أطياف فلسطين في آثار مثقفيْن مقدسيين

أطياف فلسطين في آثار مثقفيْن مقدسيين

ربما يكون روحي الخالدي وخليل السكاكيني، وكلاهما ارتبط بالقدس، هما المثقفين الفلسطينيين الأكثر أهمية، في المرحلة التي سبقت «عام النكبة»، وذلك لسببين: امتلاكهما معرفة حقيقية في مجاليهما، الأول أديب والثاني ذو فلسفة تربوية، والتزامهما الكلي بالقضايا الوطنية والاجتماعية. قام الطرفان بتأمل أحوال فلسطين وهما يعيشان في القدس، كما لو كان في «المدينة المقدسة» ما يمدّ روحيهما بالإيمان والصدق وأخلاق العمل.

1- روحي الخالدي نموذجاً: المثقف المسئول والسياسة الثقافية:

ما الذي كان يفكر به المقدسي روحي الخالدي، وهو يتجوّل في فلسطين العقد الأول من القرن الماضي، مراقباً تصرفات أبناء شعبه وأفكارهم، ومراقباً بيقظة وهدوء وتأن ما يجري في المستوطنات اليهودية «المزروعة» في فلسطين؟ ولماذا كان يسجل في دفتر، سيصبح كتاباً عنوانه «السيونزم» أي الصهيونية ما يرى لدى «الآخر» وما يلاحظه لدى أبناء شعبه؟ تؤكد العودة اليوم إلى روحي الخالدي أن أفكاره لاتزال تحتفظ براهنيتها، وأنه كان نموذجاً للمثقف الوطني النقدي، الذي نحتاج إليه اليوم. ولهذا تنبغي قراءة أفكاره من وجهة نظر الحاضر أي من وجهة نظر وطنية.

أراد المثقف المقدسي أن يسجل أمرين أولهما: دقة وتنظيم وحسن ترتيب المستوطنات اليهودية: بيوتها الصحية ومدارسها ولوازمها الطبية وتنظيمها المعماري وهندستها الزراعية والتصرّف بالمنتوج الزراعي.. أي كل ما يشير إلى مجموع بشري «وافد» يستعمل عقله ويصرّف شئون حياته بشكل عقلاني. أما موضوع الأمر الثاني فيتصل بتفكير المجتمع الفلسطيني وسلوكه، حيث هناك فئات تسيء استخدام المال إن كانت تملكه، وتسيء استخدام عقلها إن لم تمتلك المال، فلا مجال للتنظيم والدقة والهندسة، إلاّ إذا اعتبر قبول الخراب هندسة، ونسيان الأمراض والأوبئة عملاً مفيداً.

لم يشأ الخالدي أن ينظر إلى المستوطنات المجتهدة المزدهرة، وأن يقول: «هذا ضلال والحق معنا والحق سينتصر»، ولم يشأ أن يضيف جديداً إلى الوعظ والإرشاد والتفاخر الذاتي وأهازيج الوعد والوعيد. بل شاء أسلوباً علمياً متقشّفاً وتحرراً من المحسنات اللفظية، يسجل ما يرى ويعلّق عليه ويهمس بعاقبته، معتقداً أن دقة الوصف الموضوعي كافية وحدها لاقتراح الأسئلة واستقدام الإجابات.

قال الخالدي: إن الإنسان، من حيث هو كائن عاقل، يصنع تاريخه، وإن على الإنسان المحاصر إن يصنع تاريخاً جديداً يفك حصاره . ولهذا أراد كتابه «السيونزم» أن يشير إلى أمرين: ضرورة المقارنة، فالإنسان لا يعي إمكاناته الذاتية إلا مقارنة بآخر، وأن انغلاق الذات على رضا موروث ينتهي إلى كارثة. والأمر الثاني هو: ضرورة الإنذار، لأن هندسة البناء تهزم هندسة الخراب. فالمستقبل للفرد المسئول الذي ينتمي إلى جماعة، تعترف به ويعترف بها، بعيداً عن فرد مغاير يستعمل إمكانات جماعته كي يبدّدها على اهتمامات فقيرة.

أخذ الخالدي بمبدأ المقارنة، الذي يكشف عن الفرق بين الوضع اليهودي والوضع الفلسطيني، رافضاً المواقف الثلاثة السهلة: التشاؤم الذي يشلّ الإرادة، والإيمان الفقير الذي يبني حياة الإنسان على فكرة القضاء والقدر، والتفاؤل الجاهل الذي يستولد العسل من الشوك. رفض الخالدي ما رفض معتمداً مبدأ: السببية التاريخية، الذي يشرح الأسباب التي كوّنت ظاهرة اجتماعية معينة، ويؤكد دور الإنسان في تكوّنها، المتمثل بعنصري: العقل والإرادة. ولعل الانطلاق من الإنسان ودوره في صنع أقداره هو الذي أملى على المثقف المقدسي أن يؤلف كتابيه: «الصهيونية» و«تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو». بحث في الكتاب الأول اضطهاد اليهود في أوربا، وروسيا بخاصة، في القرن التاسع عشر، وسعيهم الدؤوب إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، معتبراً أن «الطموح القومي اليهودي» غير منفصل عن الظاهرة القومية الأوربية الحديثة. وسواء كان تفسير الخالدي صحيحاً أو خاطئاً، فقد أراد البرهنة على «حداثة المشروع الصهيوني» وعلى ارتباطه، نظراً وعملاً، بالحداثة الأوربية، التي آمنت بالتنظيم والإنتاج واقتصاد الطاقة الإنسانية.

واتكاء على مبدأ شرح الظواهر الإنسانية بأسباب إنسانية توقف الخالدي، في كتابه الثاني، أمام علاقة التخلّف بالاستبداد مفسراً، بشكل مضمر، تخلّف المجتمع الفلسطيني بالسيطرة العثمانية, التي تبدأ وتنتهي بواجبات الإنسان إزاء سلطة ولا تعترف بالإنسان وبحقوقه. وسعياً وراء الوضوح شرح معنى الثورة الفرنسية وأسبابها، والعوامل التي أدّت إلى صعود الدولة العربية الإسلامية وانحطاطها. وإذا كان الخالدي يبدو في كتابه «علم الأدب» مثقفاً تنويرياً، لا يختلف عن غيره من المثقفين التنويرين العرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فإنه يبدو في كتابه عن الصهيونية مثقفاً فلسطينياً نوعياً يهجس بأمر محدد هو: وحدة السياسة والمعرفة، ذلك أن مواجهة «الآخر» تستلزم معرفة الأنا والآخر معاً، أو أن مواجهة الإنسان الفلسطيني لعدوه الصهيوني تستلزم أن يعرف الفلسطيني إمكاناته الذاتية وإمكانات عدوه. إذا جمع القارئ الفلسطيني اليوم، بعد أكثر من قرن من المعاناة والكفاح والإخفاق، بين كتابي الخالدي، وحاول تأمل الأساسي فيهما, وصل إلى نتائج محدّدة، كانت صالحة في زمن الخالدي ولاتزال صالحة حتى اليوم وتقول ما يلي: لا وجود لتاريخ إنساني ثابت، إلاّ إذا استقال الإنسان من الفعل والعقل والإرادة، أو تهاون في مصالحه وأهدافه. فقد كان العرب المسلمون قوة متحضرة، قبل أن يسقط عليهم الانحطاط، وكانت أوربا متخلّفة قبل أن تثور على ما أنتج تخلّفها، وكان اليهود عرضة للقمع والاضطهاد إلى أن «وقعوا على فكرة الدولة اليهودية». والواضح في هذا أن الوضع الفلسطيني المتخلّف، كما بدا عام 1910، قابل للتغيير والإصلاح.

اعتماداً على وحدة السياسة والمعرفة طرح المثقف الوطني، الذي كانه الخالدي، سؤالين أساسيين: كيف يواجه الإنسان المتخلّف إنساناً آخر أكثر تقدّماً منه و: كيف يواجه الفلسطيني المهدد في أرضه غازياً متقدّماً غايته احتلال الأرض الفلسطينية وتهويدها؟ دار السؤالان حول: الغزو وحداثة الغازي، واحتلال الأرض وتخلّف المجتمع الفلسطيني. مهما تكن المفردات التي أدرجها الخالدي في حديثه، مثل الحداثة والتخلّف وأوربية القومية اليهودية وتقليدية المجتمع الفلسطيني المفرطة، فإن ما قال به يهدف إلى اقتراح: إستراتجية وطنية مقاومة لها ثلاثة عناصر: ماذا نقاوم، كيف نقاوم، ولماذا نقاوم؟

ماذا نقاوم: بنى الخالدي كتابه عن الصهيونية على فكرتين متوازيتين: «تقدم اليهود وتخلّف العرب». تتوزّع المقاومة، والحال هذه، على عنصرين: أن يقاوم الفلسطيني تخلّفه الذاتي، وأن يقاوم الطرف الذي يريد احتلال أرضه. ولكن إلى أين تذهب الأولوية إذا كان الفلسطيني محاصراً في اختياره؟ أو: هل تستطيع مقاومة الإنسان المتخلّف أن تحقق أهدافها، مادام المتقدّم يهزم دائماً المتخلّف؟ كان هذان السؤالان، ولايزالان، محور المأساة الفلسطينية. وإذا كان هناك من إجابة فهي لا تقوم في مفهومي: التقدّم والتخلّف، من حيث هما، بل في التجربة الكفاحية الفلسطينية الواسعة، التي تضمنت أشكالاً مختلفة من التقدّم والتخلّف معاً. ما الذي تقدّم، وما الذي حافظ على تخلّفه، في التاريخ الوطني الفلسطيني؟ سؤال يحتاج إلى دراسة واسعة، بعيداً عن بداهة الصهيونية وعلاقتها بالاستعمار وعن كونها كانت ولاتزال امتداداً لقوى عسكرية وسياسية هائلة القوة.

ليس المقصود بالتقدم تراجع الأمية وتزايد المتعلّمين، ولا تزايد الأطراف السياسية التي تنسب الشعب الفلسطيني إليها أو تنتسب إليه, ولا الكفاح المسلح وتعظيم شأن السلاح والمسلّحين، بل المقصود بذلك تحرّر الفلسطينيين مما أثبتت التجربة عقمه وإخفاقه وخيبته، وتطوير وتدعيم وإسناد ما دلّلت التجربة على صحته وصلاحه. ولهذا توقف الخالدي، الذي لم يختبر أنواع العذاب التي اختبرت الشعب الفلسطيني لاحقاً, أمام: ضرورة استخدام العقل بشكل مفيد، لأن للعقل استخداماته المؤذية أيضاً، وأمام ضرورة وعي مدى التهديد الصهيوني وخطورته. أحال في الأمر الأول على الذات الفلسطينية المفكّرة العاقلة الواجب وجودها، التي عليها أن تستنهض إمكاناتها العقلية والأخلاقية، ذلك أن السياق لم يكن يسمح برابطة قومية يعوّل عليها، ولا برابطة دينية يمكن الاطمئنان إليها، فالدولة العثمانية المسلحة كانت مثقلة بأمراضها، وبقية الدول الإسلامية كانت مستعمرة أو شبه مستعمرة. أما الأمر الثاني فتأمل التهديد الصهيوني المنظم المجهتد الواعي لأهدافه، إذ دور المستوطنة اليهودية اقتلاع قرية عربية مجاورة، وإذ دور المعرفة الصهيونية أن تغلق أمام الفلسطيني سبل المعرفة والتأمل والاستقرار.

وصل الخالدي، بشكل صريح مضمر، إلى فكرتين، تقول الأولى:يستيقظ الوعي الفلسطيني حين يفكر الإنسان الفلسطيني، نظرياً وعملياً، بالأسباب المادية المشخصة التي قادت إلى ضعفه، وبالأسباب الموازية التي أمنت قوّة عدوه. فلا وجود لفلسطيني إلاّ في مواجهة الصهيوني , ولا وجود لإجابة فلسطينية إلاّ إذا كانت رداً على سؤال صهيوني. والأمر في الحالين مرتبط أشد الارتباط بوجود الإنسان الفلسطيني أو بعدم وجوده. وتقول الفكرة الثانية: يشتق أفق المجتمع الفلسطيني من قدرته على تجديد ذاته، وتحديد الأدوات والمناهج التي يفرضها التجديد، بعيداً عن أحلام بلاغية تستنجد بالماضي وبقوة الحق المنتصر، بل إن هذا المجتمع، الموزّع على فئات مختلفة لا يصبح مجتمعاً، بالمعنى المادي لا المجازي، إلا انطلاقاً من تعيين المصالح الوطنية مرجعاً للجميع. فقد كان في المجتمع الفلسطيني العثماني ما يشير إلى أنه جملة مجتمعات، أو جملة جماعات، تتوزّع على القرى و«المدن» والطوائف والعائلات.

درس الخالدي تاريخ اليهود واشتق منه، رغم الارتباك، السياسة الصهيونية، التي تحدّد هدفاً وتعمل على تحقيقه. جمع من حيث هو مثقف تنويري بين السياسة والمعرفة التاريخية، إذ لا سياسة من دون تاريخ واضح تستند إليه. وسواء جاءت الفكرة الصهيونية انعكاساًُ لقرن قومي أوربي، أو تطويراً نوعياً لمشاريع استعمارية استهلها الفرنسي بونابرت، فالأساسي في خطاب الخالدي معرفة الأنا على ضوء معرفة الآخر، ومعرفة الآخر كمبتدأ لتحديد أهداف الأنا. تضمن الخطاب، بوضوح كامل أو مجزوء، الإشكالية التالية: جاءت قوة التجمعات اليهودية المتعددة، التي لم تشكّل مجتمعاً يهودياً في فلسطين بعد، من قوة المشروع السياسي الذي يقودها، وجاء ضعف المجتمع الفلسطيني من ضعف الحركة السياسية في فلسطين.

إن أفكار الخالدي عن وحدة السياسة والتاريخ واضحة في مجال ومرتبكة في آخر: فهي واضحة في المجال اليهودي إذ هيرتسل، الذي لا يعيش في فلسطين، يعمل على إقامة وطن يهودي في فلسطين، وهي مرتبكة في المجال الفلسطيني، لأن المرجع السياسي المفترض الذي يعيش في فلسطين، لا يعي تماماً مشروع هرتسل وغاياته. والتاريخ الواضح هو تاريخ فلسطين العثماني، الذي أنتج مجتمعاً ضعيفاً، لا يعرف من الحياة السياسية إلاّ القليل.

والسؤال المضمر هو التالي: كيف يمكن بناء مشروع سياسي وطني في مجتمع يفتقد شروط الحياة السياسية؟ يحمل الجواب وجهين: دور النخبة المثقفة، وهي محدودة جداً على أي حال، دور المعرفة والمدارس في استنهاض المجتمع والإعلان عن المخاطر. والمتبقي في الحالين: الأمل والتبشير بالروح العلمية. وإذا كان الأمل يتلامح في فترة ويخبو في أخرى، فإن التصوّر العلمي قابل للتراكم، حتى لو كان التراكم بطيئاً. ذلك أن ألوان الشجاعة والتضحية والفداء عقيمة وشديدة العقم، إن لم تنطلق من تصور عقلاني يعرف الوسيلة والهدف والممكن وما هو غير ممكن.

لايزال الشعب الفلسطيني، ربما، يواجه بشكل أو بآخر بعض الأسئلة الصعبة التي لمسها الخالدي: كيف ينتج «المجتمع الضعيف» سياسة قوية؟ ما الذي يضيفه التهديد الخارجي المتواتر إلى مجتمع محاصر؟ وهل يستطيع المجتمع المحاصر التقليدي أن يفك حصاره بأدوات وتصوّرات تقليدية؟ وهل يستيقظ هذا المجتمع بثقافة من داخله، أم أن عليه أن يصحّح ثقافته بثقافة من خارجه؟ أجابت ثورة 1936 1939 عن بعض هذه الأسئلة كاشفة عن الإيجابي والسلبي في الوعي الفلاحي في آن.

ارتبط الخالدي بوطنه، وارتبط أولاً بمدينته القدس، التي كان ممثلاً لها في مجلس «المبعوثان» العثماني، قبل رحيله بسنوات قليلة، كما لو كان معنى فلسطين من معنى القدس، التي هي رمز ومدينة وتاريخ معاً.

2 - خليل السكاكيني: كيف نبني مدرسة وطنية؟:

لم يقم السكاكيني ببحث استقصائي حول المستوطنات اليهودية، لكنه كان مدركاً إدراكاً كافياً قوة المشروع الصهيوني الرامية إلى إلغاء عروبة فلسطين. تجلّى وضوح وعي هذا المثقف، الذي لم تكن تنقصه روح المداعبة، في التزامه بتلك القاعدة الذهبية القائلة: «اعرف نفسك». ولعل هذا الوضوح، الذي لا ضرورة لقوافل الشهداء من دونه، هو الذي أتاح له أن يبصر أمرين، أولهما: أولوية الوطن على العقيدة الدينية، لا بمعنى نبذ العقيدة أو التهوين من أمرها، وهو تصوّر سخيف على أي حال، إنما التأكيد تأكيداً مطلقاً على أن الدين يحض على الخير والتمسك بالكرامة, وأن الإيمان الديني لا خير فيه إن لم يأمر المؤمن بالدفاع عن وطنه. وبداهة فإن أولوية الوطن على العقيدة، بالمعنى المشار إليه، تقضي بنبذ التناحر الطائفي، لأن الانصراف إلى الطائفية انصراف عن الهاجس الوطني، مآله إضعاف الوطن ونصرة أعدائه. تجلّى الأمر الثاني في رؤية العلاقة العضوية بين الصهيونية والاستعمار البريطاني. فعلى خلاف كثيرين مايزوا بين الصهاينة والإنجليز واعتقدوا أن بين الطرفين اختلافاً كبيراً، رأى السكاكيني العلاقة بينهما من دون أوهام.

خليل السكاكيني (1787 1953) مسئول ثقافي فلسطيني شارك في العمل الوطني الفلسطيني وعرف وجوهه كلها، قبل عام 1948، ومات منفياً في القاهرة. ومع أن الحديث عن المثقف، أياً كان، يجعل الفكر الساذج يسأل: ما هي كتبه؟ فإن كتاب خليل السكاكيني الأكبر هو حياته، التي كرّسها من أجل الوطن، وأقامها على مجموعة من القيم الأخلاقية النبيلة. فقد تمرّد على كنيسته الأرثوذكسية حين رأى أنها خاضعة للإكليروس اليوناني، واستقال من عمله كموظف كبير في التعليم عام 1920 احتجاجاً على المندوب البريطاني هربرت صموئيل، الذي كان صهيونياً خالصاً, وذهب إلى مصر باحثاً عن عمل, ولم يعد إلى عمله إلاّ بعد خمس سنوات، أي بعد رحيل صموئيل، وعاد واستقال مجدداً من عمله في الإذاعة عام 1936، حين سمع في غرفة مجاورة مذيعاً يهودياً يقول: «هنا أرض إسرائيل».

جعل السكاكيني من الثقافة ممارسة ومن الممارسة ثقافة: فهو الخطيب الجماهيري وعالم اللغة والأديب والصحفي ومؤلف كتب اللغة العربية المدرسية الأكثر شهرة في فلسطين, وخارجها ربما. إن حقيقة المثقف قائمة فيما يكتب، وحقيقته الأكبر فيما يفعل بعد أن يكتب، بعيداً عن بشر يكتبون ويصرخون وينقدون، ويضعون ممارساتهم في مكان آخر . لم يعرف السكاكيني الازدواجية وعاش واضحاً. وإذا كان وعيه الوطني قد جاء من ارتباطه العملي بالكفاح الوطني، فإن نزاهته الفكرية صدرت عن تحزّبه للمصلحة الوطنية، لا غيرها.

قال مرة: «أكاد أن أكون زعيماً للحركة الوطنية وأنا في بيتي»، مشيراً إلى الاحترام العام الذي حظي به. لكنه كان يفضّل أن يقول: «ما أنا إلاّ معلّم». وواقع الأمر أن السكاكيني زاوج بين أمرين: فهو معلّم كرّس كل حياته للتعليم ورأى في المدرسة الحديثة «مصنعاً للرجال»، وهو مثقف نقدي بامتياز: نقد الوجوه السلبية في المجتمع الفلسطيني: الطائفية، والتعارض بين أهل القرى وأهل المدن, والعصبية العشائرية والأسرية. وتقدم مذكراته النادرة، المعروضة في مجلدات عدة، صورة عن الأمراض التي كانت تفتك بالشعب الفلسطيني يوم سقوط فلسطين.. ونقد أيضاً الحياة السياسية المريضة، التي «تضع مصلحة العائلة فوق مصلحة الوطن«, وتلك القائمة على النفاق والكذب: «يقولون للناس صباحاً غير ما يقولونه لأعداء هؤلاء الناس مساء».

ما هو تعريف المثقف الوطني كما مارسه السكاكيني؟

إذا كان موقف المثقف يتعيّن باقتراح فكري ينشد المصلحة الوطنية، فما هو الاقتراح الوطني الذي قدمه السكاكيني؟ الاقتراح الذي التزم به ودافع عنه طيلة حياته هو: المدرسة. غير أن هذه المدرسة لا تشبه غيرها لأكثر من سبب: فهي ليست معنية كثيراً بمحاربة الأمية وحدها، فإلغاء أمية القراءة والكتابة يمكن أن يقود إلى أميّة أخرى أسوأ وأعتى، لأن منتوج القراءة مرتبط بموضوع القراءة وبالوعي القارئ. وهي ليست معنية بالترويج لـ «ثورة السلاح»، بل لثورة معنوية أخلاقية تعرف أن قيمة السلاح من قيمة حامله. وهي ليست امتداداً للمدرسة التقليدية، التي تفصل بين مواضيع الكتب ووقائع الحياة، ذلك أن المدرسة الصحيحة هي التي تسائل وقائع الحياة وتجيب عن أسئلتها. وبسبب ذلك كانت مدرسة السكاكيني تبدأ وتنتهي بالإنسان التلميذ، مشدّدة على الاعتراف به كشخصية حرة مستقلة مليئة بالإمكانات لا تختصره المدرسة إلى آلة صغيرة للتلقين والاستظهار، بل تعمل على إيقاظ إمكاناته دون قمع أو قهر. فعلى خلاف القاعدة القائلة: «مَنْ علّمني حرفاً كنت له عبداً»، قالت مدرسة السكاكيني بقاعدة أخرى: «من علّمني حرّرني، ومن حرّرني ساعدته على توسيع أفق حريته». فالمدرسة التي لا تعلّم التلميذ معنى الحرية مدرسة للعبيد، حتى لو كانوا عبيداً يحسنون القراءة والكتابة.

ألغت مدرسة السكاكيني مبدأ الفرق وقالت بمبدأ المساواة: فالتلميذ هو المثقف الوطني الذي ينقد ما يعوّق بناء سياسة وطنية وتطبيقها. يفترض التعريف أن المثقف عارف بمعنى السياسة، وأنه مؤهل لتقديم اقتراحات سياسية وأنه، في المقام الأول، يبدأ وينتهي بالمصلحة الوطنية. بيد أن هذا التعريف عام وشديد العمومية، صالح لكل عمل سياسي دون تمييز أو تخصيص، وهو ما لا يأتلف مع الوضع الفلسطيني، الذي يحتاج إلى تعريف آخر، تحتل الصهيونية فيه موقعاً مركزياً. لذا يمكن القول: المثقف الوطني، هو الذي ينقد مجتمعه كي يصبح قادراً على مواجهة المشروع الصهيوني.

الاعتراف بالإنسان فرداً عاقلاً ومستقلاً، وتأكيد مبدأ المساواة بين البشر، وأولوية المنهج على موضوع المعرفة. هذه هي مبادئ المدرسة الوطنية التي قال بها السكاكيني، الصالحة في مجال التعليم والسياسة والكفاح الوطني. تمكن قراءة المقولات الثلاث هذه على مستويين: مستوى أول نظري مجرّد، ومستوى آخر يضيء زمن المربي الفلسطيني والأزمنة اللاحقة.

يقرّر المستوى الأول ما يلي: إن وجود الفرد الحر المستقل بقراره شرط الوعي والعمل السياسيين، ذلك أن الجماعة المتجانسة، المكتفية بمرجع أعلى وحيد، نقض للفرد وللسياسة معاً. فالفرد الحر يعني النقد والمبادرة والاختيار, والسياسة تعني نقد الواقع القائم واقتراح بديل مغاير، يضمن حراكاً شعبياً وبحثاً عن الجديد وما يسند الجديد. فلا سياسة إلاّ بأفراد يدركون أن في الواقع القائم إمكانات متعددة لتوليد واقع أخر أكثر تقدماً. وعلى هذا فإن السياسة، وهنا المقولة الثانية، فعل ديمقراطي قوامه المساواة بين البشر، مادام أن لكل فرد حر من الحقوق والواجبات ما يساويه بفرد حر آخر، يشاركه التفكير وتحديد الغايات. وتقول الثالثة: تأتي أهمية الموضوع المدروس من العقل الذي يقوم بدراسته، لا من الموضوع في ذاته، مهمّاً كان أو محدود الأهمية. ولهذا أكّد السكاكيني على شخصية التلميذ وقدرته على التمثّل، لا على قدرته على «الحفظ»، ذلك المعيار التقليدي الذي يشلّ عقل التلميذ وهو يثني عليه ويمتدح قدرته على «الاستظهار»، أي تكرار ما قال به غيره.

لم تكن تلك المقولات الثلاث، التي حاول السكاكيني بالاعتماد عليها إنشاء مقاومة ثقافية وطنية، إلاّ رداً على تربية تقليدية تجهض الجديد وتوطّد القديم. فكل ألوان الجهوية والطائفية والعشائرية، التي شكا منها السكاكيني في صفحات كثيرة من مذكراته الواسعة، اعتمدت على إلحاق الفرد بالجماعة، إذ الفرد امتداد لعائلته، وإذ عائلته امتداد سلبي لعائلة أخرى أكثر قوة وسطوة. والنتيجة هي اختصار إرادة المجموع إلى إرادة مجموعة من «المتزعمين»، أو الوجهاء، أو القادة الزائفين، الذين هم «وسطاء» يبيعون المصالح العامة ويشترون مصالح خاصة.

وإذا كان الخالدي قد قرأ «تاريخ اليهود الحديث»، ووصل لاحقاً إلى معنى المشروع الصهيوني، فقد قرأ خليل السكاكيني، الفرق بين المجتمع الفلسطيني القائم والمجتمع المطلوب معتمداً على التحليل العقلاني، ومازجاً التحليل أحياناً، ببعض الانفعال الوطني، ذلك أنه لم يكن يراقب الحركة الوطنية بل كان مشاركاً فيها.

كان السكاكيني يقول: «لو ترك الناس جميعاً القدس لبقيت فيها وحدي»، ولهذا عاش في القدس وحفظ تفاصيلها، وتجول بين المقاتلين الذين دافعوا عن القدس قبل سقوطها.

---------------------------

أين القمرُ المعصوبُ العينين يساق...؟
وسط السّحبِ الفاغرَةِ الأشداق،
أسوار تفتحُ وظلالٌ عارية
تركض، أبوابٌ
تذبح خلف الأبواب،
الصرخةُ علم خفّاق
الصرخةُ.. أوراق
تسقط من شجرِ اللّحم،
غصون.. وثمار

معين بسيسو

 

 

 

فيصل دراج