(الصحوة) بعد خمسين عاماً.. د. سليمان إبراهيم العسكري

الصحوة) بعد خمسين عاماً.. د. سليمان إبراهيم العسكري

  • إن تلك «الصحوة الإسلامية» التي تفاءل بها الدكتور أبو المجد لم تتقدم وترتقِ.. بل تراجعت وانكفأت
  • لقد أوجد التدهور في التعليم والفكر الفرصة لحركات الغلاة لنشر أفكارها المتخلفة في بيئة فقيرة ثقافياً وعلمياً ومعرفياً
  • لم تطرح الأحزاب الدينية مشروعاً إصلاحياً أو نهضوياً من أي نوع.. واكتفت بقشور الأفكار والنصائح اللغوية وتخويف الناس
  • التفاهم بين الأديان بما يقتضيه من ترسيخ لمفاهيم التسامح والتعايش يحتاج إلى حركة اجتهاد ديني.. يكاد اليوم أن يكون معدوماً

قبل ما يناهز ثلاثين عاماً تقريباً كتب المفكر الإسلامي د. أحمد كمال أبو المجد مقالاً في «العربي» أشار فيه إلى أن فريقاً بين فلاسفة التاريخ يرى أن «الحضارات كالشعوب تعيش دورات عضوية تبدأ بالنشوء والميلاد، وتأخذ في النمو التدريجي حتى تنتهي بالشيخوخة، وهذا ما سارت به كل الحضارات، بما فيها الحضارة الإسلامية، التي ليست مستثناة من هذه الظاهرة التاريخية، ودار الزمن دورته، على تلك الحضارة، فانحسر هذا المد وانكفأ المسلمون على ذواتهم في صراعات داخلية، مذهبية وسياسية، وأزمات معيشية واجتماعية..»، ثم «شهدت دورة جديدة قبل ثلاثين عاما»، كما يرى الكاتب أنها دورة جديدة من النهوض، و«مد إسلامي جديد في العالم العربي - عبر حركات ثقافية وسياسية ترفع شعار الإسلام - بدأ خطوته بطيئة متثاقلة أول الأمر قبل ثلاثين عاما (من تاريخ نشر المقال)، ثم ازدادت مظاهرها وضوحا خلال عقد السبعينيات».

فماذا حقق هذا المد الإسلامي الجديد الذي تمثل في أحزاب وتنظيمات اتخذت الدين منهجا لفكرها السياسي وعملها الحزبي منذ ثلاثين عاما مضت على نشر المقال تقريباً؟

يبدو جلياً أن الدكتور أبو المجد قد كتب ما كتب آنذاك، متأثرا بالثورة الإسلامية في إيران ووصول الخميني إلى سدة الحكم فيها, وبالرغم من أنه ربط تفاؤله بعدد من الشروط التي رأى وجوب الالتفات إليها من قبل محركي وقادة الحركات الإسلامية يتعلق جوهرها بضرورة تحديد الأولويات في جوهر الأشياء، لا مظهر التدين الشكلي فقط، لكننا نظن أن تفاؤل المفكر أبو المجد لم يجر كما تصور. وبقليل من التدقيق فيما يحدث على الساحتين العالمية والعربية حالياً، وبعد أكثر من خمسين عاماً مضت فماذا نرى؟

لقد شهد العالم على مدى ما يزيد على الخمسين عاما الماضية تسارعاً كبيراً في النمو الاقتصادي والتقني، واعلنت ثورة الاتصالات صحة ما ذهب إليه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل قبل عدة عقود، الذي كان أحد أول من تنبأوا بفكرة «العولمة»، ودعا إلى قيام حكومة عالمية واحدة لتجنيب العالم حروبا جديدة، وارتبط العالم بعضه ببعض بشكل لم يشهد له تاريخ البشرية مثيلا من قبل، فبدا الكوكب الإنساني في نوع من الالتئام الذي حققه تشابك المصالح الاقتصادية، واندماج صناعات ثقيلة، وشركات استثمارية دولية، بل تداخلت ثقافات وحضارات متباينة بعيدة عن التنوع القومي والديني والطائفي.

ولعل أكثر الأدلة سطوعا على صحة الفرضية هذه الأزمة المالية العالمية التي ضربت أركان المعمورة، والتي تأثرت بها الأطراف كافة في أرجاء العالم مهما اختلفت مستويات رفاهيتهم وتقدمهم. فبمجرد تدهور الاقتصاد الأمريكي، إذا باقتصادات العالم كله تتدهور في فترة زمنية قياسية.

صحوة أم تراجع؟

فهل واكبت تلك الصحوات الممثلة بالأحزاب والتنظيمات الإسلامية تلك الثورة التقنية والفكرية؟ وهل استطاعت أن تستوعب فلسفة تلك الثورة ومنطلقاتها ونتائجها؟ وأن توظف هذا الاستيعاب في مواكبة تطورها وتقدمها، واستنباط قوانين وقيم ومفاهيم إسلامية حديثة تواكب حركة العصر والتطور البشري؟

الحقيقة أن تلك «الصحوة الإسلامية» التي تفاءل بها الدكتور أبو المجد لم تتقدم وترتق، إنما تراجعت وانكفأت بسبب اختطافها من الذين عصبوا عيونهم عن رؤية العالم من حولهم وتجاهلوا حقيقة التطور التاريخي والتقدم البشري، وما وجدوا في بعض التيارات الإسلامية وتاريخها إلا أكثر عصور الانحطاط والتخلف في تاريخ الإسلام العظيم.

فعلى مدى الخمسين عاما الماضية لم نرَ مشروعا إسلاميا حضاريا للتعامل مع العالم، وما بلغه من تطور حضاري على كل المستويات العلمية والتقنية والصناعية والمعلوماتية والفكرية.

وإزاء التردي المستمر في أحوال التنمية، فقد تدهورت حال التعليم في المنطقة العربية، وبالتالي تأثرت مجالات الإنتاج الفكري والعلمي والعلوم الإنسانية والعلوم البحثية وكل ما من شأنه أن يرتقي بالإنسان المسلم. وقد أوجد هذا التدهور مزيدا من الفرص «لحركات الغلاة» للتغلغل في هذه البيئة الفقيرة المتخلفة ثقافيا وعلميا ومعرفيا واجتماعيا، ولنشر أفكارها المتخلفة مستغلة أجيالا لم تتلق التعليم المناسب، وتعاني من الفقر وقلة الفرص في حياة اجتماعية كريمة، مما يجعل منها هدفا وصيدا سهلا لتلك الجماعات ومن جهة أخرى سنجد أن تلك الجماعات ذات الأفكار المغالية في تخلفها تحرص على ترسيخ ثقافة المنع، والترهيب، ضد حرية الفكر، لأن ذلك يضمن لها أن تتعامل مع كل كاتب أو صاحب فكر على حدة، إما بالتحريض على قتله، أو إشاعة ألوان من الصفات التي تغتاله معنويا وكلها تحت منطق التكفير كأنها تمتلك صكوكا تمنح بها الغفران من تشاء وتعاقب من تشاء خارج القوانين وأنظمة الحكم في الدولة.

إفلاس فكري

وهذا المناخ تسبب في ضعف المناخ الفكري العربي عموما، متجليا في ضعف تأثير المفكرين والمثقفين على الجمهور، وضعف تيارات الفلسفة العربية المعاصرة، والإنتاج الفكري والعلمي إجمالا، لكن هذا التأثير السلبي لم يتوقف على مناخ الفكر الليبرالي، وإنما امتد إلى المؤسسات العلمية الدينية، التي كان من المفترض أن تنتج أجيالا قادرة على التفكير العلمي، وربط الإسلام بالتقدم وبمكامن القوة التي حققت بها الدولة الإسلامية نهضتها في فترة ازدهارها.

فالآفات التي كان الدكتور أبو المجد قد طرحها، في مقاله سالف الذكر، كعوامل معرقلة للمد الإسلامي قد تمكنت، بدلا من أن تنحسر، وتغلغلت بدلا من أن تجتث من جذورها، وبينها آفة ضعف الفكر الديني الإصلاحي في المؤسسات التعليمية الدينية العربية، وضعف تأثيرها.

سؤال جوهري

أما الآفات الأخرى التي أشار إليها فهي العجز عن إقامة علاقات من المودة والحوار مع سائر عناصر المجتمع وتياراته، ثم تردد العلماء في الاجتهاد ما أدى إلى أن أكثر القضايا الفكرية التي كانت معلقة في الفكر الإسلامي والحياة الإسلامية لاتزال على حالها لم يتقدم فيها البحث كثيراً. ثم آفة الخلل في ترتيب الأولويات عند عرض الإسلام والدعوة إليه، ويمثل على ذلك بهذا السؤال قائلا: «أليس غريبا على سبيل المثال أن يطيل كثير من الدعاة الحديث في النهي عن شرب الدخان وعن سماع الموسيقى والغناء أو الدعوة لإرسال اللحية وفرض الحجاب على النساء، وألا نرى منهم الاهتمام والحماس نفسه حين يتصل الأمر بقضايا الحرية والشورى والعدل في توزيع الثروات؟».

هذا السؤال بالفعل سؤال جوهري، لأنه يلخص جوهر فكر بعض الأحزاب الدينية، التي تتخذ من الإسلام عنوانا لها على مدى العقود الأخيرة، فهي لم تطرح مشروعا إصلاحيا أو نهضويا من أي نوع، واكتفت بقشور الأفكار والنصائح اللغوية والتخويف للناس من الدار الآخرة، كما أنها لم تقدم أي برامج تنموية في اي مجال، خصوصا أن الكثير ممن ينتمون إليها يمثلون تيارات سياسية شتى في أرجاء واسعة من العالم العربي، ولا تعلو أصواتهم إلا في قضايا شكلية.

أما فيما يتعلق بالقضايا الكبرى للمجتمع العربي والإسلامي كقضايا التنمية أو العدالة أو اللحاق بعلوم العصر ومنجزاته الفكرية والتكنولوجية فتبدو، حتى الآن، بعيدة عن مجال اهتماماتهم.

وفي هذا المناخ الثقافي الهش استطاعت تلك التنظيمات أن تجد لنفسها بيئة ملائمة لاكتساب الشعبية، ومحاولة التأكيد على مشروعية توجهاتها، بكل ما فيها من إقصاء للآخر، ونفي كل من يختلف مع المعلن من أفكارها. ويؤدي هذا المناخ أيضاً إلى مزيد من الاحتقانات الداخلية بين الطوائف الإسلامية التي تطلق تفسيراتها الاجتهادية المختلفة، وبين التنظيمات الإسلامية نفسها، في أغلبية الدول التي تتعايش بها أكثر من طائفة، وأكثر من فئة.

بمعنى آخر، فإن شيوع ممارسات التنظيمات الدينية المتطرفة، أيا كانت ديانتها، بما تتضمنه من إقصاء ونفي للآخر يؤدي إلى تعطيل كل إمكان للتنمية بالشكل الأمثل، التي ترتبط بقيم التعايش المشترك والتعددية، وهذا هو ضد منطق التطور البشري الذي أصبح عولميا وحقيقة لا جدال فيها.

وهو ما دعا رئيس الوزراء البريطاني السابق «توني بلير» إلى القول «إن أحد أهداف العولمة هو أنها تقرّب الناس بعضهم بعضاً. وفي مثل هذه الظروف يمكن أن يكون المعتقد الديني إما قوة سلبية تباعد ما بين الناس - بمعنى أن الدين يصبح وسيلة لإغفال فهم الآخرين - أو أنه يلعب دورا بنّاء من خلال التفاهم والحوار ما بين الأديان، ويجمع الناس في تعايش سلمي. أعتقد أن الفهم الأفضل للأديان الأساسية يعتبر واحدا من أهم المساهمات الفردية التي يمكننا تقديمها لأجل السلام. والآن فقط بدأنا نفهم مدى أهمية فهم الأديان بالنسبة إلى مستقبلنا».

ولعل هذا الفهم للتفاهم بين الأديان، بما يقتضيه من ترسيخ لمفاهيم التسامح والتعايش يحتاج إلى حركة اجتهاد ديني، يكاد اليوم أن يكون معدوما لأسباب عديدة بينها استقواء التيارات المتخلفة في الحركات الدينية على كل حركة إصلاحية، وتكفير أغلب أصحاب المشروعات الاجتهادية والإصلاحية الإسلامية.

خلافات داخلية

كما أن بعض هذه الحركات بالرغم من أنها تحمل شعارات دينية وإسلامية، فإن اللافت أنها تعيش حالة من التنافر والاختلاف، الذي يصل أحيانا إلى حد الاقتتال، وهو ما يمكن أن نراه في الاختلافات بين الإيرانيين في الداخل على مفهوم الإصلاح، أو خلافات الجماعة الإسلامية في عدد من الدول العربية وأبرزها خلافات الجماعات المتناحرة في العراق، أو موقف «القاعدة» من هؤلاء جميعا، وهو ما يؤكد أن لكل من تلك الحركات أجندتها الخاصة وأهدافها السياسية المعلنة أو المسكوت عنها، بالرغم من أنها ترفع الشعارات الدينية نفسها.

أما ما نجحت فيه الأحزاب المتشددة فهو إشاعة صورة خاصة عن الإسلام والمسلمين ربطت بينهم وبين الدماء والقتل والتعصب إلى حد رفض الحياة، وشوهت جوهر الصورة السمحة الحقيقية للإسلام، ورسخت ارتباط أنصاره بالجمود العقلي وعدم القدرة على التسامح والتعايش مع الآخر.

وصحيح أن جميع الأديان والمذاهب مارست التعصب في مراحل تاريخية، لكن الثابت أن المجتمعات الليبرالية والدستورية في العالم المتمدن هي التي استطاعت ان تنتصر على مفهوم التعصب، وأن تفرض الحرية الدينية، بينما المجتمعات الأقل تطورا.. لم تدخل حتى الآن مرحلة الحوار الهادئ حول علاقة الدين بالدولة، وتنظيم تلك العلاقات على أسس ديمقراطية سليمة.

والآن بعد مرور خمسين عاما من ظهور بشائر المد الإسلامي، الذي أبدى التفاؤل به العديد من الكتاب العرب وبينهم الدكتور كمال أبو المجد، لا نرى أننا قطعنا شوطا في هذا التفاؤل.

لقد كان أحد مصادر تفاؤل الدكتور أبو المجد هو مظاهر ما أسماه «النقد الذاتي» ونمو القدرة على التصحيح والتصويب الداخلي، لكن نتائج هذا المد الراهنة تكشف أن ذلك النقد الذاتي لم يحدث على الإطلاق، بل العكس هو الصحيح، فقد تم إفراغ المد الإسلامي من مضمونه، القيمي والحضاري والإنساني، واستبعدت كل الأصوات التي نادت بربط الإسلام بالتطور الحضاري الحديث.

إن تلك الحركات الدينية التي يغالي بعضها في التشدد، إذا كان عليها العودة للأصول والبحث في ماضيها فينبغي لها أن تقرأ التاريخ جيدا، وتعرف أن الاستبداد والظلامية والقهر لم تؤد بأي مجتمع إلا إلى الانهيار، وأن الحرية؛ حرية البحث والفكر والاجتهاد، هي السبيل الوحيد لاستعادة النهضة العربية الإسلامية، والأمل في استعادة الحضارة العربية لتاريخها المجيد والبناء للمستقبل بكل شروطه العصرية الراهنة.

 

 

 

سليمان إبراهيم العسكري