شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

حكاية "بايات" تونس..!

الأميرة زكية واحدة من آخر أنسال "بايات" تونس، الذين حكموا البلاد طوال 240 عاما في ظل التبعية للخلافة العثمانية، ثم داروا في فلك المستعمرين الفرنسيين.. حتى أعلن استقلال تونس في 20 مارس 1956.

إنها ابنة الباي محمد الأمين آخر من جلس على العرش قبل الاستقلال والغاء الملكية. ولكنها بالرغم من ذلك كانت قائدة الحركة النسائية المساندة للثورة، وساهمت بجهد وافر في كفاح الشعب. وكانت تزود منظمات الحركة الوطنية النسائية بمساعدات مالية لأسر الشهداء، وكان لها نصيب كبير في يقظة المرأة التونسية والدور الذي لعبته في المعركة الوطنية التي أسفرت عما لا يقل عن 2200 من السجينات لاشتراكهن في أعمال المقاومة خلال معركة التحرير. وكانت الأميرة زكية أيضاً وراء قيام ثورة في سجن النساء، حينما حاولن تحطيم القيود والعودة إلى المعركة.

وعندما أرادت السلطات الفرنسية قمع هذه الحركة لم تصل إلى مبتغاها إلا على جثث ثلاث من النساء المجاهدات، نلن شرف الاستشهاد مع مئات المواطنين الأحرار.

لم تكن زكية ممن نعمن طويلا بحياة الترف وملاعق الفضة والذهب. وهي لم تضق كثيرا حين أعلنت حكومة عهد الاستقلال بعث فكرة إلغاء الملكية وإقامة النظام الجمهوري. وحتى بعد أن أعلنت الجمهورية لم تهتم بما تقرر من تخفيض مرتب الباي إلى ألفي جنيه في الشهر ومصادرة جميع أملاكه وإعادة أراضي الأوقاف التي كانت قد وزعت على أفراد أسرته لصالح الشعب.

فقد كانت قد تباعدت كثيرا عن السياسة التي سار عليها أبوها، وخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة التي اندلعت فيها الثورة الوطنية ضد الفرنسيين.

فهي لم تقتنع بموقفه السلبي، ووجدت أنه لم يكن مع الوطنيين بالمعنى المفهوم، كما لم يكن أيضا ضد الفرنسيين، وتبعه في ذلك بقية أفراد الأسرة الذين وقفوا على الحياد في انتظار من ينتصر في النهاية. لهذا فلم يثرها قرار رئيس الحكومة الجديدة بعد ذلك بقيام الجمهورية وإلغاء الملكية وخلع والدها البالغ من العمر 76 عاما بعد 16 عاما من توليه العرش. فقد رأت أن الشعب وحده هو صاحب الكلمة الأولى في نظام الحكم الذي يرتضيه.

.. وحتى عمها المنصف

كانت الأميرة زكية تدرك جيدا أن والدها لم يكن صاحب حق في العرش، فقد كان رجلاً فقيرا تخطى الستين حين استماله الفرنسيون ليحل محل ابن عمه الباي المنصف صاحب الميول الوطنية والمعارضة لأي أمر يراه متعارضا مع مصلحة تونس، حتى لقد هدد بالتنازل عن العرش والانضمام إلى الحركة الوطنية التي كانت قد بدأت في النمو والانتشار. وكانت زكية في ذلك الوقت تناصر الوطنيين وتؤيد عمها المنصف، خاصة عندما جاءت سنة 1943 وأصبحت البلاد أحد ميادين الحرب العالمية الثانية. فقد كانت مقتنعة تماما بموقف الباي حين فاجأ الفرنسيين برغبته في اعتبار تونس "بلادا مفتوحة" تقف على الحياد بين المتحاربين لتجنيب الشعب ويلات حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. ولم تكن هي لتنسى ذلك اليوم الذي تآمر فيه الحلفاء على عمها الباي المنصف، وحمله الفرنسيون في جنح الظلام من قصره إلى إحدى المدرعات الحربية لنقله إلى منفاه في مدينة بوردو وبقى بها إلى أن مات مسموما..!.

لهذا لم تكن الأميرة زكية سعيدة عندما اختار الفرنسيون للعرش أباها محمد الأمين بعد مقتل عمها. وأدركت أنهم كانوا يشترونه حين لجأوا بعد توليته، وهو الرجل الفقير إلى رفع مخصصاته إلى أرقام خيالية، وقرروا ألا تخضع ميزانية القصر ومخصصات الباي وأبنائه لأية رقابة حتى ولا رقابة المجلس الكبير الذي كان مؤلفا من فرنسيين وتونسيين.. بل ورفعوا مرتب الباي اليومي الى ما يعادل ألفي جنيه أي ما يقرب من 750 ألف جنيه في العام الواحد، ومنحوه أراضي واسعة من أملاك الأوقاف الأسلامية وبلغت أكثر من 15 ألف فدان.

أول ثورة شعبية ضد الباي

كانت الأميرة زكية قد بدأت تنخطر بجهد كبير مع الوطنيين في مناداتهم بالاستقلال، ومعاونة شبابهم ونسائهم ضد كل مؤامرات الفرنسيين. وكانت تستعيد في ذاكرتها كيف كان الشعب التونسي حريصا على حريته واستقلاله طوال عهد التبعية لسلاطين آل عثمان، ومناهضة تصرفات البايات المتتابعين على العرش.

وإنها لتدرك من خلال متابعتها لأحداث التاريخ قصة أحداث أول ثورة شعبية قامت في تونس ضد حكم الباي أحمد بسبب الإسراف في أموال الشعب وإهدار حقوقه المشروعة.

كان الباي أحمد قد تولى العرش في الفترة التي كان نابليون بونابرت يواصل توسعه على حساب الشعوب. ولإعجابه بالقائد الفرنسي أصبح يميل إلى أن يجعل تونس قطعة من أوربا. ومن أجل مزيد من الثراء والحصول على الأموال لرشوة الباب العالي العثماني تحالف وساند قراصنة البحر الأبيض وحماهم في موانىء بلاده ليحصل منهم على مقابل مالي أولا باول. وازداد طغيان الباي إلى حد كبير ليمس حياة أبناء شعبه الذين امتلأوا كراهية للملكية. وكان ذلك بسبب أمر أصدره الباي يقضي بفرض "ضريبة شخصية" على كل تونسي وتونسية مع بلوغ سن الرشد. وبدأت الضريبة بعشرة ريالات مجيدية. وبعد شهرين رفعها الباي إلى 75 ريالا. وثار الشعب ضد الباي، وتولى قيادة الثورة زعيم تونسي اسمه "علي بن غذاهم" شيخ قبيلتي ماجد والفرافيش. وزحف الثائر على رأس آلاف من أبناء القبيلتين إلى العاصمة وانضم اليه الشعب وأعلن خلع الباي الذي اضطر إلى الاختفاء عن الأنظار. ولما علم السلطان العثماني بما حدث تدخل بالوساطة بين الثوار والباي، وحمل الباي على أن يعلن إلغاء تلك الضرائب. هذه الثورة كانت ناقوس الخطر لنظام الملكية في تونس، خاصة أن الأوضاع في تونس لم تكن أقل سوءا من بقية بلاد المغرب العربي التي ازداد فيها التدخل الفرنسي تحت ستار مقاومة القراصنة. ويبدو أن الباي أحمد لم يدرك أن احتلال الجزائر قد حدد أيضا مصير تونس ذات الموقع الاستراتيجي في منتصف حوض البحر المتوسط.

ولعل كل تلك الذكريات كانت وراء وقوف الأميرة زكية لمساندة المرأة التونسية في الحركة الوطنية. ولم تكن تدرك بعد أنها قد وضعت البذرة لثورة النساء في تونس حتى استطاعت المرأة في ظل الحكم الوطني الجديد تحقيق أهدافها والحصول على كل حقوقها التي تتمتع بها اليوم مع القوانين الجديدة.

 

سليمان مظهر

 
  




الباي أحمد وأول ثورة في تونس