ولادة لوحة فنية

ولادة لوحة فنية

هناك عدة طرق للابتداء برسم لوحة وتلوينها، يكتشفها الفنان عندما يصبح عمره الفنّي سنوات عدة.

فبعد مضي سنوات في الدراسة والرسم، تُظهر بعض من شخصية الطالب، شخصيته الفنية، إلى أن تنتهي سنوات الدراسة، وتبدأ مرحلة مهمة عنده حال أنهى تعلّمه في مدرسة للفن، وهي مرحلة الرسم دون نصيحة أو ملاحظة من أحد، إذ أصبح تعبيره الشخصي بواسطة الشكل واللون، كما أن الناقد أو الناصح هو نفسه، وفي هذه المرحلة يشعر بوحدته مع لوحته، وأن وحدته أساسية في التأليف وخلق العمل الفني. هناك طرق عديدة للابتداء برسم وتلوين اللوحة. سأذكر بعضها، وسأبدأ بـ«الارتجالية» أي بداية الرسام بوضع «لطخة لون» على لوحته دون أن يكون قد اختار موضوعاً معيناً أو تأليفاً. اللطخة الأولى، لنقل لوناً أحمر، فإن هذه اللطخة تمثّل لوناً وشكلاً، هذا اللون وهذا الشكل يخلقان لوناً جديداً وشكلاً جديداً، وهو مساحة اللوحة التي تحيط بالشكل وباللون، المساحة هذه تبدأ بأخذ دورها في اللوحة، فالأحمر وأبيض اللوحة والمساحة المحيطة فيها تحفّز الرسام أن يضع لوناً وشكلاً جديدين، فتتعدد عندئذ الألوان والأشكال، وتبدأ اللوحة في مسيرتها إلى أن تنتهي، أما الوقت، فليس هناك وقت أو مدّة معيّنة لإنهاء اللوحة، فمن الممكن أن تنتهي خلال يوم أو سنة أو أكثر.

هذا شيء من العمل الفني الذي يبدأ بالارتجال، لطخة لون ثم لطخة ثانية وهكذا.

أما الطريقة الثانية، فهي أن يأخذ الفنان ريشته أو فحمته ويرسم على مساحة اللوحة البيضاء، إلى أن يرضى عمّا حققه في رسم اللوحة وتأليف خطوطها وأشكالها، ثم يبدأ في تلوينها متنقلاً بريشته من شكل إلى شكل، ومن لون إلى لون. ومع مرور الوقت تصبح اللوحة في طريق لتصل إلى النهاية، أي الاكتمال.

لا أعني اكتمال اللوحة، إنها صارت لوحة «ناجحة» أو حاملة صفة «اللوحة الفنية» أي أنها تعبّر عن جمال ما وحقيقة ما. فهذه مسألة مختلفة، ليست كل لوحة مغطاة بالألوان هي لوحة تحمل صفة العمل الفني الصحيح، فليس أسهل من تغطية اللوحة بالألوان، كما ليس أصعب من أن يصل الفنان إلى التعبير على كل ما يشعر به، لهذا، فهناك من يملأ اللوحة ألواناً، وهناك من يملأ اللوحة شعوراً سامياً.

أما الطريقة الثالثة، فهي اختيار موضوع ما، والأخذ بتحقيقه شكلاً ولوناً، أي جعل الموضوع أو الفكرة محققة على لوحة. كثيرون يبدأون بوضع عدة دراسات بأنواع مختلفة من الأقلام والألوان تكون بمنزلة دراسة أولى لتحقيق اللوحة. وبعد أن يختار الرسّام دراسة من دراساته للموضوع، أو يختار من كل دراسة ما يناسبه لتأليف لوحته، يأخذ في تحقيقها على اللوحة، وكثيراً ما يغيّر في الرسم وهو ينقل دراساته إلى اللوحة.

النتيجة هنا تعود إلى الفنان الذي يرسم بواسطة هذه الطريقة، منهم مَن ينقل الدراسات الموضوعة إلى لوحته بكل إخلاص للدراسة، ولكن ينقصها الشيء الأساس في العمل الفني، أي الروح، الروح الخاص بالفنون. ومنهم من يجعل من دراساته أعمالاً فنية صحيحة هي التي توصله إلى عمله الكبير، أي تحقيق الدراسات في اللوحة. أعطي مثلاً واحداً هنا، لوحة «جرنيكا» لبيكاسو المعروضة في متحف خاص في مدريد وفي صالات مجاورة، فقد أجرى الفنان مئات الدراسات قبل تحقيق هذه اللوحة العظيمة.

الطريقة الرابعة تتمثل في صبغ اللون بلون واحد أو أكثر، بحيث تغطي كل مساحتها، ثم يبدأ العمل بها.

الأثر الذي تتركه الألوان أو اللون الواحد على مساحة اللوحة، يجر الرسام إلى رسم لوحته، إلى تأليفها وتلوينها، وقد استعمل هذه الطريقة فنانون كلاسيكيون قدماء، كما استعملها معاصرون وحديثون.

أريد أن أقول إنه ليس مهماً كيف يبدأ الفنان برسم لوحته، المهم هو كيف ينتهي منها، أو تتخلص هي منه، من فرشاته وألوانه وضرباته، وفرحه مرة وحزنه مرة أخرى. فليس الفنان هو الذي ينهي أو يقرّر الانتهاء من عمل اللوحة، بل هي، اللوحة التي تفرّ منه قائلة: اتركني، لقد ولدت.

 


أمين الباشا