عالم الأخلاق: الوعي والفعل

عالم الأخلاق: الوعي والفعل

يتصل هذا السؤال بسائر أوجه سلوكنا من تحريك جسدنا إلى أخطر الأفعال. فأنت تستيقظ من نومك, وتتساءل: هل أنام قليلا أم ينبغي عليَّ القيام فورا? وهل أنزل أولا ساقي اليمنى من السرير إلى الأرض أم ساقي اليسرى? وهل أتناول طعام الإفطار مكونا من كذا أم من كذا? وحين تخرج من منزلك, هل تضع مفاتيحك في جيبك الأيمن أم الأيسر, أم تتركها في يدك? وإذا كنت أحسست بشيء من الألم في موضع ما من جسمك, فهل تذهب إلى الطبيب على الفور أم تؤجل الأمر?... إلى آخر أمثال هذه الأمور, التي هي في الحق بغير آخر, لأن حياتنا سلسلة متصلة من الأفعال ومشروعات الأفعال وقرارات الاختيار في هذا الطريق أو ذاك.

ولكن, إذا كان سؤال: ماذا ينبغي عليَّ أن أفعل? يوضع ملايين المرات صراحة أو ضمنا, فإنه ليس في كل الحالات سؤالا اخلاقيا. فعلينا إذن أن نحدد على نحو واضح ميدان ما نسميه بالأخلاق.

ولابد من الاعتراف بأن هذا مطلب عسير, ولعل المصدر الأهم لهذا العسر هو تداخل الميادين والمفاهيم والمسائل من جهة, وغموض الأمر بسبب الاستخدام الانفعالي للغة في هذا المقام, في مقابل لغة العلم الدقيقة, من جهة أخرى, مضافا إلى هذا وذاك تعدد زوايا النظر واختلافها والاقتصار على بعضها دون البعض وإهمال البراهين العقلية وعدم الاهتمام باحترام زوايا نظر الآخرين.

الفعل والمضمون

لقد بدأنا من خيط أساسي تمثل في سؤال: ماذا ينبغي عليَّ أن أفعل? وعلينا الآن أن نصحح هذا الخط وأن نضيف إليه ليزداد تحديدا. في ذلك السؤال جانبان: جانب (ما ينبغي), وجانب (الفعل). أما الجانب الأول فإنه يمكن التعبير عن مضمونه, أو بعض مضمونه أو بما يقرب أو يقترب من مضمونه, حينما نقول: (ماذا يجب عليَّ..?, و(ما الأفضل...?), وقد نحدد ما الأفضل لي...?), ولندع جانبا الفروق الدقيقة, وقد تكون مهمة, فيما بين هذه الصيغ, لنؤكد على أمر يوجد فيها جميعا, ذلك هو إشارتها إلى مستوى عال كأن علينا أن نقفز إليه, أو قل هي تشير إلى فكرة (المثل الأعلى), أي النموذج والطراز شديد العلو, حتى لكأنه يمثل الكمال. هذه واحدة. والثانية أن الإشارة إلى (ما ينبغي) أو (الأفضل) أو (الأوجب) تتعدى ما هو قائم بالفعل, تتعدى الواقع والوقائع, كما أنها, من جانب آخر وفي نفس الوقت, تطلب الوصول إلى حكم ليس بالحكم التقريري, أو إلى قضية لا تقرر ما هو قائم, بل تحدد نحوا من الفعل لم يوجد بعد, وإنما عليَّ أن أوجده. بعبارة أخرى, الكلام الأخلاقي, أو قل على الأدق, الأحكام والقضايا الأخلاقية, لا تتحدث عما هو قائم بل عما ينبغي أن يوجد. ومن هنا نلاحظ أن الأفعال الأخلاقية, التي تترتب على القضايا الأخلاقية التي أتوصل إليها والتي مضمونها إنه من الأفضل أو الأوجب أو أنه ينبغي عليَّ أن أفعل كذا, هذه الافعال الأخلاقية أفعال (خلاقة) تضيف جديدا إلى عالم الأشياء والأحداث, وكأن الفعل الاخلاقي, كمثل العمل الفني, بناء يبني ليقف أمامنا, وسواء في هذا أن يكون الفعل قولا (قولة الحق مثلا) أو حركة تغير في نظام أشياء العالم إضافة أو نزعا أو ترتيبا (كالإحسان أو وأد الظلم أو إحقاق الحق بين أفراد مختلفين). أما الأمر الثالث الذي تشير إليه عبارة (ما ينبغي), فهو المستقبل, فالأخلاق لا تتناول الماضي, اللهم إلا للحكم على أفعال مضت, إنما هي تتجه إلى بناء المستقبل, وهي لا تحكم على الماضي إلا من أجل أن يصير ما يلي أفضل مما كان: إن الأخلاق تتطلع دوما إلى الأمام (ولنقارن هذا الوضع مع وضع العلم الذي يهمه الحاضر أولا والماضي بقدر ما يخدم الحاضر, ولكنه لا يهتم بالمستقبل اللهم إلا في حالة التنبؤ). هذا كله على جانب (ما ينبغي), ففيه الإشارة إلى المثل الأعلى وإلى الأحكام الإنشائية وإلى المستقبل, وكلها ترتبط بالأخلاق ارتباطا جوهريا ضروريا.

عالم الأخلاق

أما جانب (الفعل), فإنه هو الذي يتطلب التصحيح والإضافة. وقد أشرنا من قبل إلى أنه ليست كل الأفعال أخلاقية, إنما الأخلاقي فعل من نوع معين, على نحو ما سنبين بعد قليل. هذا في صدد التصحيح. أما الإضافة, فهي أن عالم الأخلاق ليس عالم أفعال وحسب: صحيح أن الأفعال هي مجلى الأخلاق, وهي نتيجتها, ولكنها تشكل وحسب الجانب الظاهر منها, هي قمة جبل الثلج, بينما جسم الجبل نفسه يقع تحت الماء, أي أن هناك, قبل الأفعال, يقوم ما يمكن أن نسميه بعالم (الوعي الاخلاقي), أي كل ما هو موجود وقائم في الذهن الانساني منظورا إليه من الوجهة الأخلاقية, من أفكار وعمليات وعادات وموازنات وصراع وحكم وقرار وثبات, وما يسمى بالقواعد والإرادة والعزيمة وغير ذلك, وما يتداخل مع هذا كله من عوامل نفسية وفكرية ووجدانية من أشكال متنوعة.

ونحن نميل إلى تغليب أهمية هذا الجانب الباطن, أو قل الذهني والوجدان, في الأخلاق, ومع ذلك فـإنه يكتمل بالضرورة بظهور فعل ما من الأفعال, سواء كان قولا أو حركة من نوع يسير أو خطير, من مثل هزة رأس أو هدم لمعبد.

وإذا كان الجانب الباطني أهم للذات الأخلاقية, وأهم للأصولي الأخلاقي, فإن ذلك الظاهر, أي جانب العمل, أهم للآخرين, وسوف نؤكد بعد قليل أن لا أخلاق إلا في مواجهة آخر أو جماعة بأعم ما في كلمة (مواجهة) من معان.

إن الجانب العملي في الأخلاق تظهر أهميته إذا تنبهنا إلى أنه لا أخلاق إلا في إطار الحياة, الحياة على هذه الأرض أو على كواكب أخرى إذا نجح الإنسان في السفر والمعيشة عليها (تصوير (هل الجنة) يبرز بوضوح أنهم خارج نطاق الأخلاق لوصولهم إلى حالة نهائية من حيث الكمال). والحق أن من وظيفة الأخلاق هداية الحياة الإنسانية بتحديد عناصر العيشة الفضلى. ويتصل كذلك بالجانب العملي في الظاهرة الأخلاقية أن التربية جزء جوهري من التنشئة الإنسانية, أي من عملية ترشيد توجهات الأفراد والجماعات في الحياة, ولا انفكاك ممكنا بين التربية والأخلاق سواء نظرت إلى الأمر من زاوية هذه أو تلك, فالتربية تحتوي بالضرورة على عناصر أخلاقية, والأخلاق لا تتقوم إلا بالتربية, ولكن ما التربية إن لم تكن مجموعة من الأفعال المنظمة?

الإدراك الوجداني

هذا عن الجانب العملي في الأخلاق, ونعود إلى جانب الوعي. إن الوعي حالة. وتنتج عن هذا التقرير نتيجة خطيرة: أن الوعي الأخلاقي ليس معرفة وعلما, وقوام المعرفة والعلم معارف ومعلومات عقلية توضع في هيئة قضايا واضحة قابلة في العادة (مع استثناء الرياضيات) للصدق وللكذب في مقابل الواقع, أما الوعي الأخلاقي فإنه نوع من الإدراك الوجداني المركب المتشابك, مثله مثل الإيمان الديني. صحيح أنه قد تظهر في حالة الوعي الأخلاقي وفي حالة الإيمان الديني بعض الأحكام أو حتى بعض القضايا البارزة, ولكنه جزء من كل متفاعل, فضلا عن أنها أحكام وقضايا إنشائية وليست قابلة للصدق والكذب. وإذا كان الذهن هو مكان المعرفة والعلم والوعي الأخلاقي جميعا, فإن مثل المعرفة مثل الحروف المحددة المكتوبة على صفحة من الورق, بينما مثل الوعي الأخلاقي هو مثل بقعة الزيت الممتدة المتحركة المتداخلة العناصر متفاعلتها.

ونحن نعرف أن ما يتميز به الإنسان عن سائر فصائل الحيوان, إنما هو الوعي, أي إدراك الإدراك, وهذا الإدراك المنعكس على نفسه, هو الذي سمح بأهم وأخطر ظواهر الحياة الذهنية, لأنه ربما كان أساسها كلها, ألا وهي ظاهرة ترتيب المدركات وتنظيم جوانب الإدراك ومن ثم التمييز بين بعضها وبعض, بحسب الموضوعات حينا وحسب الوظائف حينا وحسب بنائها التكويني حينا ثالثا. وأحد جوانب الوعي الذهني ذلك الأخلاقي. إنني في الوعي الاخلاقي أدرك ذاتي وهو تقديم بشتى عمليات التأمل الأخلاقي, وكأني أراقبها, وأوجهها أيضا من غير شك وأصحح خطاها بين آن وآخر.. إلى غير ذلك. وقد يرى بعض المتشائمين أن هذا الانعكاس الإدراكي إنما هو انقسام وانفصال وتعارض وصراع, وكأن فينا النفس الطيبة وتلك الإمارة بالسوء.

إن الوعي هو الذي يحدد الأفعال, ولذلك فإن جهد التهذيب والتحسين يتجه إلى الوعي, إلى المنبع, وليس إلى النتائج. نعم, الوعي الأخلاقي, لأنه متحرك ومرن, قابل للتغير, إن للأسوأ أو للأحسن, وهدف التهذيب هو إدخال قدر أعلى من التنظيم ومن الرقابة, وربما من العقلانية والصرامة, على الوعي الأخلاقي.

الاتصال بالآخر

ولكن الوعي الأخلاقي, هو الآخر, شأنه شأن العمل, لا يكون إلا بإزاء الآخر أو الجماعة, والشخص المنعزل على جزيرة والذي عرف يقينا بانقطاع كل صلاته الممكنة في المستقبل مع أي بشر كانوا, وبانقطاعه من ثم مع كل من عرف في الماضي, لن يكون له وعي أخلاقي, خاصة أن من خصائص الوعي الأخلاقي أنه يسائل نفسه دوما عن مدى توافقه أو مخالفته لوعي الآخر وللوعي الجمعي, مقدرا ما قد يصيبه من جزاء سلبي أو إيجابي, على نحو معنوي أو على نحو آخر. فأين هي الجماعة وأين الآخر على تلك الجزيرة المنعزلة إلى الأبد? لقد كان لابد لآدم من حواء, من الآخر الذي يتفاعل معه وينجب له الجماعة, حتى يقوم الوعي الأخلاقي وتقوم الحياة الأخلاقية وتتكون الخبرة الأخلاقية.

إذا كان لنا أن نتخيل عالم الأخلاق على هيئة قصر كبير, فإننا رأينا منه حتى الآن جناحين كبيرين: الأول جناح داخلي للوعي الأخلاقي, والثاني جناح خارجي للأفعال والسلوك. والآن, ما هو مضمون الجناح الداخلي, جناح الوعي, والذي سيظهر بالضرورة على مظهر الأفعال?.

إن بعض الفلسفات الأخلاقية تركز على جانب معين أو على مفهوم محدد, من مثل الخير أو الواجب, السعادة أو المنفعة, العقل أو الإرادة, العاطفة أو المسئولية أو النية أو الحكم, إلى غير ذلك وهو كثير, ولكن ما أردنا تقديمه هنا هو صورة شاملة بقدر الإمكان, حيث إننا نريد التعرف على شتى جوانب عالم الأخلاق معا, ومن منظور أهل هذه الثقافة التي تعيش في إطارها وتكتب لأهليها, لا من منظور الحضارة الغربية أو مؤلفين تولى عصرهم. وقد كان من أهم المسائل الشائكة كيفية الجمع بين السعادة والواجب على وجه الخصوص, وكأن من يقول بالواجب مركزا للأخلاق عليه أن ينكر أن تكون السعادة مفهوما أخلاقيا, كما أن علينا أن نعترف بقوة الشكوك في انتماء البحث عن السعادة إلى ميدان الأخلاق على الدقة, نظرا لأننا قلنا إن الأخلاق لا تقوم إلا على الوعي, بينما قد نلاحظ أن الطفل الوليد ذاته يبحث عما نسميه بالسعادة في أشكال تناسب حاجاته. كذلك ورغم أننا قلنا إن الأخلاق لا تكون إلا للإنسان, فإنه قد يبدو لنا أن الحيوان هو الآخر ربما تحكم سلوكه السعادة, أو البحث عنها على الدقة. وفي العرض الذي يلي نحاول تقديم عرض متوازن في صدد هذه المسائل.

يمكن أن نقول إن مضمون الوعي الأخلاقي هما مجموعتان كبيرتان من الأحكام والاعتقادات: المجموعة الأولى تخص الإجابة عن السؤال الجوهري الذي يقول: ما غاية أو غايات الحياة? والمجموعة الثانية تخص تحديد مبادئ السلوك العملي في المواقف المتحددة, وبالتالي مبادئ الصواب.

مفهوم الخير

أما المجموعة الأولى, وربما كانت أقرب إلى طبيعة النسيج الوجداني للوعي الأخلاقي, فإنها تنتظم من حول مفهوم ضخم هو مفهوم الخير, وفيها تتوالى الأسئلة عن طبيعة الخير وأشكاله ودرجاته وإمكان التفاضل بينها.. إلى غير ذلك من أسئلة. أما المجموعة الثانية, وربما كانت ذات تنظيم عقلاني بارز بسبب اتصالها بالأفعال والمواقف العملية المحددة, فإنها تدور من حول تصور لا يمكن التهرب من الالتقاء به في عالم الأخلاق, ألا وهو تصور الواجب. وفي هذه المجموعة الثانية يدور التأمل حول المبادئ التي نسلك على أساسها بإزاء الآخرين, أي حين نختار ما نفعل وما لا نفعل, ووجه ذلك, وحول ترتيبها وتأصيلها ومصادرها, وحول قوة إجبار تلك المبادئ وطريقة فرضها على وعينا وعلى أفعالنا. وإذا كانت المجموعة الأولى, مجموعة الغايات, أقرب إلى انطلاقة الحياة, وإلى تكوين الذات الحميم, فإن الثانية, التي تتوخى غاية الصواب وتتصل بالتعامل مع الآخرين, أقرب إلى صرامة العقل, ربما لا لشيء إلا لأنها تتطلب بالضرورة ممارسة التضحية في شأن بعض الخيرات, التزاما بما يسمى بصوت الواجب, ومن هنا فإنها أقوى في طابعها الأخلاقي من مجموعة الغايات.

ونقول في كلمتين خلاصة العرض السابق: إن للأخلاق جناحين: الوعي الأخلاقي والسلوك المطابق (أو غير المطابق) لما يوجه به, ولها ميدانان كبيران: ميدان الغايات وميدان الصواب والواجب, الأول يقيم جناح الوعي ويكون أساسه الوجدان العام, والثاني يحدد المبادئ والقواعد ويشكل المضمون المحدد للوعي الأخلاقي ويقوم بالتوجيه المباشر في لحظة اختيار الأفعال الأخلاقية ذات العلاقة الضرورية بالآخرين.

 

عزت قرني