أوربّا تعود إلى القدس

أوربّا تعود إلى القدس

غاب الصليبيون عن القدس سبعمائة عام، ولكنها لم تغب عن ذاكرتهم. بقيت القدس الإسلامية المسيحية تمثل لهم سيطرة المسلمين والشرقيين بصفة عامة على هذه المدينة المقدسة. ورأوا أن القدس والأراضي المقدسة لا تنتمي إلى أهلها العرب المسلمين والمسيحين بل إلى أوربا الغربية.

ظل الشعور العنصري المتعصب متأصلا في وجدانهم بعد أن تقمصت الصهيونية، هذا الشعور الدفين، وحُولته الى مصلحتها. بدأ هذا الغزو الصليبي الثاني للقدس والأراضي المقدسة تحت ذرائع مختلفة، أولها: زيارات للقساوسة والحجاج الى القدس، وزيارات الرحالة والمستكشفين، وتقارير الجواسيس والمسّاحين. ثانيها: استغلال ضعف الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، ومطالبتها بالانفتاح على العالم الأوربي، الذي نشأت عنه قنصليات أوربية في القدس، تحت ذريعة حماية الرعايا العثمانيين، وهم عرب أقحاح، من القهر العثماني، بحجة أنهم من أهل الذمة أي هم عرب مسيحيون من طوائف مختلفة.

في يوم الجمعة 15 يوليو 1099 اقتحم «تانكرد النورماندي» المسجد الأقصى أثناء الصلاة، وذبح بالسيف كل المصلين، ونهب الذهب والفضة التي كانت توشي قبة الصخرة. لكن بعد ذلك بمئتى سنة، وبالذات في 15 أغسطس 1291، خرج آخر جندي صليبي من فلسطين، ولم يعد للفرنجة موطئ قدم، ولا دار واحدة في الأرض المقدسة.

لكن بداية القرن التاسع عشر شهدت هجوماً سلمياً من جماعات كبيرة من الزوار المرغوب فيهم وغير المرغوب فيهم. وكانت زياراتهم للأرض المقدسة تمر دائماً بالقدس، ويطلع عليهم بهاؤها عند شروق الشمس أو غروبها عندما يعتلون إحدى قمم الجبال المحيطة بها. لم يكونوا يحملون سيوفاً، ولكنهم كانوا يحملون أقلاماً يسجلون فيها الشهادة والمشاهدة، وأوراقاً يرسمون فيها الخرائط التفصيلية، ويحملون في عقولهم فوق ذلك فكرة ثابتة، أن ما فقد بالحروب الصليبية يجب أن يعود إلى أوربا الاستعمارية.

هنا نجد وصف سيتزن (Seetzen) للأرض المقدسة، ونجد كتاب إدوارد روبنسون(Edward Robinson) بعنوان «الأبحاث الإنجيلية في فلسطين» الذي كان مرجعاً مهماً لمدة قرن من الزمان. أما دليل بديكر (Baedeker) الذي كانت له شهرة ذائعة كدليل سياحي لأماكن كثيرة في العالم، فإن طبعته الخاصة بالقدس عام 1876 بقيت مرجعاً مهماً للرحالة حتى احتلال اللنبي القدس عام 1917.

لكن النهضة العلمية في أوربا قد حولت جهودها لاستعادة القدس من النزعة الدينية المتطرفة إلى جهد علمي منظم، عن طريق رسم الخرائط والتنقيب عن الأثار ودراسة العادات والتقاليد لشعب فلسطين، وهذا كله ليس حفاظاً عليها أو تقديراً لها، ولكنه جزء أساسي من جهد عام شامل غرضه الإثبات العلمي على أرض الواقع لقصص التوراة والإنجيل، وما يتبع ذلك من أن أهل هذه البلاد الحقيقيين ليسوا عرباً، وإنما هم يهود، وأن فلسطين هى في الواقع إسرائيل القديمة. لكن أكثر الأعمال قيمة اليوم هى الخرائط التفصيلية التي بقيت لنا، تصور القدس في مراحلها المختلفة. وهى اليوم رغم عنصرية واضعيها تبقى مرجعاً مهماً تاريخياً للتطور العمراني في القدس منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم.

في عام 1818 أصدر الألماني زيبر (Sieber) خريطة ابتدائية للقدس تبعه كاتروود (Catherwood) عام 1833 وتبعته الأدميرالية البريطانية عام 1844. لكن الهولندي فاند ديفلد(Van de Velde) أصدر خريطة مفصلة لفلسطين تمتد من العريش جنوباً الى بيروت ودمشق شمالاً، بها تفصيل لمدينة القدس. وتطورت الأمور بسرعة بعد ذلك وجاء تشارلز ولسون (Charles Wilson) البريطاني الى القدس عام 1865 وأصدر أول وأهم وأدق خريطة للقدس بمقياس 1 : 10.000 و 1 : 2.500 لاتزال الى اليوم أدق خريطة للقدس في ذلك القرن. ومن المدهش حقاً أن متصرف القدس عزت باشا ساعد ولسون كثيراً على القيام بمسح القدس، اعتباراً لأهمية هذا العمل الهندسي الدقيق. قام ولسون بعملٍ مضنِ وشاق، إذ لم يكتف بمسح وجه الأرض بل نزل إلى عمق الآبار، ومشى في الأنفاق والكهوف الكثيرة تحت القدس ورسمها. وعندما احتاج الانتداب البريطاني عام 1937 لعمل خريطة جديدة للقدس، لم يجد أدق من خريطة ولسون، فأضاف عليها القليل مما استجد.

فتحت هذه الأعمال العلمية شهية استكشاف القدس مرة أخرى، فاجتمع فريق من القساوسة والمؤرخين والضباط وعلماء اللاهوت والتوراة، وبين هؤلاء عدد كبير من اليهود في مايو 1865، وأنشأوا جمعية أهلية اسمها «صندوق اكتشاف فلسطين» (Palestine Exploration Fund) برئاسة رئيس أساقفة يورك وبرعاية الملكة فيكتوريا. كان الغرض المعلن لهذه الجمعية هو «استكشاف الآثار والجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي لفلسطين». وهو غرض يبدو بريئاً في ظاهره، ولكن المقصود كما تبينه المراسلات اللاحقة هو أين يقع المعبد اليهودي أو «هيكل سليمان»؟ أين مدينة داود؟ هل موقع كنيسة القيامة صحيح؟!

وظهر هذا الهدف الحقيقي جلياً، ليس عن طريق المراسلات ومحاضر الاجتماعات لهذه الجمعية فحسب، بل أصبح معلناً عندما صدر كتاب «استرجاع القدس» عام 1871 لمؤلفه كلود كوندر(Claude Conder).

بعثة استكشافية

أرسل صندوق اكتشاف فلسطين بعثة مساحية الى فلسطين عام 1871، وبقيت أربع سنوات. وخلال هذه الفترة أصدرت 26 خريطة مساحية بمقياس 1 : 63.000 شملت المنطقة من صور الى غزة، وبينت عليها 12 ألف اسم مدينة وقرية ومكان وأثر ديني مثل الأضرحة والمقامات، وأصدرت أيضاً عشرة مجلدات منها جزء كامل عن القدس، وجزء عن نباتات وحيوانات وطيور فلسطين، وجزء عن تفصيل الآثار التاريخية لكل بقعة في فلسطين، وفهرس جامع بالإنجليزية والعربية لأسماء الأماكن. أُخذت نتائج الدراسة والمساحة الى لندن لتمحيصها ودراستها وتحقيقها، وصدرت طبعتها الأولى عام 1881. يدهش المرء للقيام بهذا العمل الدقيق في القرن التاسع عشر، ويعجب بدقته وشموله، أخذاً في الاعتبار بساطة الأجهزة العلمية في ذلك القرن. وقد بينت دراستنا لهذه الخرائط القديمة حسب الأساليب الفنية الجديدة أن أماكن القرى في تلك الخرائط منحرف عن مكانها الحقيقي بحوالي نصف كيلو متر في اتجاه الشرق، وأن الكثير من تعريب الأسماء خاطئ وهذا متوقع ومقبول. لكن اللافت، في هذا العمل العلمي الكبير أنه لم يعط أدنى اهتمام لأهل فلسطين، الذين عاشوا على أرضها هم وأجدادهم قبل ظهور المسيح وبعده. وعلى الرغم من إسراف هذا العمل في كتابة التفاصيل الدقيقة لكل بقايا عمود روماني ملقى في الرمال، لم يكتب إلا أقل القليل عن أهل البلاد الأحياء، وعن حياتهم، وعن تعلقهم بأرضهم. وبقيت الإشارة لهم مقصورة على الاتصال الهامشي بهم، فمنهم كان الطباخ والمترجم والحارس والمكاري الذي ينقل متاعهم على دوابه.

كان من بين أعضاء فريق المساحة شاب تخرج حديثاً من مدرسة المساحة في وولتش، وكان مغروراً ومتعجرفاً وممثلاً حقيقياً لعقلية الاستعمار البريطاني في ذلك الوقت. في يوم السبت 10 يوليو 1875 نصب فريق المساحة خيمته قرب مدينة صفد، ونظر الأهالي بارتياب الى هؤلاء الفرنجة الذين جاءوا ليأخذوا معلومات عن بلادهم. فقذفوهم بالحجارة، وأصاب حجر جبهة هذا الضابط الشاب، فتوقف العمل وقدم الفريق شكوى الى القنصل الإنجليزي في بيروت، الذي بادر بدوره الى الاتصال بالوالي العثماني، وبعد إقناعه برشوة مناسبة أصدر الوالي أمره باحتجاز جميع أهالي صفد، وفرض غرامة عليهم، وسجن زعماء البلد. هذا الضابط اسمه هوراشيو كتشنر (H. Kitchener) الذي أصبح فيما بعد سردار الجيش المصري، والحاكم الفعلي لمصر، وأخيراً وزير الحرب البريطاني، ولكنه مات غرقاً في الحرب العالمية الأولى.

استمرت أبحاث الآثار بحثاً عن دليل يثبت صحة الكتاب المقدس، وبالتالي إثبات وجود يهودي مستمر في فلسطين، ولكن رغم عمليات التنقيب التي استمرت نصف قرن قبل احتلال فلسطين، وأثناء الانتداب البريطاني لمدة ثلاثين سنة، وستين سنة بعد قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، ومضاعفة عدد علماء الآثار الباحثين، وإنفاق الملايين من الدولارات على هذه الأبحاث، فلم يحدث أن تمكن هؤلاء من العثور على حجر واحد يؤكد حجم مزاعم اليهود في القدس أو في فلسطين بشكل قاطع.

نعود الى كتشنر هذا، فنجده بعد انتهاء دوره في البعثة المساحية التي أرسلها صندوق اكتشاف فلسطين، قد عاد عام 1883 للمشاركة في بعثة جيولوجية لاستكشاف وادي عربة وجنوب فلسطين. وعاد من هذه البعثة الى مصر التي احتلها الإنجليز عام 1882 بدعوى مساندة الخديوي توفيق لإخماد ثورة عرابي باشا وباقي الضباط المصريين الداعين الى حكم وطني في مصر. وبعد ذلك شارك كتشنر في إخماد ثورة المهدي في السودان، وهى ثورة أخرى للوطنيين الأحرار ضد حكم الاستعمار الأجنبي. ولو كان كتشنر حياً لكان بلا شك أول ضابط بريطاني يحتل فلسطين، ويدخل القدس، ولكن هذا الدور وقع على عاتق اللنبي الذي دخل مدينة القدس ماشياً على قدميه في ديسمبر 1917.

الكتب التي ظهرت في هذه المرحلة تشي بالنزعة الدينية المتطرفة نحو القدس. فقد ازدهرت كتب تحمل عناوين مثل «آخر الحملات الصليبية»، تمجد استرجاع القدس الى المسيحية الأوربية الغربية دون الأخذ بالاعتبار تاريخها العربي الإسلامي والمسيحي.

كان من أعوان كتشنر في مصر شاب أرستقراطي متعلم يتقن اللغات العربية والعبرية والتركية واليونانية، وكانت وظيفته في مصر «سكرتير الأمور الشرقية» بما يوازي مرتبة الوزير المفوض للشئون الوطنية لأهل البلاد واسمه رونالد ستورز (Ronald Storrs).

تعين رونالد ستورز حاكماً عسكرياً للقدس في أول عهد الانتداب. وكانت أولوياته تحويل القدس الى مدينة صليبية ويهودية، حسبما يمكن تطبيقه في القرن العشرين. كان مسلحاً بوعد بلفور، وعد من لا يملك لمن لا يستحق، الذي أصبح فيما بعد جزءاً من ميثاق الانتداب. قام ستورز بإدخال اللغة العبرية لغة رسمية لحكومة فلسطين، وقام بتحويل أسماء الشوارع فيها إلى ما يوافق التراث المسيحي الغربي، وأعلى مقام اليهود في مجلس المدينة، وشجع النزعة الأوربية على حساب الطابع العربي الإسلامي المسيحي عن طريق إنشاء ما سمّاه بجمعيات ثقافية، وأدخل في مقررات الدراسة التاريخ الروماني، وتاريخ بريطانيا العظمى، وكذلك اللغة اللاتينية التي فرض على الطلاب العرب تعلمها، وحذف من مناهج الدراسة ما يثبت التاريخ العربي على وجه سليم. وفي نفس الوقت وبمساعدة من الصهيوني هربرت صامويل أول مندوب سام في فلسطين، اعترف بنظام مستقل للتعليم اليهودي دون رقابة على مادته، ووضع صامويل نحو مائة قانون يسهل استيلاء اليهود على أراضي فلسطين، ويعترف بالوكالة اليهودية كممثل رسمي لليهود المهاجرين الى فلسطين، ويعترف بمجلسها التشريعي كبرلمان لليهود. كما وافق على نظام بنكي منفصل لليهود، ونواة لوزارات يهودية للأشغال والكهرباء والمياه. ولكن أخطر أعماله هو إنشاء وتدريب وتسليح مليشيا لليهود تحت اسم مضلل هو حراس المستعمرات، الذي أصبح فيما بعد جيش الهاجاناة الذي احتل فلسطين عام 1948، وطرد أهلها منها فيما عرف بالنكبة.

نشاط القنصل الإنجليزي

نعود إلى القرن التاسع عشر. حينما توغل النفوذ الأوربي في الأرض المقدسة، بحجة حماية الأقليات غير المسلمة (أهل الذمة)، كان أول هذه الاختراقات إنشاء قنصلية روسية لحماية العرب من الطائفة الأرثوذكسية في يافا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وتبعها بعد ذلك إنشاء القنصلية البروسية عام 1838، وعلى رأسها القنصل النشيط شولتز. أما الكاثوليك فكان لهم وجود سابق بقرن من الزمان في لبنان، حيث تحول كثير من الموارنة إلى الكاثوليكية. وفي عام 1845 وصل إلى القدس القنصل الإنجليزي جيمس فن وزوجته، ولم يجد أمامه من أهل الذمة لكي يحميهم إلا اليهود، وكانوا قلة من الفقراء الذين استقبلوا المساعدات البريطانية بكل سرور، إلا أنه لم يتحول الكثير منهم إلى المسيحية، التي كانت هدف القنصل الإنجليزي.

ترك هذا القنصل الإنجليزي لنا عدة كتب عن زياراته لكل بقعة في فلسطين، كما تركت لنا زوجته مذكراتها عن حياته في فلسطين كتبتها بعد وفاته. هذا القنصل الإنجليزي كان مسيحياً متعصباً، مؤمناً بالتوراة كسجل تاريخي صادق، ولو عاش إلى اليوم لكان صهيونياً بالدرجة الأولى. وبالرغم من أنه دُهش في جولاته من خصوبة الأراضي، ونشاط المزارعين الفلسطينيين، وجودة الفواكة والثمار التي زرعوها، واستقبالهم له بكل حرارة وكرم، إلا أنه وصفهم بألفاظٍ عنصرية، وتمنى، وهو يجول في تلك السهول والتلال الخصبة، أن يختفي هؤلاء الفلسطينيون ويذهبوا إلى الجحيم، ويأتي مكانهم الإسرائيليون القدماء «ليستعيدوا أرض أجدادهم». ولم تكن هذه نزوة عابرة، فلقد أتت إلى فلسطين بعد ذلك جمعيات تبشيرية وجمعيات علمية، لدراسة الأرض المقدسة. أما الجمعيات الدينية فكان أهمها جماعة الهيكل (Templers). وهي جماعة أغلبيتها من الألمان. ورغم أنها لم تسكن القدس، إلا أن محور اهتمامها في فلسطين هو القدس. ولقد أنشأت مستعمرات لجماعاتها في سارونا وفلهلمينا وحيفا، يعيش فيها مجتمعهم المغلق، ولا يتعاملون مع أهالي البلاد، إلا بأقل القليل. على أن مشاريعهم الزراعية لم تكن استيطانية أو سياسية، بل كانت مثل الجمعيات الدينية التي هاجرت إلى أمريكا فاستوطنت في تجمعات خاصة بها مثل الإيمش والمرمون. ومن الجدير بالذكر أن الصهيونيين الأوائل الذين بدأوا الاستيطان في فلسطين، لم يكونوا على دراية بالزراعة والعيش من خيرات الأرض. ولذلك فإنهم قلدوا هذه المستعمرات الألمانية، من حيث تصميمها وطريقة معيشتها، مع الفارق الكبير بالطبع أن هذه المستعمرات الصهيونية تحولت إلى قلاع عسكرية، تخزن السلاح وتدرب الجنود استعداداً للانقضاض على فلسطين.

ولم تكن كل هذه الجمعيات الدينية منعزلة، فقد تأسست في القدس جمعية أمريكية، عرفت باسم امريكان كولوني (American Colony)، حيث يوجد الفندق المعروف بهذا الاسم اليوم. أصل هذه الجماعة من السويد، توطنوا في شيكاغو بأمريكا، ثم قرروا الهجرة إلى القدس بوصفهم مواطنين أمريكيين. وكانت لهم أثار طيبة، فقد أنشأوا المستوصفات للرعاية الطبية، وساعدوا في إنشاء المدارس، وتركوا لنا إرثاً رائعاً من الصور الفوتوغرافية للحياة في فلسطين. وكذلك قامت جمعية الأصدقاء الأمريكية المعروفة باسم الكويكرز بإنشاء مدرسة الفرندز في رام الله. وهذه خرجت أجيالاً كثيرة من الشباب والشابات الفلسطينيين، الذين أصبح لهم دور مهم في المجتمع. ولاتزال الكويكرز إلى يومنا هذا، تقوم بدور ممتاز في تقديم خدمات للمجتمع الفلسطيني، بل وأكثر من ذلك، تقوم بالدعوة للتضامن مع الشعب الفلسطيني واسترجاع حقوقه، في ميدان السياسة الأمريكية من مقرها في فيلادلفيا.

ومن أهم الجمعيات العلمية التي بقيت في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى، الجمعية العلمية الألمانية. وجاء في حولياتها تقارير مفصلة عن الأرض المقدسة وأهلها. ونذكر على الأخص المؤلف الضخم الذي كتبه جوستاف دالمان (Gustav Dalman) عن كل صغيرة وكبيرة في حياة القرية الفلسطينية، ومعيشتها وتراثها الشعبي مع صور ورسومات لوسائل الحياة. وفي قرية أرطاس القريبة من القدس عاشت باحثة سويدية، وكتبت كتاباً مفصلا عن حياة أجيالٍ من هذه القرية، منذ ولادتهم إلى أن تزوجوا مع وصف لتركيبة القرية الاجتماعية.

غير هؤلاء كان هناك مئات من الرحالة والقساوسة والمغامرين والجواسيس وضباط المساحة، الذين هبطوا على تلك المدينة المقدسة، وتركوا أثاراًً إيجابية أو سلبية، ولكنها ملأت خيال العالم الغربي بسحر القدس، وعطر تاريخها ورمزها الديني.

لقد عاشت هذه الأفكار التي جلبها هؤلاء كلهم في عقول الأوربيين، كأنما استعاضوا عن الاحتلال الصليبي قبل سبعمائة عام باحتلال فكري عقائدي، ظل ملتصقاً في عقولهم إلى يومنا هذا. وهو الأمر الذي أدى بجماعات أمريكية بروتستانتية متطرفة، إلى الانتماء إلى الصهيونية كفكر ديني يجب الالتزام به. ورغم أن هذه الأفكار الدينية في الذهن الغربي بقيت عاطفة وتراثاً، إلا أن القدس وأهلها وسائر أهل الأرض المقدسة، قد ابتلوا بلوى كبيرةٍ حينما حول الصهاينة هذه الأفكار إلى مبادئ سياسية، وخطط عملية ودعم مالي وعسكري وسياسي لسياسة إسرائيل في الاحتلال والاستيطان وطرد أهل الأرض الشرعيين. وأعظم هذه المصائب بدأت عام 1917، عندما أعطت بريطانيا وعد بلفور وفتحت أبواب فلسطين لاستعمار أوربي جديد، قتل البشر ودمر الحجر ومحا الذكر. هذه أكبر المحن التي لم يمر على فلسطين مثلها منذ أربعة آلاف عام، ولكنها لابد أن تزول.

 

 

 

سلمان أبوسته 





 





تبهر القدس زائريها عندما يطلون عليها من وراء الجبال وهذه القدس كما رآها تريسترام إيليس عام 1899





الصورة المشهورة لرئيس بلدية القدس سليم الحسيني حاملاً علماً أبيض لتسليم مدينة القدس في 9 / 12 / 1917 لأول جندي بريطاني





في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بدأت أفواج السياح الأوربيين تتدفق على القدس يحملون معهم كاميراتهم الحديثة آنذاك وهذه إحدى صورهم خارج أسوار القدس عام 1872





رسم هندسي لقبة الصخرة من الداخل عام 1847