مبدأ حرية التجارة.. من وجهة نظر أخلاقية بحتة

 مبدأ حرية التجارة.. من وجهة نظر أخلاقية بحتة

منذ بضعة شهور جاء إلى القاهرة اقتصادي أمريكي شهير هو الأستاذ ستانلي فيشر، الذي يشغل الآن منصب النائب الأول لمدير صندوق النقد الدولي، وألقى محاضرة في أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة عن مستقبل الاقتصاد المصري، رسم فيها صورة وردية للغاية لما يتوقعه لمصر من ازدهار اقتصادي نتيجة أخذها بمبدأ الحرية الاقتصادية، حرية التجارة وفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية الخاصة. وفي أعقاب المحاضرة قال أثناء رده على المناقشين إنه أثناء عمله كأستاذ في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، ذلك المعهد الشهير في الولايات المتحدة، سأله أحد زملائه مداعباً: هل يمكنك أن تدلني على مبدأ اقتصادي واحد يتفق الاقتصاديون جميعا على صحته، ولا يكون مع ذلك بدهيا وواضحا بذاته، بحيث يمكن لأي شخص-بالمنطق السليم وحده- أن يصل إليه دون مساعدة من الاقتصاديين؟ يريد بذلك توجيه النقد إلى الاقتصاديين بأن ما يقولونه ويكتبونه لا يخرج عن أحد أمرين : إما بدهيات لا تحتاج إلى أي جهد لاكتشافها، أو آراء لا يتفق الاقتصاديون على صحتها، فرد عليه الأستاذ فيشر بقوله: هناك نظرية النفقات النسبية فالاقتصاديون متفقون على صحتها، وهي ليست من البدهيات.

هذه النظرية التي تعرف أيضاً باسم " نظرية المزايا النسبية" ترجع كما يعرف دارسو الاقتصاد إلى الاقتصادي البريطاني الشهير دافيد ريكاردو، وخلاصتها في كلمتين أنك إذا كنت بصدد دولتين وسلعتين، تنتج إحدى الدولتين " ولتكن بريطانيا" كلتا السلعتين بكفاءة أكبر " أي بنفقة أقل " من الدولة الأخرى " ولتكن البرتغال"، ولكن كانت درجة تفوق بريطانيا في إحدى السلعتين أكبر من درجة تفوقها في الأخرى، فإن من مصلحة الدولتين أن تتخصص بريطانيا في إحدى السلعتين، وتتخصص البرتغال في الأخرى، وتقوم التجارة بينهما على هذا الأساس، ومن ثم فمن الخطأ التدخل بتقييد حرية التجارة، مادامت هذه التجارة تحقق مصلحة الدولتين. والدرس المستخلص من هذه النظرية، أن على كل دولة أن تتخصص في تلك السلعة التي تتمتع فيها " بميزة نسبية"، أي التي تنتجها بنفقة أقل من نفقة الإنتاج في الدول الأخرى، حتى ولو كان هذا التفوق " نسبيا" وليس " مطلقا " كما في المثال الذي ذكرناه حالا.

نفقة الإنتاج

وريكاردو يستدل على انخفاض نفقة إنتاج سلعة في دولة عنها في أخرى بانخفاض سعرها. إذ إنه طبقا لنظرية الأسعار التي كان يؤمن بها تتحدد الأسعار بنفقة الإنتاج " وكان يرد نفقة الإنتاج إلى عنصر العمل وحده ولكن هذا لا يهمنا بتاتا في هذا المقال ومن ثم فإن انخفاض السعر في نظر ريكاردو معناه انخفاض النفقة، أي ارتفاع الكفاءة.

نحن لا نقول هذا الآن بالطبع، بل نقول إن السعر يتحدد بالعرض والطلب، ولكن القول إن السعر يتحدد بنفقة الإنتاج، كما قال ريكاردو، لم يفقد صحتة كلية، فإنه لا يزال صحيحا في المدى الطويل، وفي ظل المنافسة الكاملة حينما يزول أثر الطلب ينخفض السعر بفعل المنافسة إلى حده الأدنى، حيث يتساوى مع نفقة الإنتاج.

اعتراضات مهمة

ولكن حتى إذا صرفنا النظر عن الاحتكار، الذي أصبح بصورة أو بأخرى هو القاعدة وليس الأستثناء، وصرفنا النظر عن الإعانات الحكومية والضرائب، ما زال هناك اعتراضان مهمان على هذا التصور للأمور:

الاعتراض الأول : أن الأسعار قد تعكس النفقة التي يتحملها المشروع ولكنها لا تعكس بالضرورة النفقة التي يتحملها المجتمع ككل. هذا الاعتراض معروف بالطبع ومألوف لدى الاقتصاديين، ولكن المدهش هو تجاهله المستمر من جانب أنصار حرية التجارة، فمناقشاتهم وحججهم يدور الجزء الأكبر منها على أساس أن الدولة التي تنتج سلعة بنفقة أقل لابد أن تكون هي الأكثر كفاءة، مع أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا إلا بفرض التساوي بين النفقة الخاصة مع النفقة العامة، إذ ليس هناك أي دليل على الكفاءة في قدرة المنتج على إنتاج سلعة بنفقة قليلة إذا كان المجتمع يتحمل النفقات باهضة في سبيل إنتاجها دون أن يتحملها المنتج. الأمر واضح في حالة حصول المنتج على دعم من الدولة يمكنه من بيع سلعته بسعر منخفض دون أن يكون عالي الكفاءة في إنتاجها، ولكن هناك أيضا حالات كثيرة تكون فيها النفقة التي يتحملها المنتج منخفضة بسبب ما أنفقته الدولة عبر عشرات السنين الماضية ولا تزال تنفقه على الطرق والكبارى ومصادر الطاقة، والتعليم، وغيرها من أنواع البنية التحتية التي يفيد منها المنتجون ولا يتحملون نفقاتها، دون أن يعني ذلك أن هؤلاء المنتجين أكثر كفاءة من منتج آخر لنفس السلع في دولة أخرى لا تنفق " أو لم تنفق في الماضي" مثل هذه النفقات الهائلة على البنية التحتية، ومن ثم لا يبذل المجتمع ككل " أو لم يبذل في الماضي " تضحيات مماثلة من أجل إنتاج هذه السلعة.

كذلك فإن النفقة التي يتحملها المنتج لإنتاج سلعة، قد تكون أقل كثيرا من النفقة التي يتحملها المجتمع ككل بسبب ما يترتب على هذا الإنتاج من تلوث أو إضرار بالصحة أو بالأمن أو بنوعية الحياة بصفة عامة، دون أن تفرض الدولة أي ضريبة أو عقاب من أي نوع على المنتج لما يسببه من أضرار.

الاعتراض الثاني: أن السعر قد يكون منخفضا " وكذلك النفقة " لأسباب تتعلق بالظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة دون أن يكون لهذا أي علاقة بارتفاع الكفاءة. فالسعر " وكذلك النفقة" قد يكون منخفضا لأن الأجور منخفضة، والأجور منخفضة بسبب شيوع البطالة والبؤس، أو بسبب سياسة قمعية تمنع العمال من المطالبة بأجور أعلى، فأي كفاءة يمكن أن تستنتج من ذلك؟

إن أجر العامل المكسيكي في بعض القطاعات قد يكون أقل من عشر أجر العامل الأمريكي في نفس هذه القطاعات، فهل يعني هذا أن المنتج المكسيكي أكثر كفاءة من المنتج الأمريكي لنفس السلعة، مما يبرر تخصص المكسيك في هذه السلعة، مما يبرر تخصص المكسيك في هذه السلعة وامتناع الأمريكي عن إنتاجها؟ هل انتقال إنتاج هذه السلعة من أمريكا إلى المكسيك في هذه الحالة معناه استخدام أكثر رشدا لموارد العالم الاقتصادية؟ بالطبع لا. أو ليس معنى ترشيد استخدام الموارد هو تخفيض حجم التضحية التي تنطوي عليها عملية الإنتاج؟ فهل انتقال الإنتاج من أمريكا إلى المكسيك في هذه الحالة ينطوي على تخفيض لحجم التضحية؟

كلا بالطبع إن العامل المكسيكي أرخص من العامل الأمريكي، هذا صحيح، ولكن هذا لا يعني أن استخدام ساعة من العمل المكسيكي ينطوي على تضحية أقل " من وجهة نظر العالم ككل " مما ينطوي عليه استخدام ساعة من العمل الأمريكي. إن العامل المكسيكي هو فقط أكثر فقرا، ولكنه ليس أقل " قيمة" ، وعمله لا ينطوي على قدر أقل من التضحية الإنسانية.

وقل مثل هذا على بلد كالولايات المتحدة ترتفع فيها بشدة نفقات التأمين ضد مختلف الأخطار التي يواجهها المنتجون، حقيقية كانت أم موهوبة، بالمقارنة ببلد كاليابان مثلا، مما يجعل نفقات إنتاج بعض السلع في الولايات المتحدة أعلى منها في اليابان. فهل هذا يجعل المنتج الياباني لهذه السلعة أكثر كفاءة؟ إن الاختلاف لا يعدو أن يكون اختلافا في الظروف والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية ولا يمثل اختلافا في مستوى الكفاءة في التنظيم أو العمل.

هل هي حماقة اقتصادية ؟

يترتب على ذلك إنه إذا كانت الحكومة المصرية قد قررت يوما أن تنشيء مثلا صناعة للصلب في مصر على الرغم من أنه كان من المتاح لها أن تستورد نفس السلعة من الخارج بسعر أقل، فإن هذا لا ينطوي بالضرورة على حماقة اقتصادية لمجرد مخالفته للتطبيق الحر لنظرية النفقات النسبية. ذلك أنه إذا اضفنا كل النفقات الاجتماعية التي تتحملها مصر بسبب الاستيراد، وإذا خصمنا من نفقة الإنتاج في مصر قيمة كل المزايا التي تعود على مصر من وراء إنتاج الصلب داخل البلد، وكل ما يمكن أن يعود على الصناعات الأخرى من مزايا من وراء إنتاج الصلب محليا، فإن حجم النفقة الحقيقية " بمعنى التضحية" لإنتاج الصلب داخل مصر قد يكون أقل من السعر الذي يمكن أن تستورد به. نعم، لا خلاف على سلامة المنطق الأساسي الي يكمن وراء نظرية النفقات النسبية، فهو في الحقيقة بدهي أكثر مما قد يظن الأستاذ ستانلي فيشر، وإنما الخطأ هو في الاعتقاد بأنه في كل حالة نجد فيها السعر منخفضا في دولة عنه في الدول الأخرى تكون تلك الدولة أكثر كفاءة من غيرها.

لماذا إذن يشيع ذلك الاعتقاد بأن على كل دولة أن تتخصص فيما تنتجه بنفقة أقل مما ينتجه غيرها، ومن ثم على الدولة أن تترك التجارة حرة دائما، حتى يسمح للتخصص الدولي بأن يجري على هذا النحو؟

إن سبب شيوع هذا الاعتقاد في مبدأ حرية التجارة ليس استناد هذا المبدأ إلى حقائق علمية، بل إلى موقف قيمي يعتبر أن من القيم الأخلاقية العليا " البحث عن أرخص الأشياء" . إن وراء هذا البلد ليس السعي إلى تخفيض حجم التضحية الإنسانية إلى الحد الأدنى ، كما يحب أنصاره أن يعتقدوا، بل السعي إلى تعظيم الأرباح. وتعظيم الربح شيء، وتخفيض حجم التضحية الإنسانية شيء آخر.

 

جلال أمين