العلاج بالثقوب البيضاء

العلاج بالثقوب البيضاء

تزعم تجارب حديثة أنها تدعم البراهين العلمية للمعالجة المثلية, وتعلن نبأ أكثر إثارة للدهشة: كل جزئ, حتى لو اختفى, يترك بصمته على هيئة موجة تنتقل, ليس فقط في الماء ولكن في الفضاء أيضا. فهل تسمح هذه (الخاصية) بالعلاج والتطعيم من بعد?

على الجانب الآخر يظل أكثر العلماء الأخصائيين شهرة على مواقفهم من التجارب على (ذاكرة الماء), ولا يرون فيها سوى شذوذ عن القاعدة الطبية ومجرد خدعة.

يشبه العلاج المثلي العقاقير الوهمية التي يطلق عليها (بلاسيبو), ويعطيها الباحثون لمجموعات المقارنة في الدراسات الطبية للتحقق من التأثيرات العلاجية للعقاقير الحقيقية التي تتناولها الأبحاث. ومع ذلك تستقطع العلاجات المثلية نصيبا في حجم مبيعات المنتجات الدوائية يصل إلى نسبة 4.6 في المائة, ولا تمثل سوى 1.7 في المائة من حجم الاستثمار في مجال الصناعة الدوائية, ولأن إنتاجها يعتمد على سكر وماء لا تكون مرتفعة التكاليف.

إذا صدقت الشائعة, فإن المعالجة المثلية تكون قد حصلت أخيرا على البراهين العلمية التي ظلت في حاجة إليها. ومن الآن فصاعدا يمكن اعتبارها اكتشافا وليس مجرد نزوة.

ولكن, حيث إن هذه الشائعة انطلقت في الأوساط الطبية غير الأخصائية, فإنه يجب إعادة النظر فيها عدة مرات قبل التسليم بصحتها النهائية.

ولكي يصبح اكتشاف علمي ما مقبولا, يجب أن يكون قابلا للتعبير عنه في إطار نظرية وإثباتها بالتجارب. وهذا هو الحال مثلا مع قاعدة أرشميدس للطفو وقانون نيوتن للجاذبية. ومع ظهور المعالجة المثلية منذ قرنين لم يستطع أحد تفسيرها من خلال إخضاعها لهاتين الركيزتين.

وأعلنت أنباء أخيرا عن إنجاز هذه المهمة, وأشارت إلى أن البرهان العلمي للمعالجة المثلية يكمن في (ذاكرة الماء) المشهورة التي (اكتشفها) الدكتور جاك بنفينست عام 1988, وانتظرت وضعها في نظرية وإثباتها بالتجربة. وكان بنفينست يرى في (ذاكرة الماء) قدرة كامنة في الماء, تستطيع حفظ ونقل خواص المادة الكيماوية, التي ليست ضمن خواص الماء, لكنها تصبح متضمنة فيه لاحقا, كما لو أن هذه المادة قد تركت بصمتها في هذا السائل. ويساوي ذلك القول إن للجزئ نفس التأثير سيان كان موجودا أو غائبا.

السحر القديم والعلم الحديث

لو كانت هذه (الظاهرة الخارقة) غير قابلة للجدل, لكانت صناعة المعالجة المثلية قد حصلت على البرهان العلمي الذي تحتاج إليه بشدة في الوقت الراهن, حيث يتم إنتاج هذه العلاجات اعتمادا على مواد مخففة جدا لدرجة عدم احتوائها على شيء يذكر سوى ما يشبه السواغ (ما يضاف إلى الدواء ليصبح سائغا), أي سكر وماء. وباختصار لا تحتوي على شيء, والغريب في هذا الأمر أن هذا اللا شيء يشفي المرضى.

وشهد الإعلان عن التأثير الجزيئي في غياب الجزىء معارضة شديدة في الوسط العلمي, لأنه, حسب قول فرانسوا جاكوب الحاصل على جائزة نوبل في العلم: (يقتضي علما الكيمياء والفيزياء وجود الجزيئات).

وهذا ينطبق على أقوال بنفينست. ومع الأسف تم الحكم على تجاربه سابقا دون أن يعيد آخرون تجربتها, ولم يفعل ذلك سواه ومساعدوه, وتم إغلاق مختبره في نهاية عام 1993, بعد أن زارته عدة لجان علمية ضمنها لجنة دولية.

والآن وبعد تسع سنوات, يعود بنفينست أخيرا ويعلن في وثيقة جديدة أكثر غرابة من (اكتشافه) عام 1988, أنه إذا بلل المرء مفتاح السيارة في مياه نهر يمكنه فتح بابها باستعادة الماء على بعد كيلو مترات. وذهب أخيرا أبعد من ذلك, مؤكدا أن ذاكرة الجزىء دون وجوده لا تنتقل فقط في وسط مثل الماء, لكنها تنتقل أيضا في الفضاء, عن طريق التأثير عن بعد (تليماتيك), مما يسمح, حسب قوله بالعلاج وإعطاء الأمصال عبر شبكة إنترنت الإلكترونية للمعلومات. وقال جورج شارباك الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1992: إذا تم إثبات ذلك, فإنه سيكون أعظم اكتشاف منذ نيوتن.

ولكن, هل يمكن أن يكون ذلك حقيقيا? وكيف تستطيع النظرية تفسير مثل هذه الظاهرة?

ومن أجل البرهنة على صحة النظرية, التزم أربعة باحثون من مجالات علمية مختلفة مع بنفينست بتحقيق هذه المهمة. وهؤلاء الباحثون هم: هنري برليوتشي عالم الرياضيات في الكلية الفرنسية العليا (نورمان سوبريير), وعالم الاقتصاد رولاند كونت, وإيفي لاسن الحاصل على دكتوراه في الطب, والمهندس جأبريل فيرنو. وكان هدف هذا الفريق متعدد الاختصاصات تفسير ذاكرة الماء (والمعالجة المثلية من باب التوسع), عن طريق فيزياء جديدة تستعين بـ (الثقوب البيضاء) و(البروتينات الفائقة), وهو ما لم يسمع عنه الفيزيائيون من قبل.

وهذه النظرية أكثر جدة من أن يرد ذكرها في أي مرجع, ولن يحكم على صحتها سوى الوسط العلمي. لكن عددا من المجلات العلمية أوردتها, ونشر عنها الباحثون الأربعة كتابا من 163 صفحة تحت عنوان (نظرية التخفيفات العالية وآفاق تجريبية).

وقال البروفيسور جان فرانسوا برجمان الذي يدرس منهج العلاج في قسم الأمراض الباطنية في مستشفى لازبوازييه في باريس: (لا يجد المرء في هذه الصفحات المفتقدة إلى التبصر سوى التأكيد بأن القمح ينمو في الصيف أفضل من الشتاء, لأن الشمس تكون عندئذ أقل بعدا عن الأرض, مما يشكك في جدية المؤلفين).

وإذا سار المرء خلف هؤلاء (الرواد), يجب عليه أن ينسى كل تطورات الطب منذ باستير الأمصال, المضادات الحيوية, مضادات الاكتئاب, وكل ترسانة العلاجات التي أنقذت ملايين الناس, حيث لا يعترف هؤلاء (الرواد) إلا بالعلاجات المثلية. ويرون أن العلاج المثلي سوف يكتسح الطب الكلاسيكي لأنه يعتمد على آلية لم يعرفها هذا الطب.

ثقوب بيضاء

وتتمثل هذه الآلية في البدء بمادة الأساس في العقار الذي يعالج مرضا محددا, وتخفيف تركيزها بالماء النقي حتى تختفي تدريجيا في المادة المخففة. وعند درجة محددة من التخفيف يطلق عليها A1CH نسبة إلى الطبيب الألماني كريستيان هانمان مبتكر العلاج المثلي (1755-1843) يكون تخفيف المادة مائة مرة, وA2CH يعني التخفيف إلى عشرة آلاف مرة, A3CH مليون مرة, وعند A4CH يصل التخفيف إلى مائة مليون, ثم A5CH عشرة مليارات. عندئذ يكون عدد جزيئات هذه المادة محدودا, حتى يتم الوصول إلى اللحظة التي يكون لدى الماء الفرصة كاملة لكي يصبح خاليا تماما من أي جزئ من هذه المادة.

ونصل إلى السؤال: كيف تستطيع مادة اختفت أن يكون لها تأثير علاجي? يرد الباحثون الأربعة: عن طريق البصمة التي تركتها في الماء.

وبعيدا عن الجدل حول هذا الأمر, يشرحون طريقة تكون هذه البصمة بأنه بمجرد اختفاء المادة في الماء تترك غلافا فارغا يسمونه (ثقبا أبيض) (بالطبع عكس الثقوب السوداء في الكون التي تحتوي على مادة بالغة الكثافة).

وليست الثقوب البيضاء ـ تبعا لهؤلاء الباحثين ـ ثقوبا بالمعنى المفهوم للكلمة لكنها نقاط بالغة السطوع تبث موجة كهرومغناطيسية خاصة تدفع خلال مسارها جزيئات الماء وتتحول إلى (بروتينات فائقة), أي جزيئات خفية تسمح ببث أشعة بيتا, التي تنبعث حسب الفيزياء الكلاسيكية من بعض العناصر المشعة مثل الراديوم, التريتيوم, والتوريوم. ولا يعطي الباحثون أي تفسير علمي مقبول في هذا المجال.

ويجب أن نقبل أيضا من الباحثين, دون اعتراض, القول بأن الجسم الإنساني ينتج أيضا ثقوبا بيضاء في بلازما الدم, ناجمة عن إيقاع نبضات القلب. وتبث هذه الثقوب البيضاء أىضا موجات كهرومغناطيسية تسبب بدورها (موجات تخلف المغنطة) (التي تبقى بعد زوال المغنطة) وهي سبب الإصابة بالمرض إذا تحولت إلى موجات (سامة) إثر تفاعلها مع الجاذبية الكونية. وتأتي المعالجة المثلية في النهاية لتعيد الأمور إلى نصابها. وخلال عملية الهضم, عندما تمر حبيبات دواء العلاج المثلي في الدم في الأمعاء الدقيقة, تتلاقى الثقوب البيضاء التي يتضمنها العلاج بالثقوب البيضاء في البلازما. وتصحح الصدمة الموجة النهائية, وعندئذ يتم الشفاء من المرض.

وكما لم يسمع أي فيزيائي عن (البروتينات الفائقة) لم يتحدث أحد أبدا عن (موجات تخلف المغنطة) ولا يمكن رصدها بأكثر الأجهزة دقة.

والتحقيق لا يزال مستمرا

وحيث إن أي نظرية يمكن التحقق منها إذا أمكن دعمها بتجارب قابلة لإعادة إجرائها, وافق البروفيسور شارباك على أن يشرف على إعادة تجارب بنفينست. ولم تكن تجربته هي الأولى من نوعها التي تجري خارج مختبر بنفينست, الذي وافق عام 1988 أن يجري تجاربه ثلاثة خبراء دعتهم مجلة (نيتشر) البريطانية. وكانت تجربتهم سلبية.

وفي تجربة أخرى للدكتور جان بوديه الذي يعمل في مختبر بنفينست منذ 1984, حاول التحقيق مما إذا كان الهستامين, وهو مادة كيماوية طبيعية لها تأثيرات علاجية, يتصف بتأثيرات جرعة العلاج المثلي أيضا? ومن أجل هذا الغرض, يكفي حقن قصبات الرئة لحيوان مختبر بهذه المادة. وعندما يتم إعطاء حقنة بجرعة دوائية تتقلص القصبات الى أقصى درجة. وفي المقابل, عندما تم إعطاء جرعة علاج مثلي, أي دون المادة المؤثرة لم يحدث أي شيء. وخارت عزيمة بوديه حتى إنه أوشك على الرحيل عن المختبر.

وتشمل تجربة شارباك مسجلا مرتبطا بجهاز كمبيوتر, يوضع أمامه ماء يحتوي على (ذاكرة) استيل كولين, وهي مادة كيماوية طبيعية (شارك بنفينست في اختيارها), تؤدي ـ إذا تم إعطاؤها على شكل جرعة دوائية ـ إلى زيادة سريعة لكنها قوية في تدفق الدم التاجي في قلب حي مفصول لحيوان مختبر.

وتمثل الموجة الكهرومغناطيسية المزعومة التي يبثها شبح الأستيل كولين, ذاكرة أستيل كولين التي تظهر بقيمة ملموسة. وتم تسجيل هذه الذاكرة في قرص كمبيوتر ثم بثها تجاه أمبوب ماء نقي, يفترض أنه سجلها على غرار الشريط الممغنط. وتلا ذلك حقن ماء الأنبوب في قلوب فئران, بهدف معرفة ما إذا كان تدفق الدم التاجي سيزداد أم لا. أي أن الطريقة الوحيدة لمعرفة ما إذا كانت الموجة الكهرومغناطيسية مجرد افتراض أم أنها موجودة فعلا, كانت البحث عن دليل عن طريق تأثيراتها الفسيولوجية.

وتم إجراء الجزء الأول من هذه التجارب في مختبر البروفيسور شارباك في باريس, تبعا للبروتوكول الذي أقره بنفينست. وأجريت 18 تجربة. وفي مقابل كل تجربة أعد بنفينست 20 أنبوبا مليئة بالماء النقي في مختبره في مدينة كلامار البعيدة عن باريس, ثم حملها فيما بعد إلى باريس.

وفي غياب بنفينست اختار البروفيسور كلود هينيون الباحث في المعهد العالي للفيزياء والكيمياء الصناعية في باريس ـ وهو معهد مشهور حصل اثنين من أساتذته على جائزة نوبل في الفيزياء هما بيير جيليه وجورج شارباك ـ بطريقة عشوائية خمسة أنابيب من الـ 20 أنبوبا. و(أنصت) إلى رسالة الأستيل كولين في كل أنبوب على حدة, التي يبثها قرص الكمبيوتر. وتم وضع شفرة سرية لا يعرفها سوى هينيون.

وفي الجزء الثاني من التجربة, الذي أجري في كلامار, كان على بنفينست العثور من خلال التجارب الـ 18, على الأنابيب الخمس التي تشبعت بذاكرة استيل كولين. ولهذا الغرض يجب حقن القلب الحي للفأر بمحتوى كل أنبوب, وتعطي الصدفة البسيطة بنفينست في هذه الحالة فرصة من خمس فرص لتحديد الأنبوب الصحيح.

وإذا لم يخطئ بنفينست أبدا, كان عليه أن يعطي 18 إجابة صحيحة, لكنه لم يفلح في الإجابة الصحيحة إلا ثلاث مرات.

وحتى هذه التجارب كان يتعذر التحقق منها لأنه لا شارباك ولا هينيون كانا موجودين ليشاهدا بأنفسهما أن التدفق التاجي للقلب تسارع.

وخفف من هذا الإخفاق الاستثنائي للتجربة التي تم إجراؤها تحت المراقبة, نجاح استثنائي لتجربة أخرى أجريت أخيرا دون مراقبة في شيكاغو وأجرى التجربة الجديدة عالم لم ينشر اسمه, وأشارت أنباء عن نجاح تجربتيه بنسبة 100 في المائة.

ولم يغلق ملف تجارب بنفينست حتى الآن, ويستمر اعتقاد كثير من الناس في (ذاكرة الماء), لأن الاعتقاد أكثر سهولة من المعرفة العلمية.

 

عزت عامر

 
  




كل مادة تتلاشى بالتخفيف في الماء تترك بؤرا يمكن رصدها اشعاعيا وحاسوبيا





كل مادة تتلاشى بالتخفيف في الماء تترك بؤرا يمكن رصدها اشعاعيا وحاسوبيا