جمال العربية

جمال العربية

في ثنايا تراثنا العربي تلتمع كلمات قصار، محكمة الصياغة، عامرة بالحكمة العميقة، ناطقة بتجربة الحياة وخبرتها الحية، في بيان مشرق، وعبارة ناصعة، وإيقاع سريع متدفق. وقد أطلق القدماء على مثل هذه الكلمات: الأجوبة المسكتة والردود المفحمة.

من بينها ما يروونه من أن أعرابيا قال ذات يوم للخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك:

إني أكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله، فإن وراءه- إن قبلته- ما تحبه.

قال الخليفة: هات يا أعرابي. فنحن نجود بسعة الاحتمال على من لا تؤمن غيبته، ولا نرجو نصيحته، وأنت المأمون غيبة، الناصح جهرة.

فقال الأعرابي: إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله تعالى. إنه قد اكتنفك رجال (1)، أسلموا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا (2) دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة وسلم للدنيا. فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا، والأمة كشفا وخسفا، وأنت مسئول عما اجترموا، وليسوا مسئولين عما اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله غبناً من باع آخرته بدنيا غيره.

عند ذلك قال له سلميان بن عبدالملك: أما أنت يا أعرابي فقد سللت لسانك وهو سيفك.

فأجاب الأعرابي: إنما سللت لساني أو سيفي لك لا عليك يا أمير المؤمنين.

وهو موقف يحسب لكليهما.

للأعرابي الذي نطق لسانه بما يراه حقا ولم ترهبه سطوة الخلافة وهيبتها.

والخليفة الذي اتسع صدره- في سماحة وعدل- لكلمة الأعرابي.

نموذج من الكتابة ولون من التعبير

فتن كثير من الناس- زمنا طويلا- بكتابات مصطفى لطفي المنفلوطي، الكاتب والأديب والشاعر. ورأوا في آثاره القلمية أسلوبا أدبيا مرهفا قادرا على استثارة المشاعر والعواطف، واستدرار الدموع، وشحن النفس بالانفعال الموجع الحزين. وبخاصة عندما تدور كتاباته حول قضايا اجتماعية وموضوعات إنسانية يقدم من خلالها لوحات قلمية.

وبالرغم من أن أساليب كتابنا المعاصرين قد تجاوزت ما عرف بمدرسة المنفلوطي في الكتابة، فإن آثاره القلمية خاصة في كتابيه- النظرات والعبرات- لا تزال ناطقة بقدرته الأدبية واللغوية، قادرة على إلهام النشء فنونا من التعبير والتصوير.

يقول المنفلوطي في لوحة قلمية عنوانها "قلب الشاعر". أنت شاعر يا مولاي، وقلب الشاعر مرآة تتراءى فيها صور الكائنات، صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلهـا، فإن أعوزتك السعادة ففتش عنها في أعماق قلبك، فقلبك الصورة الصغرى للعالم الأكبر وما فيه.

السماء جميلة، والشاعر هو الذي يستطيع أن يدرك سر جمالها، ويخترق بنظراته أديمها الأزرق الصافي، فيرى في ذلك العالم العلوي النائي ما لا تراه عين ولا يمتد إليه نظر.

والبحر عظيم، والشاعر هو الذي يشعر بعظمته وجلاله، ويرق في صفحته الرجراجة المترجحة، صور الأمم التي طواها والمدن التي محاها، والدول التي أبادها، وهو باق على صورته لا يتغير ولا يتبدل، ولا يبلى على العصور والأيام. والليل موحش، والشاعر هو الذي يسمع في سكونه وهدوئه أنين الباكين وزفرات المتألمين، وأصوات الدعاء المتصاعدة إلى آفاق السماء، ويرى صور الأحلام الطائفة بمضاجع النائمين، وخيالات السعادة أو الشقاء الهائمة في رءوس المجدودين والمحدودين.

ثم يقول المنفلوطي:

أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزق عن نفسك هذا السجن الذي يحيط بك، وطر بجناحيك في جنباته وأكنانه، واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله، ورءوس أشجاره، وضفاف أنهاره، فأنت لم تخلق

للسجن والقيد، بل

للهتاف والتغريد.

مجامعنا اللغوية.. والسمكة العاجزة

يعيب البعض على مجامعنا اللغوية ما يتصف به أداؤها من إيقاع بطيء في مواجهة الظواهر اللغوية الحديثة والتغيرات المستمرة في الأساليب والمصطلحات، والموقف مما تدفع به حركة الترجمة من ألفاظ وصياغات جديدة. ويتصايحون دائه،: أين رأي المجمع؟ ما موقف المجمع؟ لماذا لا يتحرك المجمع؟

الطريف أن المفكر والمجمعي الراحل الدكتور منصور فهمي يدافع عن دور المجمع بالنسبة لألفاظ الحضارة التي شاعت في حياتنا الحديثة، وعن ضرورة العمل السريع النشط في هذا المجال بالإضافة إلى مجال المصطلحات العلمية، فيقول:

لما رأى المجمع سيل الحضارة يتدفق بمعاني المخترعات والمبتكرات مما لا عهد به للعروبة في فترة الركود والجمود الذي قضت به ظروف الزمن والأحوال، ولما رأى مع ذلك تكاثر الصيغ الأعجمية كثرة تزحم معاهد التعليم وتحتل ألسنة المثقفين أفزعه ما رأى من الأمر، فوجه الكثير من همه إلى المصطلحات العلمية ووقف عليها الكثير من وقته لسد الحاجة في، معاهد التعليم قبل أن تغمرها الأصوات الأجنبية غمراً لا يسهل درؤه- أي دفعه ومواجهته- ومن الحزم أن يستدرك البلاء قبل وقوعه اتعاظا بما فعلته السمكة الكيسة التي ذكر قصتها "بيدبا" الفيلسوف.

فقد زعموا أن غديرا كان فيه ثلاث سمكات، كيسة وأكيس منها وعاجزة، وكان ذلك الغدير بنجوة من الأرض لا يكاد يقربه أحد، وبقربه نهر جار، فاتفق أن اجتاز بذلك النهر صيادان فأبصرا الغدير فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك، فسمعت السمكات قولهما، فأما أكيسهن فلما سمعت قولهما ارتابت بهما، وتخوفت منهما، فلم تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى الغدير، وأما الكيسة فإنها مكثت مكانها حتى جاء الصيادان فلما رأتهما وعرفت ما يريدان ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء، فإذا بهما قد سدا ذلك المكان، فحينئذ قالت: فرطت وهذه عاقبة التفريط، فكيف الحيلة على هذه الحال؟

وقلما تنجح حيلة العجلة والإرهاق، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ولا ييأس على حال، ولا يدع الرأي والجهد. ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تارة، وتارة على بطنها فأخذها الصيادان على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت إلى النهر فنجت.

وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صيدت.

ثم يقول الدكتور منصور فهمي:
ولعل المجمع أبى أن يكون كتلك السمكة العاجز ة التي لم تتدبر البلاء قبل وقوعه، وفوتت فرصة الخلاص، فأخذ على نفسه الألفاظ الدخيلة بيننا، وتطغى علينا الأساليب الركيكة، فلا يستطاع ردها ودفعها.

الشعر ديوان العرب

يمكن النفاذ إلى بعض أسرار عبقرية المتنبي الشعرية، في قدرته الهائلة علىالاتساع لكل حالات النفس الإنسانية، والتعبير عن أدق خلجاتها وأصغر حالاتها، تفاؤلاً وتشاؤماً وأملاً، ويأساً، وسروراً وانقباضاً، وتطلعا وعزوفا، في لغة شعرية رفيعة، واقتدار فني. آسر، وصور شعرية لافتة، فضلا

عن امتلاء ذاته بالطموح، وبصيرته بالقدرة على النفاذ إلى ما وراء الظاهر والمكشوف من حقيقة الحياة والناس.

يقول أبوالطيب المتنبي في هذه القصيدة التي لا تزيد أبياتها على العشرة، لكن كل بيت منها خلاصة خبرة عميقة، وحكمة سائرة يتناقلها الناس:

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا

وعناهم من شأنه ما عنانا

وتولوا بغصة كلهم منه

وإن سر بعضهم أحيانا

ربما تحسن الصنيع لياليه

ولكن تكدر الإحسانا

وكأنا لم يرض فينا بريب الدهر

حتى أعانة من أعانا

كلما أنبت الزمان قناة

ركب المرء في القناة سنانا

ومراد النفوس أصغر من أن

نتعادى فيه وأن نتفانى

غير أن الفتى يلاقي المنايا

كالحات ولا يلاقي الهوانا

ولو أن الحياة تبقى لحيّ

لعددنا أضلنا الشجعانا

وإذا لم يكن من الموت بدٌ

فمن العجز أن تكون جبانا

كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس

سهل فيها إذا هو كَانا

جمال العربية على أقلام المعاصرين

كثيرون لا يعرفون أن للشاعر نزار قباني نثرا أدبيا هو لون من الشعر، بل هو- في رأي بعض قرائه ودارسيه- لا يقل عن شعره رهافة، وعذوبة وأصالة، فضلا عن جيشانه بالنغم الداخلي، وتماوجه بالصور والظلال، والإيقاع المتدفق.

يقول نزار قباني وهو يتحدث عن "داره الدمشقية" حيث كان عالم طفولته ونشأته الأولى:

"لا بد من العودة إلى الحديث عن دار "مئذنة الشحم" لأنها المفتاح إلى شعري، والمدخل الصحيح إليه، وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة، ومنتزعة من إطارها.

هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة!

إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، وإنما أظلم دارنا.

والذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون.

بوابة صغيرة من الخشب تنفتح، ويبدأ الإسراء على الأخضر والأحمر والليلكي، وتبدأ سيمفونية الضوء والظل والرخام.

شجرة النارنج تحتضن ثمرها، والدالية حامل، والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض، وعلقتهم على جدران النوافذ، وأسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا.

أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء وتنفخه، وتستمر اللعبة المائية ليلا ونهارا، لا النوافير تتعب، ولا ماء دمشق ينتهي.

الورد البلدي سجاد أحمر ممدود تحت قدميك، والليلكة تمشط شعرها البنفسجي، والشمشير، والخبيزة، والشاب الظريف، والمنثور، والريحان، والأضاليا، وألوف النباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسماءها، لا تزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب.

القطط الشامية النظيفة، الممتلئة صحة ونضارة، تصعد إلى مملكة الشمس، لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحرية مطلقة، وحين تعود بعد هجر الحبيب ومعها قطيع من صغارها، ستجد من يستقبلها ويطعمها ويكفكف دموعها. الأدراج الرخامية تصعد وتصعد على كيفها، والحمائم تهاجر وترجع على كيفها، ولا أحد يسألها ماذا تفعل؟ والسمك الآخر يسبح على كيفه ولا أحد يسأله إلى أين؟

وعشرون صفيحة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمي، كل زر فل عندها يساوي صبيا من أولادها لذلك كلما غافلناها، وسرقنا ولدا من أولادها، بكت وشكتنا إلى الله".

ثم يقول نزار قباني:
"ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر ولدت، ونطقت كلماتي الأولى.

كان اصطدامي بالجمال قدراً يوميا، كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة، وإذا سقطت أسقط على حضن وردة.

هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق، كما يفعل كل الصبيان في كل الحارات، ومن هنا نشأ عندي هذا الحس "البيتي" الذي رافقني في كل مراحل حياتي".

 

فاروق شوشة