الابتلاع

 الابتلاع

وعند كل ليلة يرى ذلك الوحش الخرافي الكبير, يراه قادما إليه, زاحفا فوق بطنه, رافعا عشرات الأذرع التي تخرج من جسده, يجدف بها فوق الأرض, كأنما يتلمس الطريق إليه.فينظر إليه في رعب, يتأمل وجهه الحجري, وعينيه الميتتين, وفمه المفتوح مثل بئر بلا قرار.

وقبل أن يهم بالهرب, يرسل إليه إحدى تلك الأذرع لتمسك به, تسحبه, تخلع عنه ملابسه, تصهره, حتى ليسمع قرقعة عظامه عالية.

وقبل أن يلقي به إلى جوفه, يهب صارخا.

ويجلس فوق فراشه.

منذ استوقفه ذلك اللص, وهو عائد في آخر الليل إلى بيته قرب المزارع, واستلب راتبه وساعته وخاتمه الذهبي, وأمره والسيف في رقبته أن يخلع بذلته وقميصه وحذاءه وتركه عاريا.منذ تلك الليلة, وهو يرى ذلك الوحش الخرافي الكبير كل ليلة في حلمه.

يراه يحمل وجه ذلك اللص. الوجه الحجري المستطيل, والعينان الميتتان, والفم المفتوح مثل بئر بلا قرار. بل إنه أصبح يرى ذلك الوجه في وجه يسري زميله في العمل, والذي مكتبه في مقابلة مكتبه, والذي لايكف عن تناول الرشوة والهبات والإكراميات, يفرضها فرضا على العملاء, حتى ليكاد يضع سيفه الطويل فوق رقابهم ويجردهم من ملابسهم.

إنه نفس الوجه.

بل إنه في أحيان كثيرة كان يرى له نفس جسد الحيوان الخرافي, يتحرك ويرفع أذرعه في مواجهته, فيدخل هو إلى قوقعته ـ قوقعة الشرف ـ محتميا بها, معتقدا أنه لن يستطيع أن يصل إليه فيها أبدا. وارتمت عيناه على ذلك الوجه في تلك الصحيفة الملقاة أمامه.

وحدق.

كان الوجه لمتهم بالرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ. وقرأ.

كان رئيسا لإحدى الشركات, واستطاع وفي خلال سنوات, أن يجمع ثروة تعد بعشرات الملايين من الجنيهات.

أراض وفيلات وعمارات وعربات وأموال وأسهم وسندات و..

إنه هو هو نفس الوجه الذي يراه في حلمه.

الوجه الحجري المستطيل, والعينان الميتتان, والفم المفتوح مثل بئر بلا قرار.

وقرأ الاسم.

وارتعب.

عبد النعيم السحراوي!!

انشال.. انهبد

عبد النعيم السحراوي!!

إنه زميله في الجامعة وفي المسكن لسنوات أربع.

لقد كانا يسكنان في حجرة واحدة, أعلى سطح أحد البيوت القديمة.

عبد النعيم!!

سنوات طويلة مضت فرقتهما الأيام, ودفعت كلاً منهما إلى اتجاه.

ثلاثون عاما مرت عليه ولم يره.

عبد النعيم!!

وكرت السنون, عادت تجري راجعة في لمح البصر. ورآه قادما إليه.. خارجا من بين أطلال الماضي, دافعا بكل الحجارة والغبار الذي تراكم.

رآه يشق كل ذلك الركام, ويخرج إليه, شابا مبتسما ضاحكا.

عبد النعيم السحراوي!!

ربعة.. ممتلئ الجسم, لماح العينين, يكاد الدم يبك من وجنتيه, بشعره الأكرت, وبشعر صدره الذي يصمم على إظهاره, فيفتح قميصه إلى منتصف صدره.

عبد النعيم السحراوي!!

ورآه داخلا عليه في تلك الحجرة التي يقطنان بها ساعة الغداء, ممسكا بملعقة في يده, سلاحه الذي لايستغني عنه.

ورآه مع آخرين يجلس على ركبة ونصف, يحيطون بالطعام, ودائما هو أرز وخضار.

ورآه كعادته يقلب الخضار فوق الرز ليصبح عجينة لينة.

وبالملعقة يقذف بتلك العجينة إلى فمه, يقذف بسرعة هائلة, لاتستطيع العين ملاحقتها, وفمه يمتلئ, يتضخم, حتى ليصبح كرة كبيرة.

والعجينة تتناثر.

نافورة من العجينة اللينة, تمتد من الطبق إلى فمه. ويظل يلهث وهو يأكل وعيناه خارجتان, يدخل بهما إلى الطعام, وجسده يتفصد عرقا, إلى أن ينتهي فيتنهد, ويستند إلى الحائط, لايريد لأحد أن يكلمه أو يضحكه, فلقد امتلأ على حد قوله إلى الحنجرة.

ويطلب منه أن يخفف من اندفاعه إلى الطعام, ومن سرعة تناوله له, فيضحك برغمه ويقول إنه يريد أن يزيد من سرعة فمه في البلغ, ليتناسب مع سرعة يده في الإلقاء.

إنه لابد أن يدرب فمه على سرعة الابتلاع, وإلا فإنه سيغيره.

ويضحك ثانية برغمه.

عبد النعيم السحراوي!!

وينامان عند الظهيرة قليلا بعد الغداء, ليصحو عليه يتسلل إلى الإناء الذي به بقايا الخضار, يكشف غطاءه وبالملعقة يقذف بالذي به إلى فمه, محاذرا ألا تصطدم الملعقة بالإناء.

عبد النعيم السحراوي!!

البطة تحت السرير, تلك التي جاء بها من قريته في العيد, وهو نائم يحلم بالتهامها, ليصحو على صوت كلبين في الحجرة يتعاركان, وقد أمسك كل منهما بالبطة يتنازعانها.

ويقفز من فوق السرير وهو نائم فوقهما, ينبح مثلهما, يعضهما, حتى ليفزع الكلبان منه ويخرجان من حيث دخلا, من أسفل الباب القصير, بينما هو قد حصل على البطة, وضمن ألا يأكلها سواه.

عبد النعيم السحراوي!!

ذلك الذي عندما يفرغ الطعام يجن, وعندما لايجد نقودا ليشتري بها الطعام يجن أكثر, فيذهب إلى جاره في المسكن, ذلك الولد الضعيف الفقير, ليطلب منه نقودا, وعندما لايجد معه, يسرق مرتبته ويحملها على ظهره, ليبيعها بقروش يأكل بها.

عبد النعيم السحراوي!!

ويراه جائعا, يمشي فوق السطح, يدب مثل دب, يعفر في التراب, يتأمل الشرفات المواجهة, وعندما يجد تلك التلميذة الصغيرة, تلميذة الابتدائي, يشير لها, يعاكسها, يطلب منها موعدا.

وفي الصباح ينزل مهرولا, ليضبطه ذات مرة, جالسا إليها في إحدى الحدائق, وهي تناوله إفطارها, تخرجه له من حقيبتها الصغيرة, ليلتهمه على الفور, بينما هو باليد الأخرى يضم البنت الصغيرة إليه ويتحسسها.

عبد النعيم السحراوي!!

ويعود ثانية يدب فوق السطح, يتأمل الشرفات, فإفطار البنت الصغيرة لايسد رمقه, ويفكر في حل.

ويجده.

يجد تلك الفتاة المكتنزة, والتي في الشرفة القريبة, والتي كان يطلق عليها الجاموسة.

يجدها واقفة فيشير لها, يعاكسها, ويطلب منها موعدا. وفي الصباح يهرول نازلا, ليجده في المساء واقفا في شرفة البنت الجاموسة, يضحك معها, وينبش في أسنانه بعود من الكبريت.

ما الذي فعلته?!

خطبتها.

ويرفع يده له بدبلة في إصبعه.

ومن أين جئت بالدبلتين?

هي التي اشترت الدبلتين.

ثم يصف له الطعام الذي قدموه له.

أصناف أصناف.

عشرات من اللحوم, وفاكهة وكأنها من الجنة.

إنها الطريقة التي يضمن بها أن يمتلئ, وأن تتوفر له الوجبات الثلاث.

وفي كل صباح يرتدي قميصه الوحيد, ويسرع نازلا, ليعود في آخر المساء, ينبش في أسنانه بعود من الكبريت.

لكن فرحته لم تطل, فوالد البنت تاجر الخيش وقد اكتشفه, يطلب منه أن يعقد قرانه على البنت, وأن يكتب في العقد مؤخرا للصداق بالآلاف.

ويعود إلى حجرته كسيفا.

يدب فوق السطح من جديد, يعفر في التراب, وعيناه الثعبانيتان تتأملان الشرفات البعيدة.

ويغيب ليوم, ليجده في مساء نفس اليوم, يقف في إحدى الشرفات البعيدة, إلى جانب فتاة ضئيلة, ينبش في أسنانه بعود من الكبريت.

وأصبحت تلك مهنته.

لم يكن ليمر شهر إلا وهو في شرفة جديدة.

يتنقل بين الشرفات.

ما الذي يفعله?!!

ويفاجئه وهو يعد الدولارات الكثيرة أمامه.

من أين?!!

ويرتبك.

لكنه عندما يراه ذات مساء, يمضي مع فتاتين, ويستوقف عربة أجرة, وهو يطلب من السائق أن يوصله إلى ذلك الحي الراقي, الذي يقطن به السياح.. يفهم.

وينقطع عنه طويلا, لايعرف أين ذهب, إلى أن يتخرج هو من كليته, ويعمل في تلك المصلحة, ويتحصن فيها من كل الجرائم التي تمس الشرف, داخل قوقعة الشرف.

وبرغم العناء ظل محاولا الصمود, وحتى حين اشتدت ضريبة الصمود, ظل حاملا زوجته اللحيمة وبناته الخمس فوق ظهره, مجدفا بهن وسط الموج, محاولا أن يتلمس الشاطئ.

وعلم بعد ذلك أن عبدالنعيم السحراوي قد تخرج في كليته بعد عشر سنوات.

ثم تساقطت الأخبار إليه, فعلم أنه عين في إحدى الشركات, إلى أن غاص وجهه منه في تيار الحياة الذي لايرحم, وتهرأت الذاكرة أو هكذا اعتقد, فلم يعد يذكره.

إلى أن قفز له ثانية في هذه الصورة.

وتأمله.

هل هذا عبد النعيم السحراوي الذي كان يضج بالصحة والحياة, والذي كان وجهه يبك بالدم?!

هل تحول إلى هذه الصورة?!

الوجه الحجري المستطيل, والعينان الميتتان, والفم المفتوح وكأنه بئر مهجورة.

وتذكر قولته له.

إنه يدرب فمه على أن يلاحق يده, وإلا فإنه سيغيره.

ونظر إلى فمه.

لابد أنه غيره, ليستطيع أن يبتلع كل هذه الأشياء التي ضبطت معه.

وحدق في الصورة.

ورأى الفم يتسع, يتسع, ورأى الصورة تتحرك, ورأى جسدا خرافيا كبيرا يتحرك في إثره.

والأذرع تجدف فوق الأرض, تجدف, متجهة إليه, فألقى بالصحيفة, ألقى بها وأسرع هاربا.

كان يلهث ويتلفت من حوله خائفا, ينظر إلى الوجوه فيرى ذلك الوجه فيهم.

كلهم لهم هذا الوجه.

إنه الآن على يقين, من أن أحد هؤلاء الذين انتشروا مثل السرطان, لابد أن يكتشف أنه مازال يعيش داخل قوقعة شرفه, فيمد إحدى أذرعه, ليهدم له هذه القوقعة وليلتهمه.

لقد أصبح الآن أكثر يقينا من أنهم سيبتلعونه, لابد سيبتلعونه, وأن المسألة ـ الآن ـ أصبحت مسألة وقت ليس إلا.

 

صلاح عبدالس