فنون الآخر وآدابه

 فنون الآخر وآدابه

الفنون والآداب في كل أمة من الأمم هي روح هذه الأمة التي تبعثها على الرقي وتدفع بها إلى الأمام في طريق التقدم. وهي بما تمثله من أخلاق أبناء الأمة وميولهم وأهوائهم تظهر الصفات العامة المشتركة بينهم وغيرهم من أبناء الأمم الأخرى, وتكشف عن المميزات الخاصة بهم والمقصورة عليهم في الوقت نفسه. بمثل هذا المنحى من التفكير, أقبل محمد حسين هيكل الشاب على الفنون والآداب الأوربية التي وجدها متاحة أمامه في باريس, والتي قادته باريس إليها في كل مجال يدعو إلى تذوق الفنون وتعرفها أو التعريف بها. وبقدر ما أقبل على تلك الفنون والآداب إقبال المنتسب إليها, في معناها الإنساني العام الذي لا يفارق الصفات المشتركة التي تصل بين الأمم الشرقية والغربية على اختلافها, كان ذلك الإقبال يتضمن الرغبة الحماسية في تعرف خصوصية تلك الفنون والآداب, وما يميزها عن غيرها في المنظور الذي يؤكد الخصائص الإبداعية المتصلة بأسرار التقدم.

ويعني ذلك أن مقاربة هيكل لتلك الفنون والآداب كانت تنبني على ما يجمع بين العام والخاص, وتصل بين النزعة الإنسانية التي تعطف ذائقة الإنسان من أي مكان على إبداع الإنسان في أي مكان, مهما تفاوتت اللغات أو تباينت الأعراق والأقطار, فوحدة الجنس البشري تجمع بين المتباين من أفراده في الدوافع الجذرية والمطامح الأساسية والمشاعر العميقة التي يكون بها الإنسان إنسانا. وفي الوقت نفسه, لا تفارق هذه الوحدة صفات التباين التي لا تنقضها, وإنما تؤكد التمايز داخل الإطار العام, والخصوصية التي لا تتضارب والعمومية. وقد أفضى اكتشاف العام في وحدة الفنون والآداب الأوربية إلى اكتشاف الجوهر الإنساني المتحد الذي يصل بين الشرق والغرب, الشمال والجنوب, الأنا والآخر, انطلاقا من مبادئ الإخاء والمساواة التي اقترنت بالحرية في وعي هيكل الشاب الذي أخذ يتعرف مبادئ الثورة الفرنسية. أما اكتشاف الخاص فقد أدى إلى التركيز على تمايز هذه الفنون والآداب من حيث هي موضوع, ومن ثم تمايز من يدركها عنها من حيث هو ذات عارفة تنتسب إلى حضارة مختلفة في خصوصية فنونها وآدابها.

وعي الهوية

وقد أدى الحوار بين العام والخاص إلى تأكيد حضور العام وإبراز ملامحه الإنسانية, ومن ثم نفي الإحساس بغربة اللسان أو مباينة المكان. وفي الوقت نفسه, اكتسب الخاص وضعا من أوضاع الصدارة في الحوار, خصوصا من حيث كشفه عن المغايرة التي يكتمل بها وعي الهوية, وما يفضى إليه ذلك من فعل التعرف المجدد للأنا التي تجتلي وجودها في مرايا غيرها الذي يستدعي إبداعها سلبا وإيجابا في آن. والنقيض يستدعي نقيضه في هذا السياق, بالقدر الذي يذكر الشبيه بشبيهه في العلاقة التي لا تدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد, فتبرز المخالفة في المشابهة والمشابهة في المخالفة, كما تبرز النقائض نقائضها في حركة الوعي الذي لا يكف عن المقارنة, في عمليات الاستدعاء والاسترجاع التي تفضي إلى قياس النظير على النظير النقيض. والنتيجة هي الحركة المتوترة للعين التي لا ترى إبداعات الآخر إلا من منظور ما تسترجعه من إبداعات الأنا, ولا تسترجع إبداعات الأنا إلا في ضوء ما أدركته في إبداعات الآخر, وذلك في سياق الفعل الحواري المتوتر من معرفته بالآخر التي تغدو معرفة بالأنا, والعكس صحيح بالقدر نفسه.

ولذلك يندر أن يكتب هيكل في مذكرات شبابه عن الفنون الأوربية وآدابها دون أن يستدعي فنون وطنه وآدابه, أو على الأقل يستدعي من وطنه ما يعيد النظر إليه في ضوء ما يتذوقه ويتأثر به من فنون الآخر وآدابه. وطبيعي أن يتداخل معنى التقدم والتخلف مع معنى العقم والابتكار في هذا السياق الحواري, وأن يغدو التقدم في مجالاته المختلفة اللازمة المنطقية للابتكار الذي يصل مجالات الإبداع في الفنون والآداب بغيرها من مجالات الابتكار في العلوم والصناعات التي هي أساس التقدم في جوانبه المادية. وهي الجوانب التي لا تتحقق إلا بتكاملها مع الجوانب المعنوية التي تنطلق من الممارسة الحرة للفعل الاجتماعي الخلاق, ذلك الفعل الذي يؤدي بالفرد الحر إلى أن يبتكر من الفنون والآداب ما يمضي بكل مجالات التقدم إلى الأمام في سلم التطور الحضاري الصاعد الذي لا نهاية له.

وكان أول ما ظهر دالا من الفنون الأوربية لعيني هيكل الشاب ما رآه من معروضات المتاحف والقصور والكاتدرائيات, حيث نماذج الإبداع المختلفة التي وقف أمامها مقرا بالعجز عن التعبير إزاء الجمال الذي لا تناله الكلمات. وبعد اللوفر والبانتيون, كان متحف اللكسميور الذي أحس هيكل الشاب بين منحوتاته الصامتة كأنه بين عالم ناطق بليغ اللسان, عالم يشهد أن الغرب ابن اليوم, والشرق الهرم ابن الأمس البعيد, فكل ما في حضارة الغرب الشابة من تنوع صور الإبداع وإطلاق اليد الحرة في الصنع يدل على تحرر الغربيين من قيود كثيرة لاتزال مقيدة بها النفس الشرقية مما يأخذ اسم الفضيلة والحياء.ويظهر أن على مثال هذه الحرية في الفن ينسج الغرب في كل شيء فيما يكتب هيكل في مذكرات شبابه, مؤكدا أن النفس المحاطة من كل جانب بمظاهر الحرية تنشأ وتموت حرة, والنفس الحرة قادرة على كل شيء , قادرة على المعجزات.

وكانت الموسيقى من بين الفنون التي انجذب إليها هيكل الشاب بكل ألوانها التي تصل بينها وغيرها من فنون الغناء والتمثيل والأوبرا والبالية, فسعى إلى أماكن الاستماع إليها, مستجيبا لما فجرته في أعماقه من ينابيع المشاعر والأحاسيس التي لم يكن يعرفها من قبل. ولم يملك سوى أن يستعيد بالذاكرة الموسيقى الشرقية التي خلفها في وطنه, حيث يلاحظ أن الموسيقى الغربية تخلو مما تمتلئ به موسيقانا الشرقية ذات النغمات الحزينة المتشابهة من تكرار الإيقاعات الرتيبة. ويدرك أن الموسيقى الأوربية ترج القلب, وتحرك الحواس, وتهيج من ضروب النشوة ما لا تستطيع معه النفس أن تبقى مخلدة إلى سكونها, فهي موسيقى قادرة على أن تخلق من العوالم المترامية إلى لا نهايات الإحساس ما يسحر اللب ويأخذنا من وجودنا الأرضي المملوء بالأطماع. ويمضي في تداعياته الشعورية التي يستدعي فيها النقيض نقيضه, فيقول إنه في اليوم الذي تأخذ فيه الموسيقى مكانها في مصر. وفي اليوم الذي يكون فيه عندنا مؤلفون مهرة في هذا الفن ويعتبرهم الناس والعالم أساتذة فيه, في ذلك اليوم نكون بلغنا شيئا كبيرا, وخلقنا لأفراد الأمة سعادة لا نظير لها, وللمجموع إلى جانب هذه السعادة عظمة تبني فوقها الأجيال المتعاقبة.

ظاهرة واضحة

وغير بعيد عن الموسيقى فنون الأدب التي يحتل الحديث عنها حيزا لافتا من مذكرات شباب هيكل, ذلك لأن مقام الأدب مقام رفيع عند الفرنسيين الذين جعلوا منه تاجا على رأس أمتهم يجذب النظر إليه, ويفرض على كل إنسان أيا كان حظه من العلم الاهتمام به فيما يكتب هيكل في مذكراته, فأينما سار المرء في شوارع باريس, وحيثما جلس, وأيا كانت الجريدة أو المجلة التي يطالعها, فآثار الأدب ظاهرة واضحة, تلفت الانتباه إلى حضورها الطاغي, سواء في مسارح التمثيل التي تعرض المسرحيات المختلفة من الأدب المسرحي القديم والجديد, أو وراء زجاج باعة الكتب في المكتبات التي تعرض الروايات وغيرها من المؤلفات بطريقة جذابة, فضلا عن الصحف والمجلات التي تفسح للنقد الأدبي مكانا بارزا فيها. وفي كل مكان يستمع الأجنبي إلى الفرنسيين يتحدثون عن الجديد الذي ظهر من القصص والمسرحيات والكتب بلهجة المهتم المتتبع, فلا يسع ذلك الأجنبي إلا أن يأخذ بحظه من هذا الميل العام, ويشارك في الحركة الأدبية بالاهتمام بما يكتب ويقال والإسهام بالرأي والتعليق, ومن ثم قراءة الجديد المتواصل من الأدب المكتوب, والمواظبة على مشاهدة المسارح للحكم على التمثيل وطرائق أداء النص المكتوب بما يضيف إلى النقاش الثقافي اليومي.

ويكتب هيكل الشاب في مذكراته عن الأعمال المسرحية التي تأثر بمشاهدتها. وهي أعمال جمعت بين مذاهب متعددة, ابتداء من المسرح الكلاسيكي الذي تابعه على خشبة (الكوميدي فرانسيز) حيث شاهد (أندروماك) و(بايزيد) راسين, كما شاهد على خشبة (تياترو الأوديون) (الميزانتروب) لموليير وبعض مسرحيات شكسبير المترجمة إلى اللغة الفرنسية من مثل مسرحية (روميو وجوليت). وهي المسرحية التي وصفها في مذكراته وصفا عاطفيا مسهبا. ويكتب كذلك عن المحاضرات التي حضرها لكبار نقاد الأدب ومؤرخي الفن, وعلى رأسهم جوستاف لانسون الذي لم يستطع أن يحرره من الانجذاب الوضعي الذي دفعه الى إيثار أفكار تين بإعجابه الشديد الذي لم يفارقه في ممارساته النقدية اللاحقة. وهي الممارسات التي لم تخل من التأثر بأناتول فرانس الذي لم يكن بعيدا عن وضعية تين.

وتحتل الرواية مكانة متميزة في مذكرات هيكل بوصفها فن العصر الصاعد, إذ تحوي المذكرات تعليقا على رواية (النبي الأبيض) التي كتبها هول كين عن أحوال مصر التي يصفها بأنها أمة متأخرة, وذلك في موازاة انطباعات تركتها في نفسه مطالعة الروايات الجديدة التي لا تخلو من الإشارة إليها أحاديث ما بعد العشاء مثل رواية بواليف (الفتاة حسنة التربية), فضلا عن الروايات الشهيرة التي أصبحت من المعالم الأساسية للرواية الحديثة في ذلك الوقت من مثل رائعة فلوبير (مدام بوفاري) أو (الزهرة الحمراء) لأناتول فرانس.

ويبدو أن التأثير الذي أحدثته قراءة الروايات في وجدان هيكل الشاب, إلى جانب إدراكه المتزايد بأن القصة أصبحت تستأثر بالأدب المنثور كله في الغرب, وأنها تتقدم كل ما سواها من صور هذا الأدب, هو ما جذب وعيه الأدبي إلى القصة بوجه عام والرواية بوجه خاص, خصوصا بعد أن لمس الأثر البالغ الذي خلفته في الحياة الأوربية روايات من مثل (إميل) لروسو و(أحزان فرتر) لجوته و(مدام بوفاري) لفلوبير, فضلا عن روايات إميل زولا وأناتول فرانس وبول بورجيه وغيرهم من الكتاب الذين جذبوه إلى عالم الرواية الرحيب. ولذلك قرر أن يكون كاتب رواية, وأن يكتب عن ريف وطنه الذي يعرفه حق المعرفة, كي يكشف عن أخلاق أبنائه وميولهم وأهوائهم, مؤكدا بحكم نزوعه الوضعي أثر الوسط الطبيعي والاجتماعي في عوائد الشخصيات. وخطر على باله أن يكتب تاريخ وطنه في قالب روائي على نحو ما فعل السير والتر سكوت بتاريخ إنجلترا وألكسندر دوماس بتاريخ فرنسا.

المزاج القصصي

ونعرف من مقدمة الطبعة الثالثة من رواية (زينب) أنه انشغل بتأليفها بباريس في الفترة من إبريل 1910 إلى مارس 1911, أي أنه بدأ كتابتها بعد أقل من عام على وصوله الى باريس في الخامس عشر من يوليو 1909. وقد تعرف في هذه الأثناء فتاة أمريكية قضت عشرة أيام في (البنسيون) الذي كان يقيم فيه, فانجذب إلى صحبتها والحديث معها كما انجذبت إليه, وطلبت منه في آخر أيامها معه أن يكتب تاريخ أمته في قالب روائي, وأن يهدي إليها رواية من هذه الروايات. ويبدو أن العلاقة التي جمعته بهذه الفتاة تركت فيه أعمق الأثر, الأمر الذي يؤكده تكرار الإشارة إلى بياتركس أو المس شلزك كاسلز في كتاباته اللاحقة التي يتحدث فيها عن مكوناته الروائية وعن محاولته كتابة القصة التاريخية.

ولكن يلفت الانتباه في المذكرات أن هيكل الشاب لا يتحدث عن أسماء الشعراء الذين كانت أشعارهم تتردد في فترة إقامته بباريس, خصوصا شعراء الحركة الرمزية التي لم تكن قد خبا أوارها في الشعر الفرنسي, من أمثال ستيفان مالارميه (1842 ـ 1898) وبول فرلين (1844 ـ 1896) وبول فاليري (1871 ـ 1945) وهم الشعراء الذين جاءوا في أعقاب الموجة التي حملت شعر شارل بودلير (1821 ـ 1867) إلى الصدارة الأدبية. قد يكون السبب في ذلك أن إتقان هيكل للفرنسية ما كان يتيح له القراءة السهلة في الشعر الرمزي الذي يتميز بكثافة خاصة وتعقيد يباعد بينه وإمكان القراءة السهلة. وقد يرجع السبب إلى أن مزاج هيكل كان أقرب إلى القصة, ومن ثم أقل احتفاء بالشعر, وهو احتمال يعزز منه أن هيكل لم يكتب شيئا ذا بال عن الشعر الفرنسي, لا في مذكراته ولا في غيرها. وقد يكون هناك سبب ثالث يرجع إلى نوع من النزوع المحافظ الذي ينطوي عليه الأجنبي في تعرفه الثقافة الأجنبية التي يقاربها مقاربة مباشرة لأول مرة, فيبحث عن الكلاسيكيات المستقرة والأسماء المعروفة والأعمال التي حدث حولها نوع من الإجماع.

نزعة التشاؤم

ويبدو أن ذلك هو السبب في أن هيكل لم يحدثنا في مذكراته عن الحركات الطليعية في فرنسا في ذلك الوقت ولا عن الكتابة الطليعية, فلا أثر في المذكرات لما كتبه بول كلوديل (1868 ـ 1995) في شبابه, أو بول فاليري (1871 ـ 1945). ولا إشارة إلى مارسيل بروست (1871 ـ 1922) أو أندريه جيد (1869 ـ 1951) أو كافكا (1883 ـ 1994), إذ يبدو أن الوضعية وما ارتبط بها من فلسفة نقدية تركا أثرا خاصا في هيكل, فانحاز إلى كتابها وأدبائها, الأمر الذي يظهر ظهورا واضحا في إعجابه الحماسي الذي لم يفتر بأفكار هيبوليت تين, خصوصا ما يتصل منها بأهمية البدء من الظواهر المتعينة الملموسة, وربط هذه الظواهر بالوسط الطبيعي والاجتماعي الذي تؤدي إليها كما تؤدي العلة إلى معلولها في نوع من الحقيقة التي ينبني عليها معنى العلم الوضعي. وغير بعيد عن دائرة هذا الانحياز الوضعي آناتول فرانس الذي تتلمذ على مذهب رينان في هواية الفكر الحر والإيمان بالنسبية التاريخية.

ومن الطريف أن بول بورجيه الروائي والناقد الذي تأثر به هيكل بدأ حياته الأدبية والنقدية بالميل إلى هيبوليت تين الذي شجعه على نشر سلسلة من المقالات النقدية, يتتبع فيها جذور نزعة التشاؤم المعاصرة في أعمال ستندال وجوستاف فلوبير وشارل بودلير وتين وإرنست رينان. وكانت روايته الأولى دراسة نفسية على الطريقة الطبيعية التي تكشف عن العوائد والأخلاق المحكومة بالوسط الطبيعي والاجتماعي, وهو الأمر الذي اتبعه هيكل في رواية (زينب). وهي الرواية التي لم تكن بعيدة عن التأثر برومانتيكية بيير لوتي, سواء في فلسفة الجبر أو التأمل الذي يمتزج بالرغبات الحسية.

وغير بعيد عن ذلك النوع من التأثر قراءة كتابات إميل فاجيه التي حاولت سبر أغوار الكائن الذي تتجلى شخصيته من خلال نتاجه. وليس هناك من يضارع فاجيه في تحديد خصائص عقل من العقول أو تصوير طريقة تركيبه فيما يقول جوستاف لانسون. أما جول لومتر الذي عرف كيف يحتفظ على غرار رينان بجمال الثقافتين المتضادتين الدينية والعلمانية فقد ترك تأثيره في توتر الثنائية نفسها داخل كتابة هيكل التي حاولت, فيما بعد, الجمع بين النقائض.

 

جابر عصفور