المناخ وتأثيراته: الأخطار تلاحق.. حتى الأسماك

المناخ وتأثيراته: الأخطار تلاحق.. حتى الأسماك

سجل العام الماضي علامة فارقة في مسيرة البشر في ترويض الطبيعة، أو قل في التلاعب بها. ففي سبعينيات القرن الماضي، كان الاستزراع السمكي لا يوفر أكثر من 6 في المائة من منتجات الأغذية السمكية العالمية الموجهة للاستهلاك البشري، أما الآن فإن تربية الأحياء المائية تقدم قرابة نصف الأغذية السمكية في العالم. ويعود جانب من الفضل في ذلك لتغير المناخ. وهي نقطة إيجابية. لكن تأثيرات تغير المناخ على المخزون السمكي ومصايد الأسماك تبقى تمثل تهديدا كبيرا لاستدامتها.

وكشف تقرير «حالة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية في العالم The State of World Fisheries and AquacultureSOFIA) ),»، الذي أصدرته منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في الثالث من مارس الماضي، أنه ينجم بالفعل حالياً عن تغيُّر المناخ تعديلٌ في توزيع الأنواع السمكية من أحياء المياه المالحة والعذبة، مع توجُّه الأنواع السمكية في المياه التي ترتفع درجات حرارتها، نحو مناطق القطبين وحدوث تغيُّرات في رقعة الموائل البيئية للأرصدة ومُعدلات تكاثرها.

وينعكس تغيُّر المناخ على موسميّة العمليات البيولوجية الحيوية، على شكل تبدّلاتٍ في سلاسل غذاء الأحياء المائية بمواطِن المياه المالحة والعذبة، مما يعود بنتائج لا يمكن التكهّن بها على صعيد تذبذبات إنتاج الأسماك.

وفي حالة المجتمعات التي تعتمد بشدة على الثروات السمكية، فالواضح أن أي تناقص حاد في توافر الأسماك محلياً أو تفاقُم عدم الاستقرار في موارد المعيشة الاقتصادية سوف تترتّب عليه مشكلات خطيرة.

ويوضح خبير الفاو كيفيرن كوشران، الذي شارك في إعداد التقرير أن: «مصايد كثيرة تُستَغلّ الآن في أقصى هامش لطاقتها الإنتاجية. وبالنظر إلى التأثيرات المحتملة من تغيُّر المناخ على نُظم المحيطات البيئية، ثمة مخاوف بالنسبة لكيفيّات وقدرات تحمُّل تلك المجتمعات وصمودها إزاء التغيّرات».

وأضاف أن ثمة جهوداً عاجلة لابد أن تُبذل لمساعدة المجتمعات المحلية والسكانية المعتمدة على صيد الأسماك وتربية الأحياء، بهدف تعزيز مرونتها في مواجهة تغيُّر المناخ، ولاسيما تلك الأشد تعرضاً لأسوأ العواقب.

البَصمة الكربونية للصيد

ويشير تقرير «حالة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية في العالم» إلى أن أنشطة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية تسهم في توليد كميات محدودة وإن كان لا يمكن الاستهانة بها من غازات الاحتباس الحراري، خلال عمليات الصيد ونقل المصيد والمعالجة وخزن الأسماك.

ويورد التقرير مُعادلاً متوسطاً مقداره ثلاثة تيراجرامات (30 مليون مليون جرام) من غاز ثاني أكسيد الكربون إلى كل مليون طن من الوقود المستخدم، ككميات من الممكن تقليصها وفقاً لخبير المنظمة إذ إن «الإدارة الجيدة للثروات السمكية قادرة على تحسين كفاءة استخدام الوقود بنسبة كبيرة في القطاع... على اعتبار أن طاقة الصيد الفائضة بما تنطوي عليه من مصيدٍ أقل لكل وحدة صيد إنما تعني كفاءة أوطأ في استخدام الوقود، في حين يستتبع احتدام المنافسة على الموارد السمكية المحدودة زيادة قوّة المحرّكات باستمرار وبذا انخفاض كفاءة استخدام الوقود أيضاً».

ومقارنةً بعمليات الصيد الفعلية، تُسجِّل العوادم الناتجة عن الكيلوجرام الواحد من منتجات ما بعد المصيد السمكي المنقولة جواً، نسباً بالغة الارتفاع. ويورد تقرير المنظمة أن الشحن الجوي العابر للقارات يُطلق كمية 8.5 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون مقابل كل كيلوجرام من شحنات الأسماك المنقولة. ويفوق ذلك بمقدار 3.5 مرات معدل إطلاق العوادم من النقل البحري لنقل الكمية نفسها، بينما يفوق بما يتجاوز 90 مرة معادله من عمليات النقل المحليّ من الأسماك التي تُستهلك عموماً في نطاق 400 كيلومتر من موقع الصيد ذاته.

أرقام جديدة للإنتاج

سجل مجموع الإنتاج العالمي من الثروات السمكية أعلى مستوى له بما يناهز 143.6 مليون طنّ العام 2006 ( 92 مليون طنّ من المصايد الطبيعية، و51.7 مليون طنّ من تربية الأحياء المائية). وإذ يُستخدم 110.4 مليون طنّ من تلك الكميات للاستهلاك الآدمي، توجَّه البقيّة إلى الاستعمالات الصناعية لإنتاج العلف الحيواني، والمسحوق السمكي لأغراض الاستزراع.

ويعود جُلّ زيادات الإنتاج إلى قطاع تربية الأحياء المائية في مزارعٍ سمكية تغطي الآن 47 بالمائة من مجموع الأسماك المخصّصة للاستهلاك البشري. أمّا الإنتاج من مصايد الأسماك الطبيعية الحرّة فقد بلغ نقطة التشبّع وليس من المحتمل أن يشهد زيادةً تتجاوز المستويات الراهنة.

الأرصدة الطليقة

وما نبّه إليه أيضاً تقرير الفاو أن 19 بالمائة من أرصدة الأسماك البحرية التجارية الرئيسية تقع تحت طائلة الاستغلال المفرط، بينما استُنفِد فعلياً 8 بالمائة منها، في حين أن 1 بالمائة من الأرصدة في طريقه إلى الانتقال من مرحلة شبه النضوب إلى إعادة التكوّن الطبيعية.

ويضيف التقرير أن ما يتجاوز النصف (52 بالمائة من مجموع الأرصدة) تُصنَّف باعتبارها مستغلةً بالكامل أو تُنتج مصيداً يكاد يمسّ نقطة التشبّع لحدود إنتاجيتها القصوى. وثمة 20 بالمائة من مجموع الأرصدة تُستَغل باعتدال أو تُصنَّف باعتبارها مستغلةً جزئياً.

أمّا المناطق التي تقع تحت وطأة أعلى معدلات استغلال فتتركّز في البقاع الشمالية الشرقية من المحيط الأطلنطي، و البقاع الغربية من المحيط الهندي، والبقاع الشمالية الغربية من المحيط الهادي.

ويشرح تقرير المنظمة أن التقدَّم في معالجة هذه القضية كان بطيئاً، إذ «لم يُحرَز إلا القليل من التقدّم لإدماج النُهُج الوقائية والايكولوجية المنشودة في عموم إجراءات إدارة الثروات السمكية، من خلال الحيلولة دون استمرار الصيد العَرَضي وهدر الموارد، وتنظيم عمليات الصيد القاعي بشباك الجرّ، ومراقبة عمليات صيد أسماك القرش، والتصدّي للصيد غير المشروع».

نتائج أخرى رئيسيّة

يورد تقرير الفاو صورةً واضحة لمدى أهمية صيد الأسماك وتربية الأحياء المائية بالنسبة للعالم النامي. فما يقدّر بنحو 43.5 مليون شخص يعملون بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وبوقتٍ كامل أو جزئي، في أنشطة الصيد من مصايد الأرصدة الطبيعية أو المَزارع السمكية. وإذ يعيش معظم أولئك (86 بالمائة) في آسيا، ثمة نسبة إضافية تضم 4 في المائة من العاملين لِماماً في القطاع. وبإضافة أعداد من يعملون في صناعة معالجة الأسماك، والتسويق والخدمات المرتبطة بها، بما في ذلك أفراد ُأسَر مَن يعملون بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في مجالات الثروة السمكية والمستزرعة، يتضح أن أكثر من نصف مليار شخص يعتمدون على القطاع.

وتوفر الأسماك لما يتجاوز 2.9 مليار شخص في العالم ما لا يقلّ عن 15 بالمائة من مُتحصَل البروتين الحيواني للفرد. بل وتساهم بنحو 50 بالمائة على الأقل من كمية البروتين الحيواني الكليّ لدى العديد من الُبلدان الجُزرية الصغرى والأمم النامية مثل بنغلاديش، وكمبوديا، وغينيا الاستوائية، وغينيا الفرنسية، وغامبيا، وغانا، وإندونيسيا، وسيراليون.

وفي حين تشكِّل فرص التوظيف النظامي، والعمل المباشر وغير المباشر في هذه الصناعة أهميةً مماثلة في حالة جميع البلدان النامية، فقد وصلت العائدات المُتحصّلة من صادرات الثروة السمكية إلى 24.6 مليار دولار أمريكي سنوياً.

من جهة أخرى، تضمّ أساطيل الصيد ذات المحرّكات في العالم نحو 1.2 مليون وحدة. ويبلغ طول الأغلبية العظمى لهذه الوحدات (90 بالمائة) دون 12 متراً، بينما يتألف نحو 23000 وحدة صيد من سُفن الحمولات الصناعية الضخمة. وبينما لا تُعرف جنسية عدّة آلاف من هذه السفن يلاحظ أن فئة وحدات الصيد «المجهولة الهوية» قد زادت عدداً في غضون السنوات الأخيرة رغم الجهود العالمية المبذولة للقضاء على ظاهرة صيد الأسماك غير القانوني.

استراتيجيات التكيف

ويؤكد تقرير «حالة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية في العالم» أن صناعة صيد الأسماك والسلطات الوطنية المعنية بالثروات السمكية يجب أن تبذل مزيداً من الجهود للإحاطة بأبعاد تأثير تغيُّر المناخ على الثروات السمكية العالمية والاستعداد لعواقبه المحتملة، وأنه ينبغي تعميم الممارسات المسئولة لصيد الأسماك على نطاقٍ أوسع مع تضمين استراتيجيات مواجهة آثار تغيُّر المناخ في السياق العام لخطط الإدارة الحالية للموارد.

ويقول كوشران إن: «أفضل الممارسات المسجّلة وإن لم تكن مطبّقةً بعد، تتيح أدوات محددة وواضحة المعالم لإضفاء مرونة على إدارة الثروات السمكية في مواجهة تغيُّر المناخ».

ويتعين أن تقوم استراتيجيات التكيّف على أساس «نهج النظام الإيكولوجي» الذي يعرّف بأنه النهج الشامل والمتكامل في فهم التغير الإيكولوجي والتنبؤ به، وتقدير جميع أنواع التبعات، وتطوير الاستجابات الملائمة لإدارتها.

ودعماً لهذا النهج، تعد الدراسة المتواصلة لظاهرة تغير المناخ وآثار هذه الظاهرة على النظم الإيكولوجية لمصايد الأسماك أمراً حاسماً.

وكذلك فإن تخفيض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون يؤدي إلى تحسين قدرة النظم الإيكولوجية المائية على الاستجابة للصدمات الخارجية. كما أن إزالة أساطيل الصيد العالمية وممارسات الصيد غير الكفؤة مثلاً من شأنها خفض الاحتياجات من الوقود، ومن شأن زيادة كفاءة مزارع تربية الأحياء المائية أن تقلل استخدام المياه والطاقة، وخفض خسائر ما بعد الحصاد إلى جانب زيادة تدوير المخلفات والذي سيقلص بدوره مساهمة هذا القطاع في انبعاث الكربون.

إن تقديم أفضل ظروف ممكنة لكفالة الأمن الغذائي- من حيث الكمية والوصول والاستخدام وتوقيت التزويد- يستدعي إدارة رشيدة وحكماً رشيداً. ويمكن استخدام مدونة السلوك بشأن الصيد الرشيد لدى المنظمة إلى جانب خطط العمل الدولية ذات الصلة كأساس للعمل في هذا المجال.

أهم رسائل التقرير

  • لاتزال تربية الأحياء المائية أسرع القطاعات نمواً لإنتاج الغذاء من الموارد الحيوانية، ومن المقدَّر أن يلبّي القطاع نصف مجموع استهلاك الأسماك في العالم. لذا ينبغي أن تصبّ الجهود مستقبلاً باتجاه تطوير الإنتاج المُستَزرع وتقليص الاعتماد على المصايد الطبيعية الحرة.
  • من المرجَّح أنه تم بلوغ الطاقة القصوى فعلياً للإنتاج في محيطات العالم من الموارد البحرية الحيّة الطليقة، أي فيما يتطّلب فرض رقابة دقيقة على إدارة الثروات السمكية تلافياً للخسائر الاقتصادية التي يتكبدّها عدد كبير من مصايد الأسماك الطبيعية مع الحدّ من طاقات الصيد المفرطة كي تتماشى ومستويات الصيد المُستدام.
  • ثمة ضرورة إلى اعتماد إجراءاتٍ فورية للتخفيف من العوامل التي ينُجم عنها تغيُّر المناخ، واعتماد إجراءات للتكيّف مع العواقب بغية موازنة التهديدات الماثلة على إنتاج الغذاء وسُبل المعيشة.
  • ينبغي تدعيم دور صغار صيادي الأسماك لتمكينهم من توظيف كامل طاقاتهم الكامنة في مجتمعاتهم والنهوض بسبل معيشتهم.

ولا بد أن تراعي مبادرات التنمية المتكاملة إرساء روابط مشتركة وتعزيزها في مجالاتٍ عديدة تتضمّن محو الأمية، والإسكان، والضمان الاجتماعي، والصحة، والبُنى التحتية.

  • لم يعد ممكناً القبول بالارتفاع الجاري لمعدلات الحوادث الجارية في قطاع صيد الأسماك. فالصيد في عرض البحر قد يكون الأخطر في العالم- إذ يقدر عدد الوفيات الناتجة عنه بنحو 24 ألف حالة وفاة سنويا. وتتراوح الأسباب بين سوء تصميم سفن الصيد وبنائها وتجهيزها، وغياب الوعي إزاء المسائل المتعلقة بالسلامة والممارسات الرشيدة، والعوامل الطبيعية المرتبطة بتغير المناخ مثل ارتفاع وتائر وشدة العواصف والأعاصير البحرية. ولمعالجة هذه الوضعية من الممكن إعداد خطة عملٍ دولية للسلامة في البحار، والترويج لها باعتبارها جزءاً من مدونة السلوك بشأن الصيد الرشيد الصادرة عن الفاو.
  • ينبغي التوفيق بين المعايير الخاصة وخطط إصدار شهادات المنشأ، ودور القطاع العام في تنظيم الممارسات الرشيدة في قطاعي مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية على امتداد مختلف مراحل السلسلة الغذائية.

 

 

أحمد الشربيني 





 





ثلاثة تيراجرامات (30 مليون مليون جرام) من غاز ثاني أكسيد الكربون تتولد عن كل مليون طن من الوقود المستخدم في الصيد





غلاف تقرير حالة مصايد الأسماك في العالم





الصيد في البحر قد يكون الأخطر في العالم، وعدد الوفيات الناتجة عنه حوالي 24 ألف حالة سنويا