"الدونمة" يهود تركيا: أشهروا إسلامهم وأضمروا كيدهم

"الدونمة" يهود تركيا: أشهروا إسلامهم وأضمروا كيدهم

قال (أبا ايبان), أحد أقطاب حزب العمل الاسرائيلي ووزير الخارجية الأسبق كلاما يفهم من أن اليهود في الدولة العثمانية تعرضوا لصنوف من الضغوط والاضطهاد, جعلتهم يتخلون عن دينهم ويعتنقون الإسلام, فما وجه الصحة فيما قال? هل دخل اليهود حينذاك في الدين الإسلامي اقتناعا أم امتهانا?

الحقيقة والواقع ينفيان كلا السببين, فمن يسلم هداية يصبح ملتزما ومحبا بدرجة قد تفوق بعض المسلمين أصلا ,في حين نرى اليهود الذين أسلموا هم أشد عداوة للإسلام في تركيا, وقادة الموجة الداعية إلى محاربة كل ما يتعلق بالدين الحنيف. أما الاضطهاد, فقد عانى منه اليهود في معظم دول العالم عبر القرون باستثناء العالم العربي والإسلامي, الذي عاملهم بالتسامح والرعاية والعدل طبقا لما توصي به الشريعة السمحة, إذن ما هو السبب وراء دخول أولئك اليهود في الإسلام?

إنها فكرة شيطانية خطرت لواحد من أدهى رجال الدين اليهودي ويدعى (شبتاي زيفي ولد موردخاي) من مدينة (أزمير), بهدف اختراق الأمة التركية, والعبث بمعتقداتها, وتمزيق وحدتها. ولقد أعلن الحاخام إسلامه حين فشلت آخر محاولة له لتضليل الأمة التركية وإفسادها, وانكشف أمره وأسقط في يده, وكاد ذلك يكلفه حياته وحياة أتباعه, إلا أن الخديعة لم تنطو على غالبية الشعب التركي المتمسك بدينه إيمانا وفطرة, فبدلا من أن يطلق عليهم لقب (المهتدين) دمغهم وأنسالهم بلقب (دونمة) وتعني المرتدين.

النبي الكاذب

والآن لنبدأ القصة من أولها:

ففي عام (1665) ادعى حاخام في أزمير يدعى (شبتاي زيفي) أنه المسيح ابن الله, بعثه ليهود العالم مرشدا ومنقذا, وكان أول بيان له كما يلي: (من ابن الله الولد الأول والوحيد له (شبتاي زيفي), المسيح والمنقذ الإسرائيلي, إلى بني إسرائيل السلام. لما كان لكم شرف المعاصرة لخلاص بني إسرائيل, ولنحقق ما أخبر به الأنبياء, والآباء, تحولت آلامكم إلى مسرات وصيامكم إلى التنعم بالملذات. يا بني إسرائيل, لن يكون لكم بعد اليوم بكاء وقد منحكم الله قوة للتأسي يصعب التعبير عنها. حافظوا على عباداتكم التي اعتدتم عليها من قبل ما عدا يوم الحزن والحداد, فإنه ـ تكريما لقدومي ـ يتحول إلى يوم شكر ومسرة. لا تخشوا شيئا أبدا فإن حاكميتكم ستشمل جميع الشعوب وستكون على الكائنات الحية كلها, سواء التي على وجه الأرض أو التي في أعماق البحار).

وتنتشر دعوته, ويكثر أتباعه, ويشاع الكثير عن معجزاته, وأهمها أنه لا تخترق جسمه السهام ولا تعمل فيه السيوف والحراب. وتصل أخباره إلى الآستانة, ويرى فيه رجال الدولة العثمانية نشاطا هداما يسمم العقول الساذجة, فيأمر السلطان العثماني في ذلك العهد (محمد الرابع) بإحضاره إلى القصر في جلسة خاصة حضرها السلطان نفسه والصدر الأعظم (أحمد باشا الكوبرلي) ونخبة من رجال الدولة, وأخبروه أنه تأكيدا لصدق دعوته, سيعرضون جسده لوابل من السهام من ثمانية من أمهر الرماة. وكما كان متوقعا, ارتعد الرجل من رأسه إلى قدميه, وحاول أن ينكر كل شيء, ولكن القرائن كانت دامغة, حينئذ خطرت له فكرة شيطانية يلجأ فيها إلى خديعة ينجو بها برأسه وينقذ حياته, لاختراق الأمة التركية وتضليلها, فأخذ يتوسل إلى السلطان ويعده إن عفا عنه سيعتنق الإسلام, وسيكون من دعاته المخلصين, ولربما كان سببا في هداية اليهود إلى الإسلام, وهكذا أشهر الرجل إسلامه وسمى نفسه (محمدا), ولبس الجبة والعمامة, وعين له راتب شهري وخصص له جناح في القصر درءا للفساد, ولكيلا يختلط بالناس ويعود سيرته الأولى.

ويذكر المؤرخون أن إسلامه كان نكبة على الدولة الإسلامية والمسلمين بقدر ما كان انتصارا لليهودية العالمية. فإسلامه كان مجرد كلمة فاه بها لينجو برأسه وليخلق سرطانا رهيبا في الجسم العثماني يستفحل وينتشر, وينتقل بالوراثة من جيل لآخر, محافظا على نشاطه الهدام. إذ ما لبث (المهتدي) أن طلب إذنا من القصر ليقوم بنشاط جدي, يدعو فيه ذويه وأقاربه ومن يثق به إلى الإسلام. وقد استجاب القصر لذلك, فسمحوا له بجولات في أنحاء البلاد وأطلقوا وراءه رجال المخابرات. فماذا كانت النتيجة? لقد أخذ الرجل يدعو كل من استمع إليه والتف حوله من اليهود في تركيا, إلى أن يشهروا الإسلام بأفواههم, ويمارسوا نشاطا هداما, لإفساد الأمة التركية وجعلها آلة في أيدي الصهيونية.

مركز الدونمة

وأشهر اجتماع انكشف فيه أمره كان في إحدى ضواحي اسطنبول على البوسفور تدعى (كورو جشمه), حيث ضبط يخاطب أتباعه بالعبرية, وأهم ما قاله: (الآن وقد أصبحتم مسلمين, اعملوا بكل حرية. عليكم ان تسيطروا على المصادر الدينية والطبيعية والمالية والتجارية والروحية والحيوية للأتراك, واستنفروا في سبيل ذلك كل إمكاناتكم, واستخدموا مختلف الوسائل حتى تتم لكم السيطرة الشاملة عليهم). حينئذ ألقي القبض على الرجل, وكان من المفترض أن يعدم لولا أن تدخل شيخ الإسلام ونصح بنفيه إلى مكان يؤمن فيه شره, لان قتله سيجعله شهيدا ويضاعف من الأساطير التي أشيعت حوله. وهكذا تم نفيه إلى (سلانيك) ولحق به الكثير من أتباعه. وهكذا أىضا تحولت المدينة إلى مركز للدونمة, ومصدر إشعاع للخيانة والتآمر والأفكار المسمومة, فيها وضعت كل الخطط التي أدت إلى تصفية الدولة العثمانية, ومنها انبعثت كل الأفكار التي اتخذت طابع التحرر وعملت في الشخصية التركية تحطيما حتى تمكنت من تسخير فئة غير قليلة لمآربها, ووجهتها وجهة لا يربطها بالعرب والمسلمين إلا العداء والنفور. من (سلانيك) تخرج كل من ساهموا في تحقيق المطامع الصهيونية, وفيها زرعت بذور البغضاء بين الأتراك والعرب, وحيكت المؤامرات لتفتيت الدولة العثمانية وتوزيعها على دول الغرب وإقامة دولة إسرائيل. وفي مقدمة هذه الفئة: رءوس الاتحاديين وجلادوهم: جمال وأنور ونيازي.. وآخرهم مصطفى كمال الذي لقـب بعد انقلابه بـ(أتاتورك) أي أبو الأتراك.

وفور أن استولى الاتحاديون على السلطة بمساندة المثلث المشئوم,كان أول شيء فعلوه أن فتحوا لهم أبواب اسطنبول والمدن التركية الكبرى بل وحتى أبواب فلسطين أىضا ليهاجر إليها اليهود ويستوطنوا فيها. وإلى سلانيك نفي السلطان عبدالحميد الثاني, الذي ـ على الرغم من كل ما كتب عنه من أباطيل ـ يثبت التحليل الموضوعي لوقائع التاريخ, أنه كان ذا توجه إسلامي وعربي في سياسته, كما أنه وقف ضد أطماع الصهيونية في فلسطين ورفض اعطاءهم أي امتيازات بالرغم من العروض المغرية لدعم ميزانية الدولة بمبالغ طائلة من المال.

فرض السيطرة

في اسطنبول بدأت جماعة الدونمة بالسيطرة على مقدرات البلاد, بدءا بالحكام, والعسكريين فرجال الدين, حتى أن أول شيخ للإسلام عين في بدء عصر نفوذهم كان: موسى كاظم أفندي في 12/7/1990 في أوائل عهد الاتحاديين, وأخذت تصدر عنه تصرفات وفتاوى تخدم أغراضهم وتبرر تصرفاتهم. ثم وضعوا أيديهم على موارد البلاد فجرى تعيين (دونمة جاويد) وزيرا للمالية, وفي عهده تقدم الدونميون في المجالات الاقتصادية, والتجارية, واستطاعوا بالربا الفاحش والاحتكار وبالاحتيال والاستغلال أن يسيطروا على الأسواق الداخلية. ثم انتقل نشاطهم إلى الاعلام والثقافة, فأسسوا صحفا تدعو لكل ما يتنافى مع الإسلام ويزعزع ثقة التركي بمعتقداته وتراثه. فأصدر (أحمد أمين يالمان) جريدة (الوطن), ثم قدموا الدعم المالي لبعض أتباعهم لإصدار الصحف الموالية لهم كصحيفة (حريات), وأغلب صحف اليوم, إما يملكها ويديرها الدونمة, أو تتلقى الدعم المالي منهم, شريطة أن تسير في فلكهم وتحقق أغراضهم. من هذه الصحف نذكر (ملليات) ومؤسسها ورئيس تحريرها إلى أن اغتاله أنصار التوجه الإسلامي بعد أن تجاوز الحدود في تجرئه على المقدسات الإسلامية, هو (عبدي ايبكجي أوغلو), وجريدة (صباح) الأكثر انتشارا والأشد عداوة للإسلام والمسلمين, والعرب باعتبارهم حملة الرسالة. ثم قام (عمر رضا دغرول) وهو من الدونمة أيضا بترجمة القرآن ودعا إلى قراءته في الجوامع والصلوات بالتركية, كما ترجم الأذان ومنع الأذان بالعربية, وألف (ألف تكين الب) وهو يهودي الأصل وكان يدعى قبل إسلامه (وايز كوهين) ـ كتابا أسماه (التتريك) ونشره بين طبقات الشعب, يدعوهم فيه إلى نبذ كل ما يتعلق بدينهم وتراثهم لأنها رموز التخلف والرجعية, ولقد ورد في احدى صفحاته (ومما لا ينكر أن الدين شيء إضافي, أو بعبارة أخرى أمر ثانوي بالنسبة للإنسان وتنظيم حياته. وأن الذين فسدت مشاعرهم السامية وتحللت روابطهم القومية, فالدين لهم, والدين عندهم كل شيء).

أكثر من انقلاب

ثم كانت انقلابات (أتاتورك), والرجل من سلانيك, وهناك شبهات حول جذوره, فأبوه (رضا) كان موظفا في الجمارك ويقال إنه من الدونمة, وأمه (زبيدة) كانت في شبابها ذات ممارسات مشبوهة. إلا أن الرجل كان قائدا عسكريا فذا, وهو بطل معارك الدردنيل أثناء الحرب العالمية الأولى, التي أفشلت حملات الأسطول البريطاني لاحتلاله. وحين قام بانقلابه اعتمد على قائد الجيش المؤمن (الجنرال فوزي جقمق) وتظاهر بأنه مسلم ملتزم ومؤمن صالح, فكان يحرص على حضور صلاة الجمعة ويدعو الله رافعا يديه إلى السماء. الا أنه ما كاد يستتب له الأمر حتى اعلن علمانية الدولة, وأخذ يقضي على كل رابطة مع العالمين العربي والإسلامي فألغى الكتابة بالحروف العربية, ودعا إلى التخلص من المصطلحات العربية في اللغة التركية, ومكّن نخبة من الدونمة من مقاليد الحكم الذين بدأوا حملة القضاء على هوية الشعب التركي بدءا بدينه ومعتقداته, وإثارة العداوة والكراهية بينه وبين العرب والمسلمين, ومازالت هذه الحملة حتى الآن.

وما حدث أخيرا خلال الخمسين سنة الماضية, يشير إلى أن كل تلك الممارسات لم تنل من عزيمة الغالبية العظمى من الشعب التركي, واعتزازه بمعتقداته والتمسك بهويته وتراثه. بل إن موجة عارمة من الدعوة إلى التمسك بالإسلام غمرت تركيا من أقصاها إلى أقصاها بما في ذلك المدن الكبرى.

فالشعب التركي مسلم كله, حتى أن كلمة (مسلم) أصبحت مرادفة لكلمة (تركي) وهي جزء لا يتجزأ من هويته.

ومنذ بدأ عهد التعددية الحزبية, شعر رجال السياسة بالتحرك الإسلامي فأخذوا يستجيبون له ببعض الإصلاحات الدينية التي تعتبر تراجعا عن بعض ما فعله (أتاتورك), بدءا من إقامة مدارس للائمة والخطباء على يد حزب الشعب الجمهوري, وإعادة الأذان عربيا من قبل إدارة الحزب الديموقراطي, مع السماح بالصلوات وتلاوة القرآن باللغة العربية, ثم أدخلت مقررات الدين إلى المناهج, وانتقل النشاط إلى وسائل الإعلام, وأصبحت للحركات الإسلامية صحفها ونشاطها الثقافي, وأشهرها اليوم صحف (تركيا, والزمان, ومللي غازيت), وتأسست أحزاب بأسماء ليس لها طابع ديني, إلا أنها تقوم على أساس احترام عقيدة الأمة وتعزيز روابطها بدينها والالتفات إلى ما يتلاءم وأصولها والاتجاه نحو العرب والمسلمين, والكف عن الجري وراء الغرب. فمن حركة (النوريين) في الخمسينيات إلى (رابطة القوميين) في أواخر الخمسينيات, ثم تغلغل الإسلاميين في حزب الوطن الأم بقيادة (أوزال) الذي عيّن زعماءهم وعلماءهم في مراكز ثقافية وإدارية حساسة, ثم كان حزب السلامة الوطني ومن بعده حزب الرفاة بقيادة (أربكان).

لقد بلغ الصراع بين التيار الإسلامي والتيار المعادي أشده في السنوات الأخيرة, وفي كل مرة يحقق فيها الإسلاميون تقدما وانتشارا يقوم الجيش بانقلاب يلغي فيه الأحزاب ويتسلم مقاليد السلطة باعتباره حاميا لانقلابات أتاتورك. إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل, فالتوجه الإسلامي في ازدياد. ولقد لجأ الجيش أخيرا بعد نجاح حزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي في الوصول إلى قمة السلطة فضلا عن السيطرة على بلديات معظم المدن الكبرى, إلى انقلاب مبطن خفي, وذلك بممارسة الضغط على أعضاء مجلس الأمة وحملهم بالترغيب والترهيب إلى الانضمام إلى حزب الوطن الأم الذي تنكر للحركات الإسلامية بعد أن تسلم زعامته (يلماز), ودعم الجيش تأسيس وزارة صورية يفرض من خلالها إرادته ويمارس نشاطاته.

وخطر نشاط قام به هو ذلك التحالف بينه وبين الحكومة الإسرائيلية المعادية لجميع الشعوب العربية والإسلامية بما في ذلك الشعب التركي. إلا أن من يعرف الشعب التركي يدرك أن هذا التحالف سينتهي إلى الفشل.

 

محمد طه الجاسر