واحة العربي

واحة العربي

التوتة

ذات الظل الوراف الساتر، والثمرة الطيبة المتداخلة في الحكايات والعلاقات

أزعم أن التوتر، والاكتئاب، والشراسة، هذه الأمراض العصرية، داهمت الأجيال القائمة بسبب نموهم بعيداً عن ظلال شجرة التوت، هذه الشجرة التي تورق الهدوء الأبوي، وتثمر الحنان الأموي، تصد الأعاصير وتحيلها إلى نسيم رقيق يتسلل إلى الجوانح حباً، ووداً، وشعراً وأغنية، وكان حسن- المغني- عاشق نعيمة: يرتكز على جذع شجرة التوت القريبة من ديار المحبوبة ليشع وجدانه بالشدو المسالم الجميل، إذ يكاد التوت يكون المرتع الدافئ للصبية، ومركز المسامرة للفتيان، وأهل الريف- في بلادنا وقعوا في مشاكل عديدة تعصباً لأشجار التوت، خارج الديار وداخلها، على ناصية القرى ومداخل النجوع، وعندما يفتحون الطرق والمسالك وجداول الماء: يظلون شديدي الحرص على عدم قطع هذه الأشجار، وكانوا يطلقون على الإناث الوارفات الجميلات: الحاجة توتة، ربما هي الأكثر الأشجار القروية إحساساً بالشتاء: حيث تتساقط أوراقها منذورة بحلول البرد الذي سوف يصبح بعد ذلك قارساً، ثم تظل الشجرة عارية خالية من أية أوراق بازغة من خشبها القاتم، معلنة قدوم الربيع، ما هكذا يكون شجر السنط الشرير الذي لا يأبه- بأشواكه- لأي تغير في الطقس، والذي ينمو ويترعرع- تلقائيا وفي شراسة شريرة- أينما وكيفما تكون الظروف.

والتوتة مهد الأغنية الريفية المرتجلة، وعنصر مهم في الحكايات الشعبية عندما تنتهي في سلام دافئ "توتة..توتة، خلصت الحدوتة"، وثمارها تجذب الكبار قبل الصغار، وستظل دودة القز- الحرير- تسعى بين أغصانها سعياً للتغذي بالورق الطري تمهيدا لأن تصبح شرنقة متلفة بالشعيرات الناعمة، ولذا فإن التوت يزرع بكثرة في اليابان- بالذات- ثم الصين وأوربا الغربية لتربية دودة الحرير على أوراقه. مؤسسات ضخمة ترعى هذا النشاط الذي تقوم به وحدات من العائلات ترتزق منه، لكننا- في بلادنا- لانراعى أمر حرير دودة التوت بهذه الكيفية الاقتصادية، ربما تتوقف المسألة في حدود "الهوايات" التي تأخذ قسطاً من اهتمام المدارس، حيث تظل الشجرة مصدرا للظل، وللثمرة الأسطوانية الصغيرة، البيضاء أو الصفراء أو الحمراء أو البنية السوداء، الحلوة، اللينة والتي يشوب حلاوتها مُرَّة مثيرة الطعم، تؤكل طازجة أو يصنع منها عصير لذيذ منعش، ويقال إن هذا العصير يشفي من دود البطن "أي يطرده خارجاً" ومن ذلك جاء المثل القروي على لسان امرأة لزوجها: أنا مثل التوت، "توتة ماتشبع تشفي"، فالتوت- في الموروث العلاجي- يوصف لمداواة انتفاخ البطن، وفي الحد من تنميل الأطراف، وفي تطييب خاطر الغاضب، ولايزال بدو الصحراوات المصرية يحصلون على كميات كبيرة منه خلال أسواق الربيع في وادي النيل، لاعتقادهم بأن الكثير منه يشفي من آلام الركبة، وفي منطقةإدفو- جنوب مصر- كانوا يخمرون ثمار التوت مع غشاء الدوم ليحصلوا على مزيج علاج أمراض قوائم الإبل، كما أن كمادات التوت المعروق الساخن تخفف من آثار حساسية الجلد.

وتواجه التوتة إبادة واضحة في بلادنا المعاصرة، حيث اندثر عصر الآباء الذين كانوا يدركون معنى هذه الشجرة، ولم يعد يهتم أحد بزراعتها أو تربيتها بعد أن داهم العمران الحديث المواقع السكنية، كما أن أصحاب الحدائق لا يضعون التوتة موضع الاهتمام المناسب، مع تقلص حرير القز- أو الخز- تحت ضغوط انتشار الحرير الصناعي- عندنا وعند غيرنا. كما أن الأغنية التلفزيونية كبرت وترعرت بعيدا عن ظلال التوتة، واستقطبت أشجار الكازينوهات وأيكات "جمع أيكة" الشواطئ والقري السياحية والملاهي الليلية عشاق هذا الزمن، ثم إن الشعر الحديث فقد التواصل القديم مع الطبيعة فلم تظهر توتة وأحدة في بيت واحد، ربما لأن هذا الشعر لا يقوم على مساحات، إنما مجموعة متناثرة من الوحدات تخلو من التضاريس، والتي في وديانها وبين رباها، وعلى مداخل بيوتها، وساحاتها، وجداولها، كانت التوتة تنمو، مستنشقة النسيم، ولهو العيال، وسمرالكبار، وحكمة الشيوخ، وقبل كل ذلك كانت التوتة رمزاً للستر، وإخفاء ما يسبب الحرج، أليست التوتة هي تلك الشجرة التي هرع إليها آدم وحواء كي يتوسلا بأوراقها العريضة لستر ما لايحبان للآخرين الاطلاع عليه، فور نزولهما من الجنة إلى الأرض؟

وهو ما يفوت أجيالنا إدراك معناه ومغزاه.

 

محمد مستجاب