قراءة نقدية في رواية.. رواية (دنيا زاد)

 قراءة نقدية في رواية.. رواية (دنيا زاد)

تأليف: مي التلمساني

(دنيا زاد) هي الرواية الأولى للكاتبة مي التلمساني, صدرت عن دار (شرقيات) بالقاهرة عام (1997) ومن قبلها (1995) أصدرت الكاتبة مجموعتها القصصية الأولى (نحت متكرر) عن الدار نفسها.

حين تفرغ من قراءة هذا العمل الأدبي تتذكر تجربة فقدك الخاص (أيا كانت) التي ينكأ جراحها العمل الأدبي في كل سطر من سطوره عبر حكاية بسيطة, هي في أبسط صيغها سيرة ذاتية تعرض فيها الكاتبة تجربة موت طفلتها (دنيا زاد) قبل ولادتها, حين ينقطع حبل المشيمة ليصبح رحم الأم قبراً يلفظ الجسد الصغير ـ المكتمل ـ بعد انتظار تسعة شهور كاملة ـ إلى مقبرة أخرى خارجه في باطن الأرض. الأم تحكي لنا عن التمثيلية التي حاول الآخرون أن يوهموها بها والتي تتلخص في إقناعها بأن الطفلة ماتت بعد ولاتها نتيجة عدم وصول الأكسجين إلى المخ, ثم تكتشف الأم زيف هذه الحقيقة, تكتشف أن رحمها كان قبراً, أن الموت كان كامناً طوال الوقت في أحشائها المتفجرة بأحلام ميلاد جديد! هذا الاكتشاف تتبعه نقطة تحول تغير من علاقات الأم بخارجها, بزوجها, بأصدقائها, بعملها المستقر.. إلخ.

هذا التبسيط ـ المخل بطبيعة الحال ـ يعيد القارئ (المتعجل) إلى البناء الأرسطي للدراما التمثيلية القديمة: تمهيد للحدث, اكتشاف, تحول, ويؤدي به إلى الطريق القديم, البكاء ثم التطهر الذي تعقبه راحة أرسطية أىضاً حين يدرك القارئ كم هو محظوظ بتجنب هذه التجربة المؤلمة, كم هو ناجٍ من ذلك المصير الحزين البائس لأم ثكلى.

دراما الموت والحياة

إن المعاني مطروحة في الطريق ـ على حد قول الجاحظ ـ وهل ثم معنى أكثر إلحاحاً من دراما الحياة والموت ? ليس السؤال, إذن, عما يقوله العمل وإنما (كيف) يقال, وهي بدهية, ستظل بغير حاجة إلى إعادة التفكير فيها إلا إذا استطاع العمل الأدبي أن يكشف لنا, عبر هذه الـ (كيف), عن أشياء أخرى توسع من دلالات الحياة والموت, لنلتفت إلى أشياء صغيرة, عابرة, وربما أليفة, لم نكن نتصور أنها ستندرج يوماً تحت هذه المنظومة الباذخة: الحياة/ الموت.

على غلاف الرواية يبرز اسم الكاتبة: مي التلمساني, ثم اسم آخر هو (دنيا زاد) عنواناً للرواية. للاسم ـ العنوان (دلالة شهيرة) في الثقافة العربية إلى الحد الذي يمكن معه ـ بمعادلة بسيطة ـ أن نستبدل بـ (مي التلمساني) اسم شهرزاد. خاصة أنها ـ الكاتبة ـ تنوي أن تحكي لنا أيضاً, أليس المكتوب على الغلاف محدداً لأفق ألِقْ يخص نوعاً أدبياً يقوم على السرد: (رواية)?

غير أن (دنيا زاد) المكتوبة ببنط طباعي كبير ـ شأن أي عنوان ـ وحينما نراها في ضوء العلاقة بينها وبين اسم الكاتبة المكتوب ببنط طباعي أصغر, وفي ضوء الاستبدال الذي أشرنا إليه منذ قليل, سيغير من العلاقة ـ التي استقرت في ذاكرتنا ـ بين شهرزاد: دنيا زاد, ستخرج (دنيا زاد) عبر ذلك التغيير ومنذ صفحة العنوان من هامش الألف ليلة وليلة إلى صدارة العمل الروائي.

ولا تهمنا الكاتبة طويلاً حتى نسترسل في تصور احتمال دلالات انتقال (دنيا زاد) الهامشية في الليالي القديمة إلى الصدارة, ففي السطور الأولى من الرواية نقرأ هذه الجمل المتلاحقة:

جاءت (دنيا زاد) إلى الغرفة 401 للمرة الأولى والأخيرة تودعني في أكفانها البيضاء الصغيرة.. ونظرت إلى الوجه المستدير المائل للزرقة. العينان مسدلتان والأنف صغير والفم يشبه الهرم, شديد الزرقة.. لم أقل سوى كلمة وحيدة مقتضبة ـ كانت تشبهني.

الموت ـ موت دنيا زاد ـ يطالعنا منذ السطور الأولى, شاهداً على عجز الحكي عن نفي الموت, كامناً في الحكي نفسه, متواشجاً والكتابة. وتطالعنا (دنيا زاد) شاهداً صامتاً ليس على انتصار الحكي على الموت ـ كما في الليالي ـ بل عن عجز الرواية ـ الأم ـ شهرزاد عن إرجاء الموت وتعطيل قوانينه بفعل الحكي في معارضة أولى للحكاية الشهرزادية القديمة, معارضة تفتح منذ الكلمات الأولى أفق تأسيس حكاية جديدة وتشد الصمت ـ بما هو موت وليس بما هو استماع ومشاركة ـ إلى الصدارة. تصبح (دنيا زاد) شاهداً لا يمكنه أن يقفز برأسه من حين إلى آخر ليذكرنا بحضوره, بل شاهداً ميتاً لا يمكنه أن يتكلم يوماً, ولا يمكننا إلا أن نواريه التراب.

الأنا ـ الآخر

إن العجز هو ما يجعلنا أمام حكاية تنفلت من (الوقوع في دائرة السحر), تنفلت من الحكي (المحايد) عن قصص الآخرين في الليالي لتتحدث عن الأنا/ الآخر في لحمة واحدة, حيث يبدأ الحكي في نسج تفاصيل الوجه الصغير, تفاصيل المكان, الحركة الضيقة من الغرفة (401) إلى المقبرة والعودة الخائبة إلى البيت. في الجزء الأول من الرواية تتضافر التقنيات:

تقنية الوصف التفصيلي, استخدام السرد في تبادل مع المونولوج الذاتي للآخر الذي يصبح الوجه الغائب/ الحاضر للمعرفة والمواجه عجز الذات حين لا تصبح المعرفة قادرة على تغيير المصير ـ كما في الليالي الشهرزادية ـ لتتساوى المعرفة وعدمها تجسيداً لانهزام الفرد الواقع في حصار غير قادر على الفرار منه, محاولاً القبض على الزمن المنسرب في عتمة الموت عبر نسج ذاكرة بصرية, أشبه بكادر سينمائي صامت يحاول تثبيت الذاكرة ووضعها في حال تماس مع ذاكرة الراوية ـ شهرزاد, غير أنه تماس يحوّل الشفاهي الممتد والمتصل عبر الزمن إلى الصورة.. هل هذا الانتقال يسير بالفعل? هل يمثل قطيعة جذرية بين البطل الرومانتيكي والفرد المهزوم الذي يعي أنه ليس بطلاً وليس بإمكانه إنقاذ ذاته نفسها? أتصور أن التعلق على مستوى التشابه والاختلاف نفسه يشي بذلك التأرجح بين الرغبة والعجز, وهي رغبة نراها من خلال (الكيف): التقنية التي تستبدل بذاكرة سمعية (شفاهية) ذاكرة بصرية, وفي التحول من الحوار بين شخصين (شهرزاد ـ شهريار) في الليالي القديمة إلى الحوار الداخلي الذي يحتل النصف الأول تقريبا من رواية (دنيا زاد) والذي يتبادل موقعه على الصفحة والسرد, ليمثل النصف الأول من الرواية تقريبا, ثم يبدأ في الاختفاء عند منتصفها, أي أننا نجد أنفسنا في النصف الأول أمام حكي (سرد) ومونولوج (صمت). عبر السرد تحكي القاصة الحدث كما تعرفه: لم يكن جوفها مقبرة للطفلة, الأم تتوهم أو يوهمها من حولها ـ ها نحن نعود إلى التمثيلية أن الطفلة ماتت بعد ولادتها, لكن صوتاً آخر (المونولوج الصامت) يعرف الحقيقة ويخبرنا بها, إنه صوت الزوج ـ الأب الذي يقطع (أمان واسترسال) السرد, يكسر (التمثيلية) بصوت العارف الذي لا يمكنه كشف الحقيقة أن الطفلة ماتت داخل رحم الأم نتيجة انقطاع في المشيمة, صوت الأب يؤجل ويرجىء حضور الموت فعلياً متماساً مع شهرزاد الليالي في إرجائها للموت: (كنت أنوي أن أخبرك حين تشفين).

التمثيلية قائمة بين الأب/ الأم, لكنها ينقصها أهم ما في التمثيلية كي تصبح موجودة بالفعل: الحوار. كيف يمكن تصور (تمثيلية) تقوم على الصمت بين متحاورين? بالقطع لا يمكننا هذا التصور إلا إذا استدعينا ذلك الحوار الصامت ـ المونولوج بين الأم/ الابنة داخل أحشائها, الحوار الذي أرجأ الموت تسعة شهور كاملة حتى انكشاف التمثيلية ـ تمثيلية الحوار الصامت عبر الرؤية البصرية ـ رؤية الجسد الميت الصغير. هذا الكشف يواشج بين إرجاء الأب للموت (عبر المونولوج الداخلي) وإرجاء الأم للموت عبر مونولوج داخلي أيضاً بينها وبين الطفلة في أحشائها, ويجعل من كل منهما صورة للآخر. في هذا السياق تصبح الرؤية البصرية الكاشفة لموت الابنة موازيا للرؤية البصرية للنص المكتوب, الذي يصبح عنصراً قادراً على كشف التمثيلية حين نتحرك من الذات الفعلية للأم إلى النص الروائي نفسه, إلى الذات الكاتبة والذات القارئة التي كتبته وتقرأ الحوارين الصامتين. من ثم يصبح فعل القراءة/ الكتابة وليس الصوت فعل الكشف والمعرفة وهو ما نراه في النص الروائي نفسه فعبر القراءة تكتشف الأم الحقيقة:

حتى ذلك المساء الذي عثرت فيه على بعض القصاصات التي كان زوجي يدون عليها بيانات المستشفى..

أقرأ: (وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام في المشيمة) تفضح القراءة ـ الكتابة المونولوج الصامت, ويكشف (التدوين) أبعاد التمثيلية ويتبدى انكشاف الحقائق للوعي ليس مبنياً على ذلك الاتصال الحكائي لألف ليلة وليلة, وإنما على محض قصاصات, مبتورة كالجسد الصغير الميت, يتأمل الوعي فيها موته في حياته, وتصل القصاصات ـ في هذا السياق ـ الجسد الصغير الميت بالقصاصة وبالتدوين وبالكتابة وبالعمل الروائي في مجمله في تقطعه وفجواته, في تمزقه وتمزيقه للحدود بين الأجناس. تصبح الكتابة, من ثم, جسداً ممزقاً, قاطعاً للزمن المنساب بعفوية في الليالي الشهرزادية القديمة, ويصبح النص الروائي مولوداً صامتاً ميتاً نلفظه خارج أجسادنا لنتأمل تمزقنا فيه, عزلتنا, تواشج دنيا زاد وشهرزاد في رحم الكتابة: دنيا زاد بوصفها شاهداً يحوّل دلالة الصمت بما هي استماع ومشاركة في الليالي القديمة إلى الموت ـ المرئي ـ المكتوب, وشهر زاد بوصفها راوياً ـ كاتباً يتأمل الموت في الكتابة, في حضورها المجسد, الصامت, الميت على الصفحات. لكنه الموت الكاشف للحياة, شرط الحياة.

إرادة الحياة

لقد كانت التمثيلية مفهومة منذ البدء, غير أن الوعي لم يكن يريد أن يصدقها, لعله أراد التشبث بشهر زاد الليالي القديمة, بالذاكرة التي تنتهي بالنهاية الفرحة, نقرأ:

كذبوا جميعهم, وصدقت, لأني أردت لها الحياة

يوماً أضاعفه سنين في الذاكرة

إرادة الحياة ليوم يتضاعف سنين ـ كسنوات شهر زاد ـ في الذاكرة تجسيد للرغبة, رغبة التصديق والتمسك بشهر زاد القديمة, غير أنها رغبة تعلم الذات عجزها عن تحقيقها, هذا الازدواج بين الرغبة والعجز يخرج إلى سطح النص الروائي سرد/ مونولوج, تماماً كما خرج الجسد الميت من أحشاء الأم, تجسيداً للماضي الكاذب/ الحاضر الكاشف, الرغبة/ العجز, البطل الرومانتيكي/ الفرد المهزوم.

رغبة التصديق والتمسك بشهرزاد القديمة تقتنص بعض حيل شهرزاد لتلوذ بها الراوية الجديدة في النصف الأول من الرواية وقبل أن يلفظ البناء السردي شهرزاد القديمة ليراها ويتأمل فيها عجزه كتأمله ذاته في مرآة دنيا زاد, في مرآة النص المكتوب. النصف الأول من الرواية تجسيد للانتظار: انتظار المولود الجديد, إرجاء كشف حقيقة الموت, يسير بنا الحكي مثلا كاميرا بطيئة تدور في تفاصيل المكان, تفاصيل جسد دنيا زاد الصغير, تفاصيل الحركة الثقيلة داخل المستشفى وخارجها إلى المقبرة, إلى البيت, يتوقف السرد ليتأمل صورة عابر في صفحة الوفيات, يصف لنا ملامحه في تسعة أسطر:

"الصورة: رجل في الخمسين وربما في الستين, نظارة طبية مستديرة".. إلخ.

هل يهم هذا أحد?! لكنها محاولة التشبث بالذاكرة, محاولة حفرها في الوعي, القبض عليها وعلى حضورها المنسرب, قبل إفاقة الوعي الذي يتأمل نفسه في الصورة, العابرة كعبور دنيا زاد, جسداً عابراً, تفصيلاً من تفاصيل الحياة أيضاً أو قصاصة ورق متناثرة خارج الجسد تكشفه ويكتشف فيها حضور الموت في نسيجه, إفاقة الوعي ـ كسر التمثيلية ـ تبتدئ من التأمل لجسد صورة العابر, نقرأ:

النعي أيضاً يحتل عموداً كاملاً والصورة لا تتحرك لكنها كرسوم الفراعين. تتأهب للحركة. وتثبت في الذاكرة.

وهو تأمل يتأهب للحركة, ويواشج بين سلطة الموت وسلطة الذاكرة, كي نتخطى الذاكرة, وكي نتخطى شهرزاد الحكاءة الراوية عن كل هذا الموروث الثابت المستقر لابد أن نحاول طمس الصورة التفصيلية, نقرأ بعد المقطع السابق بصفحتين:

هواء حار يتسلل من فتحة صغيرة في النافذة. وصوت أوراق الجريدة يبعث على النوم. يتخللها الهواء فتنتفخ قليلاً ثم ترفرف أوراقها كأجنحة عصافير صغيرة. تهدأ بعضها فوق البعض للحظة ثم تعود فتنتفخ بالهواء الحار. وتكشف عن طرف الصورة الباسمة: الذقن ونصف الفم.

تخطي الموت

تخطي الموت الكامن في انتفاخ الجريدة (مثل جثة), في الصورة المتكاملة للعابر هو تخط للذاكرة عبر آلية رفرفة أوراق الجريدة, آلية تطمس بعض الصورة وتبقى (الذقن ونصف الفم), آلية تشظي الصورة المتكاملة, تفتت ثقل الجثة وثقل تفاصيلها, محولة السرد كله إلى تلاشي للمونولوج الداخلي والتفاصيل العديدة, في فعل حركة تحاول كسر (التمثيلية), ليس فقط تمثيلية الآخرين على الذات, بل تزييف الوعي نفسه ليمارس انقسامه وليتأمل النهاية السعيدة لشهرزاد الحكاية (ولادة الأبناء ومواصلة الحياة).

في ضوء الآلية التي تحول الجسد الميت الصغير الملفوظ خارج الرحم (دنيا زاد), وتحول موت الحلم بالمواصلة وإنجاب أطفال (يشبهوننا) إلى ميلاد آخر لطفل آخر لا يخرج من جوفنا لنتأمل فيه قدرتنا على الخلق والمواصلة, بل نتأمل فيه انقطاعنا وتمزقنا, ليصبح ميلاده وحضوره وتجسده جهازاً تعويضياً يثبت مكان أطرافنا المبتورة بالفعل ويذكرنا دوماً بتلك الفجوة الفارغة القابعة فينا:

الآن أصنع طفلاً يقضي على هواجسي. طفلا تعويضيا.

يقرأ هذا الكلام يوماً ويكرهني.

يصبح إعجاب طفل قضاء على الخوف مثله مثل الكتابة بتمزقها وفجواتها, أن تنجب أو أن تكتب فأنت: (تتحدى خوفك هذا كل ما في الأمر), إنها مواجهة الذات الدائمة لنفسها, تتحدى الخوف لكنها في الوقت نفسه لا يمكنها أن تنتصر عليه, تستسلم أحياناً للهواء الحار الآتي من النافذة, وتستعين على الذاكرة بالنسيان:

"هذه خاتمة تليق بلحظة حداد متأخرة. أكتب دنيا زاد وأستعين على حروفها بالنسيان".

إنها محض استعانة (الكتابة) على آلية التواصل الشهرزادية القديمة بآلية التمزق الجديدة, آلية الاستلاب التي تحركنا مثل تحريك الهواء الساخن لأوراق الجريدة فتنتفخ مثل الجثث ونتمزق كتمزق صورة الميت العابر. تصبح هذه الآلية جزءاً من نسيجنا نفسه, يستعير الحكي تقنياتها ـ كما استعاد التقنيات الشهرزادية القديمة, نقرأ:

قلت: الأطفال لا أصنعهم هكذا بقرار ليلي.. الأطفال أصنعهم في لحظات حب نادرة....

كان هذا من زمن. الآن أصنع الأطفال بحسبة بسيطة:

في اليوم الرابع عشر أنتظر بويضة صغيرة..

ونقرأ:

اختبار الحمل الأول: في باريس. مائة فرنك فرنسي.

اختبار الحمل الثاني: في القاهرة. الثمن بخس.

اختبار الحمل الثالث: القاهرة أيضاً. زاد الثمن جنيها واحداً.

إنها محاولة أخيرة للبقاء في هذا العالم الجديد, هروباً من سلطة الموت وسلطة الذاكرة, لكنه هروب يقع في فخ آخر, يوهمنا ـ نحن القراء ـ عبر نفي التفاصيل وعبر اللغة الاختزالية في النصف الثاني من الرواية, وعبر امتلاك القاصة للحكي دون صوت آخر أن ثمة انسجاماً مع العالم, لكنها تمثيلية أخرى, حديثة, تستعير تقنيات الاستلاب, اختزال الفرد, لغة الإعلام, لنتأمل وجودنا فيها, في اللغة الاختزالية للنص الروائي نفسه, وتنقلنا من الصوت المزدوج الواضح على سطح النص, من صراع الحياة بمعناها الأكبر مع الموت بمعناه الأكبر إلى صراع لا ينتهي بين الحيوات العديدة والميتات العديدة, من الفجوة الواحدة التي يخلفها في الأحشاء موت طفلة صغيرة إلى التشظي, إلى الفجوات العديدة التي تتركها قصاصاتنا الكثيرة المكتوبة والمتشظية:

"صديق يموت.. وصديق يروح.. وصديق يتلاشى وسط تفاصيل حياة مكرورة. وأصدقاء لا أكتبهم لأنهم حاضرون. وأصدقاء لا أكتبهم لأنهم بخلاء.

وأبناء ستة أحلم بهم. وابن وحيد يلفه هاجس

الموت أينما حل. ما الذي تبقى من أفلاكي ومجراتي

الهائمة في فجوات تاريخي الشخصي الآن?

هل تملأ الكتابة الفجوات? القصاصات التي نلفظها خارجنا لنتأمل تمزقنا فيها? هل نصدق تلك المقولة في خاتمة الرواية: (ولازلت أكتب. وقد ادعيت أنها آخر الكتابة). لكن الكتابة (ذلك الادعاء الجميل الذي نعرف أنه ادعاؤنا) تردم الفجوات وتفتح فجوات أعمق. ما الذي يتغير, إذن, سوى هذا الوعي باللعبة, بالتمثيلية? سوى تلك الرحلة القصيرة من تمثيلية تفرض على الوعي إلى تمثيلية أخرى تستلبه تماماً, وسوى تلك الرحلة القصيرة عبر رواية من خمس وستين صفحة, انقسمت إلى أحد عشر مقطعاً (10 + 1) تمثل صيغة أخرى (مختزلة) لليالي الألف والواحدة? هكذا يتقلص الزمن كطفل صغير ميت نكفنه في (ملاءة كبيرة تضاعف من حجم الجسد النحيل), وهكذا يبدأ الكذب والوعي بالكذب دون آهات فارس صلاح عبدالصبور القديم ونندرج بوعي قادر على تعرية نفسه في منظومة الربح والخسارة.

 

فاطمة قنديل