ابن الخباز

ابن الخباز

تأليف: موريس بونز

كان أبي خبازاً وابن خباز، وكنت طفلاً عندما افتتح لحسابه مخبزاً في سانت جراتيين، بمقاطعة الكروز. ومازلت أذكر بشكل واضح إقامتنا في هذا الإقليم الذي كان جديداً علينا، وبالمنزل الجديد، الملحق بذلك المحل.

كان أبي يقوم بإعداد الخبيز مساء، بالطبع، لكي يكون الخبز جاهزاً بالصباح الباكر. وما إن يصبح الفرن جاهزاً، حتى يتم رص الخبز على الصاجات المعدنية. كان الكاتب يصل لكي يأخذ البيانات. وكانت أمي تهبط لكي تفتح المحل. ويذهب أبي كعادته إلى المقهى الذي يفتح أبوابه في نفس الساعة، وكان يحمل معه بنفسه رصة من الخبز وسلة من الهلاليات، وكان يجلس على طاولة لكي يحتسي العصير، ويقرأ الجريدة المحلية ويدخن بعضاً من سجائر الجلواز، بعد ذلك، يعود إلى المنزل، تقريباً في نفس اللحظة التي أتوجه فيها للمدرسة، وينام حتى ما بعد الظهيرة.

هذه الطقوس وهذه المواعيد بدت لي ثابتة لا تتغير، لكني، مع الوقت، بدأت أكتشف أن أبي راح يطيل أكثر فأكثر جلسته الصباحية في المقهى.

كنت وأنا في طريقي إلى المدرسة، أراه تقريباً كل يوم، من خلال زجاج المقهى، جالساً إلى طاولته، في نهاية الصالة، مقطباً، وحيداً، صامتاً، مستغرقاً في قراءة جريدته أو شارداً في تفكيره. وكنت أتساءل ما الذي كان يفعله كل هذا الوقت؟ ولماذا كان يؤخر يوماً بعد يوم موعد عودته إلى البيت؟

أحياناً، كان يلمحني على الرصيف، فكان يشير لي بأن أدخل. فكنت أقبل ذلك سريعاً، إذ لم يكن يجعلني أنتظر.

- إذهب بسرعة، الآن، كان يقولي لي، حتى لا تصل متأخرا.

في يوم احتفالي بعيد ميلادي الرابع عشر، جاء هذا الرابع من يناير جليديا غائما، ولم يعد أبي للبيت. كنت قد لمحته في الصباح ، من خلال زجاج المقهى، صامتا، وحيدا، مقطبا بنهاية الصالة، وكانت سترته الشتوية على كتفية فوق رداء العمل.

عشر مرات، مائة مرة، أمام أمي أولا، ثم أمام شرطة الدرك، وبعدها أمام القضاة، كان علي أن أعيد تفاصيل شهادتي، التي تم تأكيدها، وتدقيقها مع شهادة بائعة التبع بالمقهى، السيدة فاشر، التي رأت أبي يخرج من المقهى في حوالي الساعة الثامنة والنصف، بعد أن دفع، مثل كل يوم، حساب الجريدة وسجائر الجلواز.

إن رجلا في الأربعين من العمر لا يختفي هكذا، بين محل التبغ وركن الخباز المواجه! ومع ذلك، فهكذا اختفى أبي، ذلك الصباح الباكر الجليدي الغائم. ولم يره أحد

بعد ذلك أبدا منذ ان غادر المقهى ومحل تبع السيدة فاشر، بسانت جراتيين ، بمقاطعة الكروز.

كانت المشاعر التي خيمت على البيت أولا هي الدهشة ثم الشعور بالضيق الشديد بعد ذلك.

- ألم تر أباك؟ سألتني أمي فور عودتي من المدرسة.

أجل ، لقد رأيته هذا الصباح ، من خلال زجاج مقهى السيدة فاشر.

- ولكن أين ذهب، هذا الحيوان! أضافت بقلة تهذيب الأمر الذي أساءني.

وظللنا متوقعين أنه لم يذهب بعيدا، بما أن السيارة ظلت بالمرآب. وكانت المشكلة الأولى التي علينا حلها في التو هي خبيز المساء، بما أننا نعمل جميعا بالمنزل أن القاعدة الذهبية للخباز هي أن يوفر الخبز بانتظام.

" لاتنس رغيفا واحدا ولا تترك يوما بلا عمل"، هكذا كان أبي يكرر على مسامعنا معظم الوقت. وفي هذه الليلة الأولى، سد براد المخبز حاجتنا من العجين الجاهز، ولكن بمحض المصادفة، طلبت أمي من فريدريك، كاتبنا، أن يحضر لكي يجهز فرن الصباح. وقام هو بذلك، لأن أبي لم يعد بالليل ولا بالفجر.

وتحولت الدهشة ، وتحول الضيق، إلى قلق حقيقي. وفي مساء اليوم الثالث، هاتفت أمي شرطة الدرك لتعلمهم بالاختفاء الغامض لزوجها. وأخذوا مذكرة بذلك، ولكنهم بدوا أقل انفعالا منها بالحدث. وقد طمأنوها بأنه لم تسجل خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية حادثة طريق، أو حادث غرق في نهر الكروز، أو في بركة سورج.

كانوا على قناعة، بأن ما حدث ليس سوى نوع من الهرب من الحياة الزوجية، سوف ينتهي أيضاً فجأة كما بدأ.

هل تعرفين أن له علاقة بأحد في المنطقة؟ سألوا أمي ، بكثير من المراوغة.

وأقسمت وهي تشعر بالمذلة وقد احمر وجهها، أنه خلال السنوات السبع التي قضيناها في سانت جراتيين، لم يغب أبي عن المخبز ليلة واحدة . فحتى أماسي الأحد كان يقضيها بالمنزل يشاهد التليفزيون.

مع يوم الاثنين التالي، بدأ الجميع في الثرثرة بمدينة بورج سائلين أمي التي طلبت التحري عن الأمر رسميا.

وبهذه النهاية، حضر رجال الدرك للمرة الأولى إلى منزلنا، وفتشوا بشكل دقيق غرفة وخزانة وأدراج ومخبز أبي . وحققوا معي طويلا. وراحوا يجمعون الأدلة وشهادات الشهود. واستنتجوا أن أبي قد رحل، بغير أوراق، وبغير حقائب، وبلا نقود تقريباً مرتديا فقط رداء العمل وعليه سترته الشتوية، ومنتعلا خفيه الجلديين . ولكنه حتى في زيه الغريب هذا، لم يثر انتباه أي من سكان سانت جراتيين، أو بوساك، أو بونا، ولم يره أي عامل بالسكة الحديد يركب القطار، لا في جراتيين، ولا في مونلوسون، ولم ينجم عن نشر صورته في الصحفية المحلية، وتعليقها في المحطات وعلى أطر الإعلانات العامة ، تقدم أي شاهد لشهادة من أي نوع.

وسرعان ما حل فريدريك نوش، صبي الخباز الذي أنقذ المخبز بالعمل مكان أبي أمام الفرن، كما حل محل أبي كذلك بالبيت . أعني مكانه على المائدة العائلية وبسرير أمي.

كان في عمر أمي تقريبا، وكان رجلا ظريفا مرحا، منشرحا ومنفتحا على الحياة التي كان أبي غير منفتح عليها. وقد ارتحت له، وعاملني معاملة أقر لمعاملة الأخ الأصغر منها لمعاملة الابن.

وتمكن من إقناع أمي بشراء سيارة جديدة وعربة للنوم، فتمكنا للمرة الأولى من القيام برحلة وقضاء إجازة، اكتشفنا فيها شاطئ جراو دي روا . على مقربة من مدينة " نيم ".

ويعود الفضل في إكمالي لتعليمي لهذا الرجل. فبعد حصولي على الشهادة الابتدائية التي اجتزت امتحانها بنجاح باهر، أصر على تمكيني من الدخول كطالب ممنوح في ثانوية مدينة جراتيين . وكنت أعود كل سبت إلى البيت، وخلال الأعياد، لأساعد فريدرك وأمي في عمل المخبز.

كان الناس في مدينتنا وكذلك رفاقي بالمدرسة يتعاملون مع حالتنا بنظرة مستنكرة بعض الشئ . ولمدة أعوام بعد اختفاء أبي، كنا نسمعهم بعض الأحيان يرددون: " لقد تمكن هذا الـ نوش من هدفه" ، وكان البعض يتقول علينا مردد المثل المعروف " من يغيب ، ليس له نصيب، أليس كذلك؟" بطريقة بها بعض التلميح الوقح.

بالمنزل ، رفضنا أعتبار أن أبي قد مات، كما رفضنا كذلك فكرة أن أحد أعتدى على حياته. كان ذلك أمرا مستبعدا من تفكيرنا . وقد تعاملنا مع المسألة من واقع ما أعلنته أمي، مرة واحدة وإلى الأبد : " لقد رحل، لقد رحل! " فلم نحاول حتى معرفة أين رحل، أو كيف، وبعبارة أوضح، أعترف أننا خبرنا شعور بالغيط أكثر من شعورا بالحزن.

في مساء عيد ميلاد الخامس عشر، الذي حل ذلك العام يوم أحد، واحتفلنا به بالمنزل كعائلة، اصطحبني فريدرك بالسيارة- ككل أحد- حتى الحافلة التي تعيدني إلى جراتيين . وكان بها قليل من المسافرين، كالعادة في تلك الساعة، وفي ذلك الوقت من العام، فجلست بمقدمة الحافلة، على الدكة الأولى، بالناحية اليمنى، بالقرب من السائق. وكان السائق هو السيد مارتيو الذي يعمل على هذا الخط منذ أعوام، وكنت أعرفه.

وحل الليل، فتحركت الحافلة ببطء، وكانت مصابيحها تضي الطريق الضيق المعتم والمقفر. وعند المحطة " الاختيارية " في " لادابير " ، بمنتصف الطريق الزراعي، لمحت من بعيد، على ضوء الفانوس، رجلا أشار بيده للسائق. وأبطأ مارتيو الحافلة، ثم توقف وفتح الأبواب. وراح الرجل يصعد. وأقسم أنه وضع بالفعل قدمه على سلم الحافلة، عندما غير رأيه، وعدل عن ذلك فجأة فاستدار وولى الأدبار بخطى حثيثة على الطريق، بالاتجاه المعاكس.

هز مارتيو كتفيه، ثم أقفل الأبواب وعاود السير. ولم يدم هذا المشهد أكثر من دقيقة، وكنت قد تمكنت بالكاد من رؤية وجه هذا الرجل. ووجدتني وقد اجتاحتني فجأة مشاعر غامضة.

قمت من مقعدي واقتربت من السائق.

- هذا الرجل ، قلت له، الذي أراد الصعود، هل تصدق، لقد خيل لي أنه كان أبي.

واستجاب السيد مارتيو متأثرا .

- أنت لست على ما يرام، أليس كذلك ! قال . فمنذ رحيل أبيك وأنت تفكر في أنه لم يغادر المنطقة.

وعدت للجلوس على دكتي، ولكن إجابة مارتيو لم تهدئ من روعي، فقد كنت أعرف أنه من مقعده على عجلة القيادة، لم يتمكن من رؤية هذا المسافر الغريب بمثل ما تمكنت أنا. وبينما كانت الحافلة تسير بالليل باتجاه جراتيين، كنت أنا فريسة للاضطراب الشديد، وللشك.

وقد أحيا مارتيو شكوكي أكثر، عند وصول الحافلة إلى الموقف، فقد تصور أنه يفعل شيئاً طيباً بانتخائه بي جانباً لكي يصرح لي، بطريقة الإسرار:

- أنت لن تقص شيئاً من هذا على والدتك، أليس كذلك؟ فسوف يثير ذلك جلبة بلا داعي.

واحتفظت لنفسي بهذا السر الرهيب، ولكني منذ ذلك الحين فصاعداً، مساء كل أحد، عند عودتي إلى جراتيين، لم أتمكن من منع نفسي من النظر بفصول كلما عبرنا بالمحطة "الاختيارية" اللادابير. لكن المسافر الذي لمحته ذلك المساء لم يظهر بعد ذلك أبداً.

كنت قد انضممت إلى فريق كرة القدم بالمدرسة، حيث لعبت في مركز الجناح الأيمن. وفي ذلك العام، لعبنا موسماً طيباً، بفضل مدرب جديد كان يلعب محترفاً فيما مضى بفريق النجم الأحمر، وقد أقلونا ذات خميس بعد الظهر لكي نشارك في نهائي دورة للشباب الصغار في "مونلوسون". وكان ذلك يوماً مهماً بالنسبة لنا، وبالنسبة لي أكثر، لأن هذه المباراة جاء موعدها في الرابع من يناير، يوم عيد ميلادي.

وكنت واثقاً ومتأكداً من تفوقي. فقد كنت، بالأسبوع الذي سبق، السبب في هدف انتصار فريقنا على فريق "أوبوسون" وكنت آمل في أن أحرز بنفسي هذه المرة.

ومع الدقائق الأولى للمباراة، اندفعت كالشهاب للحاق بأقصى سرعتي بتمريرة أمامية من زميلي "أموردوز". وأصبت بألم بالغ عند اصطدامي بمدافع خصم، حاول اللحاق مثلي بالكرة.

ووجدتني ممدداً على محفة، مغطى بغطاء. وقد انحنى علي رجل يرتدي زي الحكام الأسود، يربت خدي. وخيل لي أنه أبي. وفقدت الوعي. وحملوني إلى مستشفى المدينة، حيث احتجزت بها ليلة، تحت المراقبة.

في العام التالي، اصطحبونا في المدرسة للقيام برحلة للتزلج على الجليد. واكتشفت، للمرة الأولى، جبال الألب، ومحطة رياضيات الشتاء، وفرحة التزلج على حلبة الجليد المدكوك. وأبديت مهارة كافية بالرغم من كوني مبتدئاً.

وفي صباح الرابع من يناير، اصطحبنا المدرب لركوب كابينة التلفريك المعلقة التي تمر بأعلى المحطة، لكي نذهب إلى القمة العليا لحلبة التزلج. ومن مؤخرة الكابينة، عبر الزجاج العريض لنافذتها الخلفية، رحت أرقب أسفل قدمي أبنية المحطة، التي راحت تصغر شيئاً فشيئاً مع صعود التلفريك لأعلى. ورحت ألهو مع نفسي بالتعرف على المقهى ومحل التبغ، والشرفة المكيفة، ومحل الأدوات الرياضية الذي استأجرنا منه معدات التزلج، والمتجر، والمغسلة، ومحل "اللحوم والمقانق". وبينما أنا أهبط ببصري إلى محل اللحوم والمقانق، لمحت رجلاً يرتدي زي خباز وعليه سترة شتوية، برأس عار، ممسكاً في يده بفوطة جلدية كبيرة.

كان يسير بخطى بطيئة، وبشكل مترنح بسبب عدم قدرته على التحكم في سيره بالجليد، مقطباً متجهماً، به بعض التوحش في هيئته.

من خلال الزجاج المضبب بتأثير البخار الذي كان يبتعد بشكل سريع، لم أتمكن إلا من رؤيته يدخل المحل، ويغلق الباب خلفه. وشعرت بانفعال عنيف، واضطربت قدماي فاستندت إلى الحاجز المعدني الذي يتوسط النوافذ. ويبدو أنني شحبت وزاغ بصري بشكل جعل أحد رفاقي يضطر إلى سؤالي:

- ماذا، أأنت على ما يرام؟ ماذا حدث لك؟

- لا شيء، أحببت، لاشيء.

وبوصولنا إلى القمة، انتعلت سريعاً قبقاب التزلج، ولكني بدلا من اللحاق بالمجموعة التي كان عليها- تحت إشراف المدرب- أن تنزلق على الوادي المجاور، وبغير أن أخطر أحدا مما يتعارض مع كل قواعد الحذر، توجهت من فوري إلى الحلبة الزرقاء التي ننزلق منها إلى المحطة.

ووصلت بشكل مباشر أمام محل اللحوم، الذي كان خاوياً. وظهرت بائعة اللحم من وراء ستارة من الخرز الخشبي. كان وجهها متورداً مليئاً بالصحة، وعيناها زرقاوين زرقة عميقة وأسنانها قوية ناصعة. وكانت ترتدي مريلة صغيرة زرقاء على سترة صوفية سميكة وبنطلون من الوبر، ولا أدري لماذا شعرت نحوها بالثقة.

- أرجو معذرتك يا سيدتي، قلت لها، أنا أبحث عن أبي. وقد رأيته يدخل إلى هنا قبل قليل.

وأكدت لي أن لا أحد يعمل لديها، فيما عدا كاتبها الشاب، وبأنه لم يمر بمحلها، هذا الصباح، رجل في الأربعين من العمر، يريدي زي خباز، وعليه صدرية شتوية ممسكاً بفوطة جلدية كبيرة.

ولم تكن هذه المرأة ممن يستطيعون الكذب، أو التظاهر. وقد عدت عدة مراة لرؤيتها، أثناء إقامتي، ولثقتي فيها، قررت أن أسر إليها بشكوكي واضطرابي. وعلي أن أعترف اليوم، بأن أحداً على الإطلاق، لم يلمح أبي في هذه المحطة الألبية، لا في ذلك الصباح، ولا في أي يوم آخر.

أكثر من ذلك على أن أعترف أيضاً، أن الاختفاء المفاجئ لأبي، وهذه اللقاءات الغريبة، أصابت مراهقتي بالاضطراب الشديد، بقدر ما كانت تحدث بشكل لا يمكن تجنبه، دائماً في نفس التاريخ، أي يوم ميلادي. وأصبح الرابع من يناير بالنسبة لي يوم ذكرى اختفاء أبي بدلا من أن يكون يوم عيد ميلادي.

في هذه الفترة من العمر، تقود الروح المزعزعة للوقوع في التوهمات. ومع نهاية كل عام، من بداية ديسمبر، كنت أصاب بالتطير من مرحلة الأعياد والإجازات، فكنت أتخوف، وآمل في الوقت ذاته قدوم اليوم المقدر الذي ألتقي فيه أبي بالطريق.

وعندما كان يعرض مشروع لقضاء إجازة أو للخروج، في هذه الفترة من العام، لم يكن بإمكاني تجنب الشعور المبهم، الذي يجتاح لا وعيي، بملابسات لقائنا المقبل. كنت مرهفاً لأقل إشارة غريبة. ولم أتمكن من منع نفسي من التفكير في الكيفية التي يحيا بها أبي حياته الأخرى، وبأنه على نحو أو آخر، يعلم كل شيء عن حركاتي وسكناتي، وانتقالاتي، وبأنه يحبني دائماً بطريقته، وبأنه من جهته، يعد العدة لظهور مفاجئ.

وذات أحد وافق الرابع من يناير، ولمحاولة أن أثبت بالدليل ما يحدث بيني وبين أبي، قررت ألا أخرج من البيت طيلة اليوم.

كانت أمي وفريدرك قد عرضا أن يصطحباني للعشاء في فندق جديد تم افتتاحه بضواحي شامبون. ولكني تذرعت بواجب مدرسي علي الانتهاء منه، وفضلت البقاء وحدي وتعاطي شطيرة أمام التلفزيون.

وكنت بحالة طيبة حتى موعد عرض فيلم سهرة الأحد، وجهدت لكي أبعد عن عقلي ظلال الشك الذي يجتاحني. ولكنهم في نشرة الأنباء الأخيرة، بالقناة الأولى، عرضوا لعدة دقائق ريبورتاجا محليا حول حادث سير رهيب، بالقرب من مدينة "مولان"، على الطريق السريع السابع. فقد اصطدمت حافلة تقل أطفالاً صغاراً بشاحنة معطلة. وضمن الإطفائيين الذين ظهروا بهذا الريبورتاج وهم يعملون على نجدة الضحايا، وتحت خوذة ذهبية وسترة جلدية سواء، ولعدة ثوان، لمحت أبي.

في عام آخر، مشحون بالتطير نفسه، تمكنت من الذهاب وقضاء الإجازة في باريس، لدى أحد أعمام صديقي براتراند، الذي قرر استضافتنا. وفي واقع الأمر، لم يكن منزل هذا العم بباريس، وإنما في ضاحية قريبة منها، هي "جانيي" التي كان السيد العم يسكنها. فكنا طيلة النهار، نتسكع عبر شوارع باريس، مغيرين كل يوم الحي الذي نتسكع فيه، ونحن نجول على المتاحف، والأنصاب التذكارية، ودور السينما والعروض، بقدر ما كانت تسمح إمكاناتنا. وكنا نعود بالمساء إلى "جانيي"، ومرهقين، ولكن مغمورون بالسعادة، بالقطار الأخير الذي يقوم من محطة الشرق.

وفي مساء الثالث من يناير، ولأنه كان آخر أيام الإجازة، وكان مازال قد تبقى معنا قدر لا بأس به من النقود، قررنا تناول العشاء، إلى أن يحين موعد القطار، في أحد المطاعم المجاورة للمحطة. وقد شربنا بهذه المناسبة زجاجة كاملة من النبيذ، مما جعلنا في حالة من الجذل.

وبمغادرتنا المطعم اعترضتنا فتاتان غاية في الجمال، والمرح، وعلى درجة شديدة من الجرأة. وعلى حين غرة، عرضتا علينا اصطحابهما للرقص، "بشكل صداقي"، في ملهى "تعشقانه"، وكما وصفتاه "شديد الظرف"، ولكنهما لاتجرؤان على دخوله وحدهما، خشية أن يتصورهما أحد عاهرتين.

وتعلل برتراند في التو بأن القطار الأخير الذي يقلنا إلى "جانيي" سيقلع خلال خمس دقائق.

- لا يهم، لدينا سيارة! أكدت الفتاتان.

وولى برتراند الأدبار هاربا، ولم أستطع أنا مقاومة إغواء العرض ووجدتني بعد برهة من الزمن جالساً على طاولة في كباريه، بين الفتاتين الشابتين، وأمامي دلو ثلج به زجاجة، ظهرت كما لو بفعل السحر.

ورقصت مع كل من الفتاتين، ثم شرعت في مغازلة كل منهما مغازلة خفيفة. وغرقتا في الضحك من لعبتي الساذجة. ولم أستغرق طويلاً حتى لاحظت أنني كلما عدت إلى طاولتنا، وجدت أن يدا عجيبة قد امتدت وملأت الأقداح الفارغة، وقامت بإحلال زجاجة أخرى محل الفارغة.. وعندما انتهيت، وجدتني مكوما على الطاولة، واضعا رأسي بين بين المعقودتين، غارقا في سبات عميق.

في فجر ذلك اليوم الرابع من يناير، انحنى نحوي رجل، من الناحية الأخرى من الطاولة، وهز كتفي، بيد ضخمة قوية، بطريقة حازمة وبلا خشونة:

- عليك بدفع الحساب والذهاب من هنا، يا كبيري، قال لي.

وبحركة شاردة بطيئة للغاية، وبغير أن أتوقف عن التحديق فيه، أخرجت من حافظتي كل ما يتبقى لدي من أوراق مالية. وكانت تساوي تقريباً مبلغ الحساب. وقبضها الرجل في يده، دون أن يعدها، ورفع كتفيه وهز رأسه:

- أتعرف مقدار ما شربت! في سنك هذه! بليلة واحدة!.

قال بحزن أكثر قسوة. وفي الفوضى الغامضة التي اعترت عقلي، بحثت بلا جدوى عن طريق مضيء يقودني لأبي، عن كلمة سر تفتح باب طفولتي.

- سانت جراتيين، بالكروز، هل تعرفها؟ غمغمت بصوت كسير.

هل لم يسمعني؟ ووجدته يمسكني من ذراعي ويساعدني على النهوض. وقد عانيت مشقة في القيام.

واقتادني الرجل بخطى بطيئة لباب الخروج من الكباريه.

وكان الباب يفضي إلى طريق ضيق مظلم.

- أكان لديك معطف؟ سألني ثانية.

لا، لم يكن لدي معطف. ومشيت لبرهة إلى الأمام، وعثرت بالمصادفة على الجدار واستندت إليه وأنا أسير، فوصلت إلى ساحة صغيرة مثلثة، بها بضع أشجار هزيلة.

وتمسكت بإحدى هذه الأشجار، ثم سقطت على ركبتي، وشرعت في التقيؤ.

ولست أعرف بعد كيف تمكنت من العودة إلى "جانيي". ولكن ما أعرفه، هو أنني، فيما بعد، لم أتمكن على الإطلاق من العثور في باريس على تلك الساحة الصغيرة المثلثة المشجرة ولا على الباب الضيق لذلك الكباريه التحت أرضي، الذي قضيت به تلك الليلة.

كنت في السن التي يعشق فيها الناس الارتحال، وزيارة الأماكن، والمعرفة. وأتيحت لي الفرصة للسفر إلى هولندا. وسررت كثيراً باكتشاف المتحف الجديد لجوجان، الذي كنت أعتبره فيها مضى أعظم فنان حديث. وفي دخيلة نفسى كنت أفكر أيضاً بأن الابتعاد، وتغيير المكان، ومرأى الجمارك والحدود بإمكانه أن يجنبني في ذلك العام هذا اللقاء المقدر.

وفي الصباح الأخير لرحلتي وحيدا، وبينما أنا أسند مرفقي على درابزين أحد الجسور، وأرهف سمعي لحركات البحارة، وأتامل سير المراكب على المياه الساكنة، حظت شخصاً جالسا في الأسفل، على دكة حجرية، وكان يمسك على ركبتيه بكلب ممدد بطنه للأعلى وسيقانه منفرجة في الهواء على كومة من الجرائد. كان كلبا بشعا من كلاب الشوارع، لونه أبيض على أصفر، وفي حالة شديدة القذارة.

هذا الرجل، الذي لم يكن يعرف بعد أن أحدا يراقبه، بدا مشغولا كلية بمداعبة بطن حيوانه، وبدا أن هذا يسبب لكليهما لذة كبرى مثيرة. هذا المشهد الغريب من مشاهد الحياة اليومية بهولندا استحوذ على كل اهتمامي. وظلت لبرهة أراقبه من أعلى الجسر، إلى أن رفع الرجل رأسه فجأة، كما لو أنه شعر بحضوري. وأسفل قبعته الكبيرة السوداء، لمحت وجهه والتقت نظراتنا.

ظللت للحظة مذهولاً. وكنت أعرف أن عليّ أن أتماسك، وأن أعثر في التو على طريقة أصل بها لحافة القنال. ولكن، ومع مرور الانفعال الأول، جعلني نوع من الشعور الغريزي أصرخ بكل قواي:

- يا أبي إنه أنا انتظرني

وتعرف أبي تماما علي. فأخفض وجهه، ونهض من على دكته، وحمل كلبه البشع بين ذراعيه، كما نحمل طفلاً، ثم ولى هارباً.

كانت طبيعة المكان قد جعلته يمر بالضرورة تحت الجسر المعدني الذي أقف عليه. وغيرت من موقعي وأنا أرى قبعته تبتعد بشكل حثيث. وبابتعاده لمسافة كافية شعر فيها بأنني لن يمكنني اللحاق به، استدار أبي صوبي وصاح، من بعيد، بصوت أجش، وبالفرنسية، بالطبع:

- أنا لست أباك فلم يكن لي أبدا ابن

واختفى من ناظري بعد هذا الاعتراف الرهيب.

يشترط القانون فوات مدة سبع سنوات بين الإعلان الرسمي عن اختفاء أحد الأشخاص وبين التسجيل "القانوني" لموته من خلال حكم محكمة مدنية. وقد تم الاعتراف بأمي كأرملة، وتمكنت من الزواج مرة ثانية من فريدرك نوش، الذي عاش معها حياة زوجية منذ اختفاء أبي. ولكني أذكر أنني في يوم الزواج، أصابني الاضطراب لفكرة إمكان ظهور اعتراض، لسبب جوهري، على هذا الزواج. كنت الوحيد الذي يعرف أنه مازال حيا، وأن طرقنا تقاطعت هنا وهنا، على مر السنين. وفيما عدا بائعة اللحم بمحطة التزلج، لم أبح بسري الثقيل هذا لأحد على الإطلاق.

بعد زواجهما بقليل، باع فريدرك وأمي مخبز سانت جراتيين. واستقرا في "جراو دي روا"، التي يقيمان بها لليوم. وكونا معا عائلة سعيدة وأدخلا إلى نفسي البهجة بإنجابهما أختين صغيرتين لي، توأم، أسمياهما ماري إيف وماري مارتا.

وفيما يخصني، بعد أن نجحت بمدرسة المعلمين، حصلت كمبتدئ على وظيفة طالما رغبت بها هي وظيفة معلم، ثم وظيفة مدير مدرسة سانت جراتيين. واستقر بي المقام في هذا البلد ثم تزوجت بعد ذلك من زميلة لي بالفصول الابتدائية. وحضر فريدرك وأمي زواجنا، ومعهما الفتاتان التوأم. وفي العام التالي، تقدمت للانتخابات المحلية واخترت نائبا للعمدة في منطقتي.

في هذا العام نفسه، قررت إدارة الطرق والكباري تعبيد طريق يؤدي إلى الطريق الرئيسي السريع مرورا بسانت جراتيين، فالمصنع الصغير بهذه المدينة كان قد نما بشكل ملحوظ. وكانت شاحنات النقل الثقيل قد أحالت المرور إلى حالة متعذرة. وكانت الجرافات والجرارات قد بدأت في حفر مساحة كبيرة على جانب الطريق القديم، حتى المخرج المؤدي لمدينة بورج. وفي صباح أحد أيام يناير، جاء رجال الدرك للبحث عن بالمدرسة، عند انتهاء الدراسة. واصطحبوني إلى موقع العمل حيث كان عمال الحفر قد عثروا على اكتشاف مدهش، هو عبارة عن هيكل عظمي لإنسان بالغ، مدفون في الرمال، منذ عشرة أعوام. ولم يكن هناك ما يثبت أن هذا الهيكل العظمي يتوافق أو لا يتوافق مع الهيكل العظمي لأبي.

ولكن كان من المحتمل أن يكون هذا هو هيكله العظمي بالفعل.

- على كل حال، أردت أن أخطرك بالأمر، قال لي العريف. ولكن ألا تريد حقا نبش الماضي حول هذه الحكاية القديمة؟

- لا، لا أريد ذلك.

 

محمد سيف