وضبط، وربط، كما أنه أيضا يتدفق شعرا حينما تقول: حبل الوصال ، وحبل الوداد، حتى لو كان من ليف النخل.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات