مأزق النفط العربي وهموم التنمية المستقبلية

 مأزق النفط العربي وهموم التنمية المستقبلية

حديث الشهر

ثمة متغيرات جديدة تلحق بأوضاع النفط العالمي عموما، والعربي خصوصا، وهي متغيرات تستوجب الانتباه والنظر إلى المستقبل

لم يشارك العرب جميعهم في ثروة عامة وطبيعية كما شاركوا في الثروة النفطية, ولم تتأثر الاقتصادات العربية بما يحدث لسلعة من ارتفاع أو انخفاض لأسعارها كما تأثروا بارتفاع وانخفاض أسعار النفط, وحتى الدول العربية التي لاتنتج نفطا تأثرت في العقود الأربعة الأخيرة بتذبذب أسعار هذه السلعة, فما بالك بتلك الدول التي تعتمد أساسا على مداخيلها من العملة الصعبة من هذه المادة الحيوية.

وحديثي هذا الشهر يعود بي إلى مناقشة جرت في رحاب ندوة عربية كبرى عقدت في أبو ظبي في أكتوبر سنة 1997, وكانت الندوة مخصصة لدراسة الوضع العربي الحاضر وتفعيل دور الجامعة العربية, وقد حضرها أكثر من مائتي كاتب ومفكر وسياسي وصحفي عربي, كما حضرها عدد كبير من مراسلي الصحافة العربية ووكالات الأنباء, وقتها كانت لي مداخلة متواضعة حول الوضع العربي القائم والمتغيرات القادمة, فتحدثت عن احتمال تراجع أسعار النفط وتأثير كل ذلك على التنمية العربية وكذلك على الأوضاع السياسية للدول العربية, كثير من الحاضرين استغرب ما قلت وقتها واستعان بالمعلومات السيارة في أن أسعار النفط إلى صعود وأن الأيام القادمة هي أيام يسر لا عسر, ولم أرد أن أدخل في مناقشات مطولة حول الموضوع وكان لسان حالي يقول اللهم إني قد بلغت.

خلفية حديثي في ذلك الوقت هي ما رشح من معلومات علمية بأن الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة تحث الخطى في مختبراتها العالمية لإنتاج ماكينات تشغيل تؤدي إلى اقتصاد هائل في المحروقات, وقد أخذ الرئيس الأمريكي على عاتقه في سبتمبر الماضي أن يدعو إلى مؤتمر صحفي يبشر فيه بأن هذه آلات بدئ في إنتاجها, وأن الهدف القريب هو اقتصاد ما نسبته 90% من المحروقات النفطية التي تذهب اليوم سُدى في الآلات العامة التي يستخدمها العالم, وحتى لو تواضعنا وقلنا إن الهدف المحقق هو فقط خمسون بالمائة, فإن ذلك يعني توفير النصف الآخر أي الـ 50% الباقية, ومن هنا فإن السوق النفطية سوف تخسر بذلك المقدار نفسه على الأقل.

وحتى لايقفز من يريد أن يؤكد نظرية المؤامرة على المنتجات في العالم الثالث من الدول الكبرى, أو على النفط بصورة خاصة, فإني أسارع وأقول إن ذلك الهدف ـ تخفيض استهلاك الطاقة ـ هو هدف غربي دافعه الأساسي هو الحفاظ على البيئة بعد تصاعد المخاطر الدولية على بيئة الأرض, واضطرار العالم أن يعقد في ديسمبر الماضي مؤتمرا في مدينة كيوتو اليابانية التاريخية من أجل الوصول إلى اتفاق عالمي لتقليل إطلاق العوادم العامة والصناعية في الفضاء لما يسببه ذلك من خلل في الغلاف الجوي, الأمر الذي يعود بالضرر الأكبر على الإنسان, ذلك منطلقهم, والوسائل التي يلجأون إليها سوف تؤثر على أسعار النفط, وما هي إلا أشهر حتى تصاعدت الصيحة المحذرة وأقول المبكرة نسبيا, وهكذا لم يترك لنا هذا الزمان متسعا من الوقت للتبكير في التحذير أكثر من ذلك.

الملوم في الأمر

وكعادة البعض في اللجوء إلى التبريرات السهلة سرعان ما انصب اللوم مدرارا على الدول المنتجة للنفط, وشارك البعض في هذا اللوم ـ وإن ضمن إطار أوسع ـ بالقول إن انحسار أسعار النفط جاء من جوانب ثلاثة:

الأول: قرار منظمة الدول المصدرة للنفط برفع سقف الإنتاج في فبراير من سنة 1997, وأن رفع سقف إنتاج النقط لدول الأوبك كانت له آثار سلبية على أسعار النفط بعد ذلك والتي لم يقابلها زيادة في الطلب العالمي المتوقع.

والثاني: الأزمة الاقتصادية في الدول الآسيوية التي لاتنتج النفط والتي تستهلك ربع الإنتاج العالمي, والأزمة الاقتصادية هناك أثرت جزئيا وسلبيا على طلب النفط وبالتالي انحسرت أسعاره.

والثالث: هو السبب الكلاسيكي القديم القائل بتجاوز بعض البلاد في دول الأوبك حصصها المقررة لها وبيع أو تهريب كميات إضافية من النفط إلى السوق العالمي.

تلك هي الحجج الثلاث التي قدمت حتى الآن وهي حجج قد تبدو للوهلة الأولى مقنعة, ولكن الخبراء في الأمر يقررون غير ذلك, وحججهم المضادة تتلخص في أن رفع الإنتاج المتفق عليه في فبراير من العام الماضي كان طفيفا وأن الطلب المرجح على النفط من الدول الآسيوية التي تعرضت لأزمات اقتصادية أخيرة هو نقص طفيف, وأن الدول المتجاوزة كثيرا ما كانت تفعل ذلك بكميات لاتؤثر كثيرا على الأسعار. تراجع أسعار النفط ليس عرضاً جانبياً إنما هو تراجع حقيقي ومؤثر على المدى الطويل وعلى الدول والشعوب التي تعتمد ميزانياتها على نسبة كبيرة من مداخيله وعلى الدول التي تعتمد في جزء من ميزانياتها على المساعدات أو القروض أو الدخل غير المباشر من إنتاج وتسويق النفط, وتقع في هذا المجال تقريبا كل الدول العربية, وعلينا أن نفطن إلى أن ظاهرة التراجع السلعي للنفط هي هنا لتبقى وإن انتعشت الأسعار في المستقبل لبعض الوقت فهو انتعاش مؤقت.

إن البعض منا لايزال يذكر كيف لمع اسم منظمة الأقطار المصدرة للنفط في الستينيات والسبعينيات والمسماة اختصارا بـ (الأوبك), وقد قفزت هذه المنظمة إلى صدر الأحداث في عقد السبعينيات, واتهمت من قبل الدول الصناعية بأنها مؤسسة احتكارية للدول المصدرة للنفط. قصة الأوبك من القصص الاقتصادية والسياسية التي تمثل صراعاً بين منتجي سلعة في أقطار العالم الثالث وبين مستهلكيها في أقطار العالم المتقدم أو الصناعي, ولم تنل هذه المنظمة حظها في الذيوع إلا في العقد السابع من هذا القرن, وحملت عليها الصحافة النفطية أو العامة حملة شعواء واتهمتها بكل الاتهامات لأنها اعتقدت أنها كانت وراء تصاعد أسعار النفط في ذلك الوقت, وكانت مانشتات الصحف الدولية تحمل صيحات عالية مثل: (الأوبك تقبض على عنق الاقتصاد العالمي), أو (المستقبل لدول الأوبك), وصدرت كتب ركزت على العرب في الأوبك تركيزا شديدا, وأصبح شكل العربي بكوفيته وعقاله (خيال المآتة) كمايقولون لتخويف العامة من الناس في الدول الصناعية ولتحميله السبب وراء الضنك الاقتصادي الذي يعانون منه ولأنه خلف ارتفاع أسعار النفط, فهو شره ومتلاف في آن.

ومن جانب آخر كانت الدول المنتجة للنفط في هذه المنظمة, والعربية منها على وجه الخصوص, تدافع عن وجهة نظرها بأن هذه السلعة هي سلعة ناضبة غير متجددة ولاصناعية, لذلك فإن الأثمان التي تباع بها هي أثمان بخسة, لأن هذه الدول تبيع من أحد ـ وربما أهم ـ مصادر ثروتها الوطنية التي لاتجد بديلا لها, وهناك من الأدبيات والدراسات المتراكمة ما تعجز عن متابعته مؤسسات البحث العلمي, إلا أن دور الأوبك بدأ في التلاشي وبدأ تأثيرها في الأسعار يضعف إلى درجة أن خبيراً نفطيا عربيا مرموقا هو فاضل شلبي نشر في المجلة الأمريكية المشهورة (السياسة الخارجية) في عدد الشتاء هذا العام مقالا كان عنوانه (نعي منظمة الأوبك).

نجم يأفل وتنمية ترتبك

اجتماعات وزراء النفط في منظمة الأوبك التي كانت تشد معظم وسائل الإعلام العالمية ويخرج منها الوزراء ليدلي كل منهم بتصريح يرفع بحد ذاته أو يخفض أسعار النفط في السبعينيات, لم تعد مثل هذه الاجتماعات اليوم تلفت نظر أحد لا في الإعلام العالمي ولا في الدول المستهلكة للنفط, ولم تكن دول منظمة الأوبك هي الوحيدة في العالم الثالث المنتجة والمصدرة للنفط ولكن صارت هناك دول أخرى في هذا العالم المسمى بالثالث تنتج النفط وإن ظلت خارج المنظمة.

بجانب الإنتاج خارج منظمة الأوبك فإن الخبراء يلقون باللائمة في تراجع دور هذه المنظمة على قصور في سياسات الأعضاء, الذين دللوا كثيرا على أنهم أعداء لأنفسهم, فقد اشتد التنافس بين الأعضاء في تكثيف الإنتاج والقرارات السياسية وليس الاقتصادية التي أجبرت المنظمة على اتخاذها مما سبب تراجعاً في القدرة على التأثير في أسعار سلعة النفط عالميا, ويمكن رصد العوامل التي أثرت في قدرة المنظمة على الاحتفاظ بسعر معقول للنفط والتي يأتي على رأسها التقدم الهائل في التقنية خاصة تقنية البحث عن النفط ويتبعه بالتالي خفض كبير في الاستثمار في هذه العملية, كما أن ظهور منتجين جدد في مناطق جديدة من العالم مثل دول وسط آسيا (دول الاتحاد السوفييتي السابق الآسيوية) والتوجه العالمي نحو الخصخصة, وهنا تتكلم الأرقام عن نفسها, فمن سقف بلغ 283 بليون دولار قيمة دخل النفط لدول منظمة الأقطار المصدرة للنفط مجتمعة في سنة 1980 تراجع الدخل إلى 77 بليون دولار في سنة 1986 ثم ارتفع الدخل قليلا في سنة 1995 ليصل إلى 132 بليونا (ولكنه لايزال أقل من 100 بليون عما كان في سنة 1980) هذه الخسارة في الدخل, إن حسبنا هامش التضخم فإن هذه الأقطار في الحقيقة قد خسرت أكثر كثيرا من الأرقام الصماء التي عرضناها, ولم تعد هناك دولة مصدرة للنفط مهما كانت قدرتها على التصدير إلا وعانت من عجز فادح في ميزانيتها خلال التسعينيات مما سبب تراخياً واختناقات في تمويل التنمية.

إن كثيراً من الدول العربية المصدرة للنفط قد بنت برامجها التنموية على توقعات صادرات النفط, والكثير من هذه الدول وهي الدول العربية في الخليج قد عايشت حربين كبيرتين هما الحرب الإيرانية ـ العراقية وحرب احتلال وتحرير الكويت, وقد استلبت هاتان الحربان مبالغ هائلة من احتياطات هذه الدول, أثرت على برامجها التنموية, كما أثرت على قدرتها في التعاون الإقليمي خاصة العربي منه, فقد كانت هذ الدول تقوم بدعم مباشر أو غير مباشر لاقتصادات بعض الدول العربية الأخرى, وقد قيل عن حق إن النفط هو الثروة الوحيدة التي استطاع العرب مهما بعدت أقطارهم أن يحصلوا على مشاركة معقولة فيها, فهناك مثلا قطاع السياحة العربية والذي يدر قدرا كبيرا من مصادر الدخل القومي لبعض الأقطار العربية وما يتبعه بالطبع من انتعاش في قطاعات أخرى مثل العقار والصناعات الخفيفة والصناعة الفندقية, ولقد شهد هذا القطاع في فترة الوفرة المالية النفطية انتعاشاً كبيرا, بجانب ذلك العمالة التي استطاعت أن تجد لها مكسبا للعيش الشريف والمساعدة في التنمية المحلية أيضا من دول الفائض البشري العربي إلى دول الحاجة إلى اليد العاملة, هذا القطاع تبعته أيضا التحويلات المالية التي كانت هذه اليد العاملة تحولها لأهلها وذويها مما يساعد على بناء احتياطات جيدة بالعملة الصعبة في تلك الأقطار, كل ذلك عدا الاتفاقات الاقتصادية المباشرة في تمويل قطاعات البنية التحتية وقطاعات الزراعة وغيرها.

وفي دول النفط

لايستثنى قطاع من قطاعات الخدمات أو الصناعات التحويلية في الدول المنتجة للنفط من أن يحصل على نسبة تكبر أو تصغر من الإعانات المباشرة أو غير المباشرة من مدخول النفط, فالمواطن أو المقيم مثلا في بعض الدول العربية الخليجية لايدفع من التكلفة الحقيقية لاستهلاك الكهرباء إلا ربعها وفي بعض الأوقات أقل من الربع, ومثل ذلك أسعار المياه والسلع الاستهلاكية المختلفة, بل إن بعض هذه الدول تقدم المكالمات التليفونية المجانية, وترعى المواطنين بخدمات إسكانية أيضا شبه مجانية, أما في قطاع التطبيب والتعليم فإن معظم الخدمات تقدم بالمجان بما في ذلك الأدوية والعمليات الجراحية, كما أن التعليم شبه مجاني من الروضة إلى الجامعة, ولايدفع الفرد مواطناً أو مقيماً أي شكل من أشكال الضريبة المباشرة, لا على دخله, ولا على ما يستهلكه من سلع وأدوات, وتفرض ضريبة رمزية لاتتجاوز في المتوسط الـ 5% على الواردات, هذه الخدمات المجانية وشبه المجانية, يحاجج البعض اليوم أنها قد كانت ضرورية في بداية الإقلاع التنموي وبناء الدولة الحديثة وقلة أو ندرة السكان وتوافر المال اللازم لتمويل هذه البرامج من جراء إنتاج وتصدير النفط, وتعويض المواطنين عما لاقوه من حرمان سابق, ولكن يكمل هذا البعض أنه بعد أن استوت الدولة الحديثة على أشدها قائمة على قاعدة من القانون والاقتصاد الحديث, فإن الدولة لم تعد ملزمة بكل ذلك الذي كانت تقدمه, خاصة في ضوء تناقص مداخيل النفط من جهة ووصول هذه المجتمعات إلى مرحلة النضج من جهة أخرى, إلا أن المعضلة هي في إعادة التثقيف للمواطنين لدفعهم نحو تحمل بعض أعباء التنمية في القادم من السنين, وهنا يبرز سؤال له علاقة بسيكولوجيا الجماعية, فقد كانت الأجيال السابقة من هؤلاء المواطنين لاتقبل عناية الدول بها وكانت تعتبر ذلك عجزا في القدرة على كسب العيش, ويذكر أمثالي من المخضرمين أن البعض كان يعتبر المسكن الذي توفره له الدولة عارا اجتماعيا, وكان السكن في (بيوت الحكومة) مصدر نقص اجتماعي, ولكن رعاية الدولة النفطية الحديثة وتوفيرها لكل المستلزمات قد قلب الآية رأسا على عقب بعد ذلك, المزيد من الخدمات, عكس هذا (النورم) ليس بمشكلة في المستقبل لأن الناس يمكن أن تتكيف ولكن تحتاج إلى برامج توعية جادة, حيث إن هناك مخاطر اجتماعية وغيرها يمكن أن تظهر في حالة الانحسار الحاد لأسعار النفط و بقاء الجمهور العام يتوقع ما كان قد درج عليه من حياة سهلة في جانبها التمويلي على الأقل.

عوامل عربية

من المؤكد أن الصورة العامة التي قدمتها في السطور السابقة ستثير نوعاً من الصدمة الاكتئابية لدى الكثيرين, الآملين في مستقبل عربي أفضل. ولأن الحديث عن المستقبليات يظل اختياراً بين احتمالات قابلة للحدوث أو ممتنعة عنه, فإنني أعيد تقليب الأمر اعتماداً على إعادة بحث المتغيرات الماثلة والقادمة قريبة المدى.

فماذا يمكن أن يتغير? وما مدى هذا المتغير أو ذاك بأسعار النفط مستقبلاً?

لا أستطيع أن أبدأ حديثا في هذا الإطار إلا وأجدني مقتحماً بما يحدث من اضطراب إقليمي في الساحة الخليجية, ويتعلق بهذا الصراع بين العراق والولايات المتحدة. ومهما تحدثنا عن الخطط الأمريكية, سواء في إطار إبقاء حالة الصراع المنضبط في إطار سيطرتها لدواعي مصالحها, أو تورطها أو توريطها للغير في حالة خروج الصراعات عن إمكان السيطرة واشتعال نيران النزاع أو النزاعات المسلحة, فلاشك أن هناك في عالمنا الإقليمي من يقدم هذه الذريعة أو تلك لهذا المخطط أو ذاك, من هنا, فإن استمرار حالة الصراع ـ سواء المنضبط أو المنفلت ـ في منطقتنا وعلى اتساع الساحة العربية, أمر لايدعو إلى التفاؤل إذا نظرنا لاحتمالات زواله. سواء في مستوى الـصـراعات العربيةـ العربية مـهما صـغـرت, أو الصـراع العربي ـ الإسرائيلي الذي لايوجد تفاؤل محسوس بقرب زواله.

الصراعات قائمة إذن, على المدىين القريب والمتوسط, وهذه الصراعات محرقة للقليل أو الكثير من المداخيل العربية, وفي مجال النفط, فإن أية حالة من الصراع في الأجزاء النفطية العربية أو على حدودها هي عامل سلبي يمكن حسابه طرحاً من دخل النفط, وبالتالي اعتباره مؤشر تناقص للمردود النفطي.

العامل الآخر, واضح الانتقاص من المردود النفطي على المستوى العربي, يتعلق بتوقعات الطلب على الطاقة في البلدان العربية. ولو نظرنا إلى المؤثرات المحددة لهذا العامل, وأهمها الزيادة السكانية ومايتعلق بها من متطلبات, ومصدر الطاقة المتاح والممكن في المستقبل القريب لتلبية هذه المتطلبات, فإنه من الواضح أن الطلب على الطاقة سيزداد, ولأن النفط سيظل ـ على مدى عقدين على الأقل كما يتوقع بعض الخبراء (1) ـ يشكل المصدر الأساسي للطاقة في الدول العربية عبر المشتقات الرئىسية له وهي الغاز المسال, والبنزين والكيروسين, ووقود الطائرات, وزيت الغاز, والديزل, وزيت الوقود, فإن هذه الزيادة ستكون مطروحة القيمة من المداخيل القادمة عن طريق تصدير النفط. ولأن السياسة التسعيرية لاستهلاك النفط ـ كمصدر للطاقة في البلدان العربية, والنفطية منها على وجه الخصوص ـ يتوقع ألا تذهب بعيداً في الارتفاع لاعتبارات سياسية واجتماعية, فإن مؤشر أسعار النفط سيظل مشدوداً إلى أسفل بكتلة جذب تساوي كتلة جذب زيادة الطلب على الطاقة داخل البلدان العربية.

وحتى لايكون هذا الاستخلاص معتمداً على مصدر معرفي واحد, أرجع إلى مصدر آخر(2) معتمد على دراسة للإدارة الاقتصادية التابعة للأمانة العامة لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط. وهي تؤكد عبر الدراسة التي قدمتها إلى مؤتمر الطاقة العربي الخامس أن الطلب على الطاقة في الدول العربية ككل سيصل إلى500 مليون ط م ن (أي طن مكافئ نفط) وهو ما يعادل 10 ملايين ب م ن/ي (أي برميل مكافئ نفط يومياً) هذا في عام 2010 مقارنة بـ 258 مليون ط م ن أو ما يعادل 5.3 مليون ب م ن /ي في عام 1997. وهذا يعني أن الاستهلاك سينمو بمعدل سنوي قدره 4%.

هذا على المستوى العام, أما على مستوى المجموعات فمن المتوقع أن يبلغ استهلاك الطاقة المجموعة التي تمثل الأقطار الأعضاء في الأوبك (الأقطار العربية المصدرة للنفط) 300 مليون ط م ن تعادل 6 ملايين ب م ن/ي في عام 2000 ثم ترتفع إلى 447 مليون ط م ن أي نحو 9 ملايين ب م ن/ي في عام 2010, وبالنسبة لباقي الدول العربية فمن المتوقع أن ينمو استهلاكها من الطاقة ليصل إلى 34 مليون ط م ن أو ما يعادل 0.7 مليون ب م ن/ي في عام 2000 وإلى 55 مليون ط م ن أو ما يعادل 1.1 مليون ب م ن/ي في عام 2010.

هذه الأرقام تشير إلى مدى التصاعد المتسارع لاستهلاك النفط كمصدر طاقة في البلدان العربية, وهو يساوي ـ على الوجه الآخر من الصورة ـ هبوطاً تقديرياً في مردود النفط العربي, إذا ما حسبنا حساب إهدار الطاقة وعدم استثمارها الأقصى نتيجة عوائق اجتماعية وتقنية لانظن أنه يمكن التخلص منها كاملة في المستقبل القريب.

عوامل خارجية

مادمنا نتحدث عن المستقبل, وعن عوامل التأثير الخارجي في أسعار النفط العربي, فإن هذا يستدعي أظهر اتجاهات الاقتصاد العالمي في الفترة القادمة. أي الاتجاه إلى تطبيق, أو حتى فرض اتفاقية الجات على الاقتصادات العربية.

وبرغم أن النفط في الاقتصادات العربية هو في معظمه سلعة للتصدير فإنه متأثر بشكل مواجه بقطاع الاستيراد وفي دراسة أعدتها جامعة الدول العربية تجسد الآثار السلبية للجات على الدول العربية(3) وردت مؤشرات بارزة منها:

1ـ يتوقع ارتفاع أسعار الواردات من المواد الغذائية ثلاثة أضعاف, مما يعني امتصاص جزء كبير من الموارد العربية خاصة أنها تستورد ما قيمته 21 مليار دولار سنويا من هذه المواد.

2 ـ ستواجه الصناعات البتروكيماوية العربية مصاعب المنافسة الشديدة, خاصة أنها في طور النمو, كذلك ستتأثر الصناعات الكيماوية بشكل عام حيث سترتفع كلفة الواردات منها ما لم تتحسن كفاءة هذه المواد بدرجة منافسة.

هذا بالنسبة لتطبيق اتفاقية الجات للتجارة العالمية, والإصابة المتوقعة في جانب الاستيراد أساساً, وإذا نظرنا إلى النفط من زاوية أنه سلعة تصدير عربية فثمة سيناريوهات أخرى محتملة للتقليل من قيمته أو مردوده على الاقتصاد العربي. وأبرز هذه السيناريوهات هو سيناريو ضريبة الكربون وسيناريو تفعيل اكتشافات الطاقات البديلة. وهما وجهان لعملة واحدة, ولعل هذا سبب ورودهما معا في كتاب لخبير في الصناعات النفطية هو جون ميتشل (4) الذي يرأس اللجنة التوجيهية لبرامج الطاقة والبيئة في المعهد الملكي للشئون الدولية في لندن منذ ديسمبر 1993 وكان قبل ذلك مستشاراً للمديرين الإداريين في شركة (بريتش بيتروليم) وهو أحد الخبراء الذين أخذت بآرائهم اللجنة الأوربية في مراجعة سياستها النفطية في التسعينيات, أي على مشارف القرن القادم. ومن رؤى جون ميتشل نتوقف أمام التالي:

إن هناك محركات لسياسة الطاقة الأوربية (والغربية عموما, وبالتالي تنسحب على العالم الصناعي بشكل أعم). هذه المحركات بدأ دورانها منذ عام 1968 بعد توقف أو نضوب صادرات النفط العربي إلى الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا أثناء حرب 1967.

وكانت أول فعالية تتحرك ضمن هذه المحركات هي سياسة تكوين احتياطي استراتيجي من النفط, وتطبيق شعار إمدادات كافية بأسعار معقولة (أي أسعار رخيصة بالطبع). بعد ذلك تسارعت آلية الزيادة الكبيرة في الإنتاج الأوربي (والغربي عموما) من النفط.

إذن كانت المحركات الأولى رفع الرصيد وبالتالي تقليل الحاجة الفورية إلى النفط, ومن ثم تقليل سعره. أما المحركات التالية فقد كانت تختص بطريقة تعامل مختلفة مع الرصيد المتوافر سواء كمخزون مستورد أو منتج وكامن أوربي وغربي. وهذه المحركات تنصب على ترشيد استهلاك الوقود الأحفوري بآفاق بيئية. وهي آفاق سياسية أيضاً, قد يكون العالم الصناعي مخلصاً في نشدانها لأجل البشرية عامة, لكن الأكثر تأكيداً هو تحقيق مصالح ذاتية ولو من رفع شعارات البيئة. فضريبة الكربون والطاقة التي قد تغيب عن المسرح حيناً لكنها لن تختفي في كل الأحيان, تعني إعادة تدوير العائدات إلى بقية قطاعات الاقتصاد, وتقليل الضرائب الأخرى المثيرة للقلاقل الاجتماعية مثل ضريبة العمل.

وإذا أضفنا إلى ماسبق دخول منطقة بحر قزوين كمصدر وافر جداً لإمدادات النفط العالمية, فإن هذا يعني ببساطة زيادة المعروض ومن ثم هبوط السعر والضحية هنا كل منتجي النفط عامة والعرب خاصة, وتحديداً آفاق التنمية العربية.

هل هناك بصيص أمل ?

بالقطع لايوجد تشاؤم مطلق مادامت الحياة مستمرة, وليس هذا من قبيل ترديد الأقوال المأثورة, ولكن من واقع أن دوران عجلة الحياة يتضمن في ثناياها إمكانات لفعل أفضل, ومن ثم فإن أي أمل مرهون بهذا الفعل الأفضل.

ولعل السبيل لبلوغ فعل أفضل في مأزق النفط العربي الآني والمستقبلي هو في انتزاع الأفضل من الأسوأ. وعلى سبيل المثال مما ذكرناه, ما يتعلق بالعسر المتوقع حيال التحديات العالمية التي ستواجهها صناعة البتروكيماويات العربية عامة والخليجية خاصة. فهذا العسر يمـكن أن يتحول تحت شرط الفعل الأفضل إلى يسر.

وصناعة البتروكيماويات العربية عموماً والعربية خصوصا تضم في أحشائها مؤشرات طيبة يمكن تصعيدها باتجاه الفعل الأفضل الذي قصدت. فمن بين البتروكيماويات الشائعة الاستخدام (البولي إيثيلين, الميثانول, جلايكول الإيثيلين, ميثيل ثلاثي بيوتيل إيثر) ينتج في المنطقة ما يصل إلى 11% من الإنتاج العالمي, و70% من المشاريع البتروكيماوية القائمة في المنطقة ذات ملكية مشتركة مع شريك أجنبي وهذا مؤشر ثقة دولي وحاجز حماية نسبي من مخاطر المنافسة الخارجية, فالشريك لن ينافس نفسه ولو بدرجة ما.

هذه الصناعة العربية القائمة متاح التوسع فيها وتطويرها, على الأقل بحساب أن المخزون العربي الضخم من الهيدروكربونات (الغاز الطبيعي والبترول الخام) لايتناسب مع الحجم المتواضع من إنتاج البتروكيماويات العربية الحالي.

وإذا أضفنا إلى آفاق الكم شروط الكيف لعثرنا في المستقبل على مورد أكثر تفاؤلاً من النفط العربي. وهذا الكيف تم التحرك نحوه فعليا في الدول الصناعية المتقدمة, بجعل الصناعات النفطية صناعات نظيفة ومن ثم صناعات مستقبلية قادرة على المنافسة في عالم الغد.

أمر آخر يلوح لي مستوحياً من رؤية لعالم عربي معروف ومهتم بالشأن العام وهو الدكتور رشدي سعيد(5) ففي حديث استشرافي لمصر في القرن الواحد والعشرين اقترح ـ وهو عالم جيولوجيا مرموق ومستشار علمي دولي يعيش الآن في الولايات المتحدة ـ رأى أن تصدير النفط إهدار والأجدى منه استغلاله محليا للحصول على الطاقة لأن كل مشاريع التنمية عصبها الأساسي هو الطاقة سواء في تخضير الصحراء أو في تصنيع المدن.

وإذا كانت هذه الرؤية تصدق على مصر كرؤية لبعض النجاة غدا, فإنه يجب ـ على الأقل ـ فتح باب نقاشها على المستوى العربي العام.

النفط العربي في مأزق مستقبلي كبير, والأرق حول مستقبل التنمية كبير بنفس القدر, ولاسبيل لعبور المأزق والخلاص من الأرق إلا بفعل أو أفعال كبيرة أيضاً, وأول هذه الأفعال الكبيرة المطلوبة هو الخلاص من ألغام الصراعات العربية أولا, ثم الصراعات الأخرى بعد ذلك. عندئذ يكون الحديث عن واقع أو مستقبل التنمية العربية مطبوعاً ـ على الأقل ـ ببعض التفاؤل.

 

محمد الرميحي