أرقام

أنت تستهلك .. أنت حر

هذه هي سنة الحياة: أن ينتج الإنسان ويستهلك، ومنذ بدء الخليقة والسباق مستمر.. يحاول الناس أن ينتجوا أكثر ليستهلكوا أكثر.. فالاستهلاك في النهاية، ماديًا أو معنويًا، هو الفيصل فيما نسميه: مستوى المعيشة.

وأيا كانت النظم الاجتماعية أو السياسية فالغاية: حياة أفضل .. النظريات تخدم معيشة الفرد والمجتمع، وليس العكس.. وإن بدت النظريات والمقولات السياسية أكثر صخبًا، وأكثر بعدًا عن التفاصيل اليومية: خبز - باذنجان - مستشفى - كتاب ومدرسة.

في عالمنا الحديث كثيرًا ما نقيس التقدم بحجم الإنتاج المادي، أو بحجم الناتج القومي ونصيب الفرد منه أو بمقدار التقدم العلمي .. وكلها مؤشرات مهمة.. ولكن.. ماذا لو حاولنا أن نقيس التقدم والتخلف بمقدار ما يستهلك الإنسان من سلع وخدمات.. من غذاء وكساء، وتعليم وصحة، وترفيه وطاقة ووسائل للمواصلات.

والقياس على هذا النحو ليس صعبًا، فقد قام البنك الدولي بدراسة هيكل استهلاك الأسرة في الثمانينات.. و.. حملت الأرقام العديد من المفاجآت. إنها أرقام الألم والفرح. الشقاء والسعادة. الحياة والموت.

أنت تكسب.. أنت تستهلك

والكلمات أعلام لا تحتاج إلى شرح، فكلما زاد ما تحوزه من دخل زادت قدرتك على الاستهلاك.. حتى أنه يمكن أن نضيف لمعاني الحرية: حرية اختيار نوع الحياة.. حرية اختيار ما تستهلكه.. و.. ذلك أمر يتوقف على قدرتك المالية، ونوع النظام الذي يتيح لك هذا الاستهلاك أو ذاك.

القدرة المادية محدد رئيسي .. وهي قدرة تضعنا أمام عدد من القوانين المهمة.

القانون الأول، والذي يمكن استنباطه من غابة الأرقام هو أنه " كلما قل الدخل، اتجه الاستهلاك للأساسيات .. المأكل، والمشرب، والملبس، والتعليم والصحة.. مما نسميها حاجات أساسية ".

أيضًا، وضمن ما نستنتجه، أنه داخل الحاجات الأساسية، وعندما يميل الدخل للانخفاض تحظى مجموعة الغذاء بنصيب الأسد.. وتأتي الاهتمامات الأخرى من مسكن وتعليم وصحة ونقل ومواصلات في المرتبة الثانية، وقد يفوتها القطار مثلما يحدث في قضيتي العلاج والتعليم.

ومرة ثالثة، وبمزيد من التحليل للأرقام نجد الأهمية النسبية لمجموعة الغلال والدرنيات تتزايد ضمن مجموعة الغذاء، كلما قل الدخل.

ومن هنا وكاستنتاج رابع فإن السلع المعمرة ترف ينتشر شمالاً، ويقل وجوده كلما هبطنا إلى الجنوب.. إلى مناطق الدخل الأقل. الشيء نفسه بالنسبة للثقافة والترفيه .. يكونان أو لا يكونان وفقًا لمستوى الدخل وليس وفقًا لمقدار الحاجة.

هذه القوانين الأربعة تحكم العلاقة بين الدخل ونمط الاستهلاك.. وهذه القوانين معمول بها من الصين شرقًا إلى الولايات المتحدة غربا.

هل نحتاج إلى بعض الأمثلة؟

المفاجأة، قد تكمن في ذلك. إنها "الأرقام المأساة"،

نموذج متكامل

باستثناءات محدودة فإننا أمام نماذج متكاملة، لا تعاني - في الأرجح - من "انفصام في الشخصية" إثيوبيا، دولة متوسطة الحجم، يبلغ تعداد سكانها (1989) حوالي خمسين مليونًا. ومتوسط نصيب الفرد من الناتج القومي (120) دولارا في العام أي ما يعادل ثلث دولار في اليوم .. فماذا يتيح ذلك الدخل؟

طبقًا لأرقام البنك الدولي (تقرير التنمية في العالم 1991) فإن الغذاء يستهلك نصف حجم الإنفاق العائلي.. وربع الإنفاق كله يتجه للخبز والدرنيات.. أما الرعاية الطبية فلا تنال أكثر من (3%) من الاستهلاك وبما قد لا يزيد على ثلاثة دولارات في العام.

و.. النتيجة: توقع بمتوسط عمر للفرد الإثيوبي لا يزيد على 48 عامًا!.. ذلك هو المتوقع للطفل الإثيوبي عند المولد!

نرتفع قليلاً بمستوى الدخل، فنصل إلى تنزانيا حيث يبلغ المتوسط السنوي لنصيب الفرد من الناتج القومي (130) دولارًا.. والمؤشرات بعد ذلك متقاربة: ثلثا الإنفاق على الاستهلاك لمجموعة الغذاء، والثلث بالتمام والكمال للخبز والدرنيات .. أما متوسط العمر المتوقع فهو 49 عامًا.. وكأن عامًا إضافيًا - بالمقارنة بالنموذج الإثيوبي - قد جاء نتيجة عشرة دولارات إضافية في دخل الفرد!.

ورحلة الشقاء تمتد لدول أخرى كثيرة من دول الجنوب.. بنجلاديش ذات ال "111" مليون نسمة من السكان يبلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي السنوي: (180) دولارًا .. ونسبة النمو أقل من نصف في المائة سنويًا.. وتحوز مجموعة الغذاء على 59 % من الاستهلاك.. بينما يزيد متوسط العمر قليلاً ليصل إلى (51) عامًا.

وكما يستهلك الغذاء نحو (60 %) من الإنفاق العائلي في بنجلاديش، فإن النسبة نفسها - تقريبًا - تتكرر مع نموذجين: السودان والصين.. مع فارق كبير في الأداء والنتائج.

في السودان، يبلغ متوسط العمر المتوقع خمسين عامًا عند المولد.. وفي الصين يبلغ المتوسط سبعين عامًا، وبما يجعل الصين - بمتوسط دخل للفرد (350) دولارًا فقط - تناطح الدول الغنية في مستوى الصحة ومتوسط العمر .. ذلك بالرغم من أن نسبة ما يتم إنفاقه على الرعاية الطبية لا يتجاوز 1% من إجمالي استهلاك الأسرة.. وربما يكون التفسير في: دقة التنظيم الصحي، أو ارتفاع المستوى الغذائي نسبيًا، أو لأن للدولارات معنى آخر في الصين.. فمستوى الأسعار يتيح بدولارات أقل قدرًا أكبر من الاستهلاك والرعاية في الصين.. أي أن القيمة الشرائية للدولار في الولايات المتحدة تختلف بالتأكيد عن تلك القيمة في بكين.

وتستمر لعبة الأرقام لتثبت الاستنتاجات السابقة.

في سويسرا، يتمتع الفرد ب (30) ألف دولار من الناتج القومي سنويًا .. أي أنه يعادل (250) ضعفًا لمتوسط ما يحوزه الفرد في إثيوبيا .. وبطبيعة الحال فإن نسبة الإنفاق على الغذاء لابد أن تنخفض فتهبط إلى 17 من الإنفاق .. لكن تلك النسبة توفر مستوى صحيًا عاليًا، حتى أنه وفي خانة توقعات العمر نجد أن السويسري - وعند مولده - يتوقعون له حياة تطول إلى 78 سنة.. أي بما يزيد ثلاثين عامًا على الإثيوبي و28 عامًا على السوداني و 12 عامًا على التونسي.

وتتكرر النماذج حيث يحصل الكندي على (19) ألف دولار من الدخل سنويا والأمريكي على (21) ألف دولار.. وبطبيعة الحال تتراجع الأهمية النسبية للغذاء، وتتقدم مجموعات الاستهلاك الأخرى حتى يصل نصيب التعليم إلى 12% من استهلاك الأسرة.. ويصل نصيب السلع المعمرة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 7% من الإنفاق سنويًا.

إنها لعبة الفقر والثراء. الفقراء يأكلون أقل، ويوجهون معظم دخلهم لرغيف أسود وقطعة من البطاطس .. فالرغيف وقطعة البطاطس أو حفنة الأرز تلتهم معظم الدخل الضئيل، والذي لا يبقى منه شيء للترفيه أو التثقيف أو السياحة.

إنها أرقام فاضحة كاشفة.. هذه هي أحوال الجنوب.. وهذه هي أحوال الشمال.. عدا استثناءات هنا أو هناك.